هذا النص هو جزء من مجموعة نصوص عن عرب يعيشون في أوروبا؛ عن بعض أوجه حيواتهم، وعن كيف يعيشون؟ وبماذا يفكّرون؟ ما هو شكل هذه الحياة؟ سوف تُنشر هذه النصوص تباعاً في رصيف22
يقف في مطبخه، وهو يحرّك اللبن الذي يُطبَخ على نار هادئة، ويقول بصوتٍ عالٍ حتى نسمعه، نحن الذين وصلنا لتونا إلى بيته في حي كرويتسبيرغ، في العاصمة الألمانيّة برلين: "ادخلوا. أنا في المطبخ، ولا أستطيع استقبالكم. يجب أن أحرّك اللبن حتى لا ‘يفرط'". يقولها وهو يحرّك اللبن الموضوعَ في قدر فوق موقدٍ ذي حرارة منخفضة. يحرّك اللبن ببطء، وفي اتجاه واحد، "كما علّمتنا أمهاتنا".
في هذا اليوم، طبخ وسيم حسن الشاكريّة والرز بالشعيريّة، بناءً على طلب صديقته اللبنانيّة، وعلى شرف صديقه السوري الذي اشتاق إلى اجتماعات قلّت بعد أن انتشر وباء كورونا في العالم، واحتل حياتنا. وإلى جانب الشاكريّة، وضع وسيم صحون المقبّلات، من مُتبّل الباذنجان، والحُمّص، وغواكامولي، والخبز المحمّص، وغيرها من فاتحات الشهيّة.
هذه اللقاءات تتكرّر في برلين منذ عام 2014، على أقل تقدير، وقبلها في بيروت، وقبلها في دمشق.
وُلد وسيم في دمشق، ويبلغ من العمر 42 سنةً، ويعيش في بيت صغير يتشاركه مع شاب ألماني. في غرفته شاشات كمبيوتر، والكثير من الشرائط الإلكترونيّة. بيته مُنمنَمٌ، وفيه الكثير من الأشياء القديمة، والتي تعود في غالبيتها إلى زميله في السكن؛ سيديهات، وأشرطة فيديو وكاسيت، وخريطة لبرلين على جدار المطبخ، وطاولة كبيرة تتوسط ما يشبه غرفة المعيشة، تتسع لعشرة أشخاص على الأقل. هذا بيت وسيم الخامس في برلين.
نصل إلى بيته، فيطلب مني أن أفعل أشياء صغيرة في المطبخ، ويطلب من آخر أن ينظّف الطاولة التي سنأكل عليها، ومن آخر أن يضع الصحون فوق الطاولة، ومن آخرين أن يجلبوا بعض البيرة والنبيذ، وهكذا إلى أن تجهز المائدة، ويأكل الجميع، وتتعالى الأصوات المترافقة مع الضحكات، أو النقاشات الصاخبة، في لحظات حميميّة هاربة من برد بلاد الغربة.
وسيم حسن
لقاءات متكرّرة منذ سنوات
هذه اللقاءات تتكرّر في برلين منذ عام 2014، على أقل تقدير، وقبلها في بيروت، وقبلها في دمشق. وصل وسيم إلى برلين في نهاية العام 2013. ومنذ منتصف العام 2014، وحتى بداية عام 2016، عشنا معاً في بيت واحد في حيّ شارلوتنبورغ، في برلين الغربيّة، بعد أن كنّا قد تشاركنا السكن لفترة قصيرة في حي الأشرفيّة في بيروت، في العام 2013.
منذ ذلك الحين، ونحن نقيم "مآدب عشاء" بشكل متكرّر، نجمع فيها الأصدقاء والصديقات، الذين نعرف بعضنا البعض منذ عصر ما قبل الغربة، ومنهم من تعرّفنا عليهم هنا. بعضهم صاروا مثل العائلة، بينما افترقت طرقنا مع آخرين، بعد أن بنينا معاً ذكريات حلوة.
لماذا تدعو الناس، وتطبخ لهم بشكل دائم؟ ما الذي يعنيه الأمر بالنسبة إليك؟ فقال إنّه يحب أن يكون محاطاً بالبشر، كي لا يشعر بالغربة
بعد أن افترقنا، وسيم وأنا، وصار كلّ منّا يعيش في بيتٍ مختلف، استمر كلّ منّا في تجهيز "مأدُباته" الخاصة، وصارت لكلّ منّا دوائر أصدقاء جدد، لكن بقينا أنا ووسيم صديقين، نتشارك الكثير من أخبارنا، وأحوالنا، وأسرارنا، وحتى أحلامنا في امتلاك مطعمٍ، والتفرّغ للطبخ، وترك ما نقوم به الآن.
استمر وسيم في دعوة مجموعات كبيرة من الناس بشكل دوري، أصدقاء وصديقات قادمين/ ات من سوريا ولبنان وفلسطين ومصر وإيطاليا وألمانيا، يجمعهم ويُظهر لهم مهاراته في الطبخ.
إن كان لكلّ طبّاخ طبقه الخاص الذي يصنعه بعنايةٍ، فإنّ أطباق وسيم الشهيرة هي الملوخيّة، والشاكريّة، حتى أنّ رفاقه يقولون إنّ ملوخيّة وسيم، وشاكريته، هي الأفضل في برلين.
سألته: لماذا تدعو الناس، وتطبخ لهم بشكل دائم؟ ما الذي يعنيه الأمر بالنسبة إليك؟ فقال إنّه يحب أن يكون محاطاً بالبشر، كي لا يشعر بالغربة. "أحبّ شعور العائلة، وأنّ هناك من أهتم بهم، ويهتمون بي، على الرغم من أنّني قد أكون متعباً لأطبخ، وخاصةً خلال أيام العمل الطويلة"، يضيف.
يقول إنّه يحبّ الناس، وإنّ شعوراً عظيماً يراوده عندما يرى الناس يستمتعون بالطعام، "وربّما كان الهدف هو إرضاء ذاتي، وإظهار قدرتي على فعل شيء ما لأصدقائي، وخاصةً أنّهم لا يعرفون شيئاً عن حياتي العملية". وحياة وسيم العمليّة متمحورة حول الكمبيوترات والشبكات، فهو يدرس هندسة الشبكات، ويعمل في شركة تقنيّة.
بعد دقائق، يستدرك ما فاته من إجابته، ويقول إنّه يُظهِر شخصيته من خلال طعامه الذي يصنعه، وهذا ساعده في التعرّف إلى الكثير من الأشخاص، وقاده الأمر مرةً إلى علاقة عاطفية طويلة مع امرأة عرفها في إحدى هذه الجلسات. قلت له ضاحكاً: "الطريق إلى قلب المرأة هو معدتها. اطبخ لها و’شوف’ كيف بتحبك".
الحياة في برلين وارتباطها بالطقس
"أناضل يومياً من أجل أن أكون جزءاً من الحياة هنا، وأحاول أن أجعل هذا المكان بلدي الجديد، أو بيتي الجديد". يجيبني وسيم حين أسأله عن الحياة في برلين، ويضيف أنّه يشعر أحياناً بأنّ المدينة ترفضه، على الرغم من عيشه هنا منذ ثماني سنوات.
يحاول وسيم مثل معظم المهاجرين/ ات، والمغتربين/ ات، واللاجئين/ ات، أن يتكيّف مع نظام الحياة هنا. يحاول التأقلم والتعايش، لكنه يقول إنّه "يعاني كثيراً" من الصعوبات المختلفة.
يحاول وسيم مثل معظم المهاجرين/ ات، والمغتربين/ ات، واللاجئين/ ات، أن يتكيّف مع نظام الحياة هنا، في برلين. يحاول التأقلم والتعايش، لكنه يقول إنّه "يعاني كثيراً" من الصعوبات المختلفة
يظنّ، مثل كثيرين، أنّ الطقس عامل مهم جداً، فلا شمس في هذه المدينة، وسماؤها رماديّة لأسابيع طويلة شتاءً، وصيفها قصير. يفكر أنّ مدن المتوسط في جنوب فرنسا، وجنوب إيطاليا، هي الأنسب له. "هناك شمس، وهنا غيوم رماديّة"، يقول، ويضيف: "لكن ربّما يكون شعوراً مؤقتاً، وربما لأنّني سائح في مدن الجنوب الأوروبي، فيما أعيش في برلين، وأعاني من ضغط الحياة".
يشرح لي أنّه لا يشعر بالغربة كثيراً في برلين، فشكل الحياة فيها يناسب طريقة عيشه، "لكن ألمانيا ليست برلين"، ففي برلين الكثير من العرب، والكثير من السوريين، ويُمكن أن يتأقلم معهم المرء سريعاً. لكنّ وعلى الرغم من ذلك، فإنّ شيئاً جديداً يحدث كلّ يوم يجعله حزيناً.
"ربما كان هذا مصيراً، وليس خياراً، فمثلما وُلدت في سوريا، من دون أن أختار، وصلت إلى ألمانيا من دون اختيار أيضاً، وعليّ أن أقبل مصيري، وأتعايش معه"، يختم وسيم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت