إلى روح عائلتي العزيزة...
عمر كامل، طويل نوعاً ماً، يمتد لـ25 عاماً تقريباً، لعب عقلها معها خلاله لعبةً ماكرةً؛ أوهمها طوال الوقت بأنها فقدت أشياءً/ أشخاصاً عزيزةً/ عزيزين. ويا لشطارتها! تخطتهم بكل سرعة وبساطة. وفجأةً! وفي لحظة واحدة، تفقد شيماء كل شيء، كل شيء حرفياً، ومن كثرة ما فقدت شيماء لا يمكنها إحصاء فقدها في قدر بعينه.
شيماء فتاة ترى نفسها صغيرةً جداً عمراً، وراشدةً جداً فكرياً، وتمتلك حكمة الأربعينات، ونشاط الثلاثينات، وحماسة العشرينات، وطفولة ما دون ذلك. لم ترَ يوماً عقبةً واحدةً أصعب من قدراتها، فـ"شيماء مفيش حاجة متقدرش عليها"... كلمات رُددت على مسمعها بشكل شبه يومي في طفولتها من والدتها، حتى صدقت وأصبح أمراً واقعاً. لكن شيماء لم تكن تدري -ووالدتها كذلك- أن كل هذا كان إعداداً لها للموقف الكبير، الموقف الكبير الذي ستفقد فيه كل شيء في لحظة.
أما الآن، فلا تخشى شيماء فقد أي شيء. لأنها ببساطة متأكدة من أنها فقدت كل ما يمكن فقده، وتالياً لا داعي للخوف.
أنا شيماء العيسوي وفقدت كل شيء في لحظة واحدة
لا أذكر الكثير. كل ما أذكره هو مباراة تنس جماعية مع أخي وزملاء العمل، ثم مشروب مثلج وذهاب سريع إلى المنزل، ومحادثة لطيفة للغاية مع أخي مليئة بالحنان والأمان والرفاهية التي يوفرها لي كعادته، ثم نوم عميق، ثم خبط شديد على باب المنزل، وصراخ وصياح: "اصحوا البيت بيقع". تخبط وخوف، ورعب وقرارت سريعة، وحركات متخبطة من الجميع، وضبابية شديدة سببها دواء قوي للحساسية، ووجوه أعرفها جيداً لكنني لا أستطيع تمييزها بسبب الظلام والدوار والرعب.
وجه أخي الحبيب على الأخص... أراه يوميء برأسه ويقول: "اجري يا شوشو وإحنا جايين وراكي"، عقل أملكه يقدّم أفضل ما لديه، يحسب بسرعة الأمور المهمة التي نحتاجها فقط، ويحدد مكانها بدقة، وجسد يستجيب بدقة لكل أوامر العقل ويحصل علي الأشياء لنكون أول الواصلين إلى باب الشقة حتى لا أكون العقبة أو السبب في موت أحد من أسرتي العزيزة. انسجام تام للعقل والجسد بتوجيه من غريزة البقاء التي فُعِّلت لتُخرج أفضل ما فيهم.
لا أذكر الكثير. خبط شديد على باب المنزل، وصراخ وصياح: "اصحوا البيت بيقع". تخبط وخوف، ورعب وقرارت سريعة، وحركات متخبطة من الجميع
خمسة أدوار طويلة جداً وقصيرة جداً، تلك التي قطعتها في وقت ضئيل وطويل جداً. وصلت إلى مدخل العقار، وانهارت أمامي قطعة ضخمة من المنزل. نجوت منها عند آخر لحظة. أخرج، وتلحقني قطعة أخرى لا تقل حجماً عن مثيلتها. يستقبلني الجيران ويطمئنوني. أبتعد عن المدخل 10 أمتار على الأكثر، وأراقبه بعين صقر، ويحسب مخي كل ثانية تمر ويهدّئني أن الثانية القادمة ستشهد خروج عائلتي سليمةً، على الأقل أخي سيكون أول الخارجين -بحكم سنّه الصغيرة ولياقته البدنية مقارنةً بالباقين- بالتأكيد سيخرج أي منهم حالاً، حتى لا يتركوني وحيدةً في الشارع فجراً وسط كل هؤلاء الأغراب، نصف عارية. الثلاثون ثانيةً التي قضيتها مرت عليّ دهراً. فجأةً! ينهار العقار مثل جبل ثلج تعرّض لقرص الشمس مباشرةً، فجأةً وبلا أي مقدمات يذوب العقار أمامي ويملأ التراب الجو كما يملأ حلقي، ورئتيّ وعينيّ، وشعري وملابسي. تلوذ قطّتي -التي أحضرتها معي- بالفرار، وتتبدد آخر فرصة لرؤية عائلتي مرةً أخرى. ينهار العقار أمامي، وتنهار معه حياتي كلها.
الكثير من النظريات، والكثير من التفسيرات لما حدث، والكثير من المواساة والشفقة، وبكاء وعويل، ومشرحة، وصراخ، ومراسم دفن، وعودة إلى منزل جدي حيث يخبرني الجميع أن هذا بيتي الجديد، وتشوّش وسؤالي المُلح لكل من ينظر إلي: "إيه ده؟". لم يستطع مخّي معالجة أنني فقدت كل شيء، واستطاع معالجة كل ما دون ذلك من أمور. ظهرت شيماء جديدة حادة الذكاء، سريعة البديهة، صائبة القرار وصعبة المراس، لكنها مع ذلك لم تستطع معالجة فكرة أنها فقدت كل شيء.
خمسة أدوار طويلة جداً وقصيرة جداً، تلك التي قطعتها في وقت ضئيل وطويل جداً. وصلت إلى مدخل العقار، وانهارت أمامي قطعة ضخمة من المنزل. نجوت منها عند آخر لحظة. أخرج، وتلحقني قطعة أخرى لا تقل حجماً عن مثيلتها
أنا شيماء العيسوي وأشعر بالغضب الشديد
يستنكر سي إس لويس، في مطلع الفصل الثاني من كتابه "قصة فقدان"، تعبيراته الذاتية في الفصل الأول من الكتاب نفسه -ما يُظهر أن فترةً من الزمن امتدت بينهما- عن حزنه لموت زوجته، متجاهلاً آلامها وراحتها المتحققة بالموت. أتساءل من مكاني هذا: هل الموت يضرّ بالشخص الذي انتهت حياته، أم بالمحيطين به؟
عانت والدتي العزيزة من مرض التهاب المفاصل الروماتويدي، منذ أكثر من اثنتي عشرة سنةً تقريباً. ألم صباحي مستمر منذ بداية مرضها، وتورم وصياح من الألم كل ليلة. هل تلك الأمور يجب أن تغيّر وجهة نظري تجاه وفاتها؟ لا قاطعة. فأنا أريد أمي بجواري، حتى وإن كانت قفةً من العظم. ومثلما كانت أمي هي الوحيدة التي صرخت مناديةً عليها بعد انهيار المنزل، ستظل في كل موقف ضاغط هي من أرغب في البكاء والصراخ لأجلها وترديد "أنا عايزة ماما". مع ذلك، يعزّيني قليلاً أن أمي بشكل أو بآخر قد نالت قسطاً من الراحة بعد رحلة طويلة من الألم الخالص. حتى والدي، لقد عاش حياةً طويلةً وذاق من مباهج الحياة حتى شبع وزهد وظل يصف نفسه بأنه قطف ثمرةً من كل شجرة في بستان الحياة، وأنه فقط ينتظر النهاية، وهذا يعزيني جداً على فقدانه.
ينهار العقار مثل جبل ثلج تعرّض لقرص الشمس مباشرةً، فجأةً وبلا أي مقدمات يذوب العقار أمامي ويملأ التراب الجو كما يملأ حلقي، ورئتيّ وعينيّ، وشعري وملابسي
عثرتي الحقيقية هي أخي الحبيب، ملاكي الحارس، مصدر أماني ونعيمي في الحياة. فأخي الشجاع لم يعِش لنفسه بقدر ما عاش لأسرته. ظل يردد: "الإنسان بيعيش علشان يحقق لأسرته مستوى أفضل"، حتى لقي حتفه بشكل درامي شجاع يتسق مع صفاته. نهاية يرضى بها. أنا التي ترفض نهاية القصة. أنا التي تشعر بالغضب من القدر لأنه حرم هذا الملاك من الحياة مبكراً. أشعر بالغضب لأنه لم ينل من ملذات الحياة شيئاً. أشعر بالغضب لأنه لم ينجب الطفلة التي تمنّى أن تشبهني. أشعر بالغضب لأنه أُخذ مني!
أنا شيماء العيسوي وامتلك شخصيتين: ما قبل الفقد وما بعده
كتابة الجزء السابق بأكمله استغرقت مني سويعات قليلة من ليلة لا تختلف كثيراً عن الليالي المليئة بالانهيارات العصبية. على النقيض، استغرق التفكير في محتوى هذا العنوان أسابيع، حرفياً. فإن وصف التغير المصاحب لفقد عزيز -ما بالك بأعزاء- تصعب قولبته في جمل بعينها. تشعر كأن عالمك انقلب رأساً على عقب، مع خوف مستمر من كل الأشياء.
عانت والدتي العزيزة من مرض التهاب المفاصل الروماتويدي، منذ أكثر من اثنتي عشرة سنةً تقريباً. ألم صباحي مستمر منذ بداية مرضها، وتورم وصياح من الألم كل ليلة. هل تلك الأمور يجب أن تغيّر وجهة نظري تجاه وفاتها؟ لا قاطعة
تشعر شيماء بالخوف بشكل مستمر. تخبرها المعالجة النفسية بأن مخّها تأقلم على "حالة النجاة"، فيتعامل مع الأمور بالطريقة نفسها التي تعامل بها في أثناء فرارها من المنزل. ومثلما جرت ساقها بسرعة وذكاء، يتعامل مخّها مع التهديدات والمشكلات بالطريقة نفسها. مع ذلك، ومع دراية شيماء التامة بأنها في أمان الآن، يظل الخوف صاحبها في كل الطرق، ببساطة لأنها تشعر بأن من كانت تحتمي بهم من الحياة بكل ما تحمله من قسوة وأذى مستمر لا ينقطع، قد اختفوا في لحظةً واحدةً، وأن عليها مواجهة كل هذا، وحدها.
مع ذلك، تشعرني المشاركة بجزء ولو بسيط من الراحة. إنها الرغبة الملحة للصراخ بـ"أنا هنا وأتألم حقاً".
في الحقيقة، يوجد نوع واحد من الخوف لا يعرف إلى باب شيماء طريقاً، وهو الخوف من الفقد. الخوف من الفقد الذي تخشاه لدرجة أنها لم تتخيل أبداً أن تفقد أخاها الحبيب، ولا حتى بشكل سريع، ثم تستعيذ من الشيطان، وهذا النوع العالي من الإنكار يأتي مع قدر أكبر من الخوف. أما الآن، فلا تخشى شيماء فقد أي شيء. لأنها ببساطة متأكدة من أنها فقدت كل ما يمكن فقده، وتالياً لا داعي للخوف. خلق منها ذلك شخصاً، شجاعاً، صلباً، حاد الطباع، حكيماً ومسخاً وحيداً يشعر باستمرار بأنه ناقص لا يكتمل.
أنا شيماء العيسوي وليس لدي ما أقوله حقاً
تجاوز هذا المقال الحد الأعلى المسموح به، واضطررت إلى اقتصاص جزء كبير منه. مع ذلك، لا أدري حقاً ماذا أقول؟ ولماذا أقوله؟ هل وُفّقت في صياغته؟ كلها أسئلة يبدو العثور على أجوبة لها درباً يصعب السير فيه، بالأخص مع شخص يعاني من اضطراب كرب ما بعد الصدمة PTSD، ويتناول الأدوية النفسية التي يلازمها شعور مستمر بعدم الجدوى. مع ذلك، تشعرني المشاركة بجزء ولو بسيط من الراحة. إنها الرغبة الملحة للصراخ بـ"أنا هنا وأتألم حقاً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع