أن يُكتب عن عبد الله العلايلي، الفقيه العلامة والباحث والشاعر والشيخ، يعني أن يُكتب عن مسيرة حياةٍ حافلةٍ بالعطاء والنشاط، فعندما نقرأ له أو نقرأ عنه يأسرنا عمقه ووضوحه، تدينه وانفتاحه، تمسكه بالثوابت و الأصول وثورته على العوائق والشوائب.
كان العلايلي رجلاً موسوعياً، كتب و خاض في علومٍ شتى في السياسة والدين والأدب واللغة والتاريخ، وكان مجلياً في كل هذه العلوم، صادماً السائد، ومحركاً الساكن، لذلك اختلف الناس حوله بين مؤيدٍ ومعارضٍ إلى شكّاكٍ أو محايدٍ، ومنهم من أخذته الغيرة منه والحسد ومنهم من غبطه وشدَّ على يديه. فهذه الشخصية التي وصفت بالقلقة، قد وثبت على الكثير من الضفاف لتترك في كل ضفةٍ أثراً لا يمحى.
سيرته الذاتية وحياته السياسية
ولد عبد الله العلايلي في 20 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1914، عام الحرب العالمية الأولى ومآسيها. تعلم في الكتَّاب كالكثيرين من أبناء جيله، وفي عام 1920 انتقل إلى مدرسة الحراش (المقاصد) لكي يكمل علومه الدينية ومبادئ العربية والفرنسية والحساب وغيرها، وبعد ذلك انضم إلى أخيه الشيخ مختار العلايلي الذي سبقه إلى مصر ملتحقاً للدراسة في جامعة الأزهر. وبعد إنهاء علومه الأزهرية التحق بالجامعة المصرية لكي يحصل فيها على شهادة الحقوق.
ينطلق الشيخ عبد العلايلي في كل آرائه ومواقفه وكتاباته من قول: "أنا لا أؤمن بالأسوار". هو شيخ يؤمن بالثورة على الراكد والساكن وكل ما هو معيق لتقدم الإنسان وارتقائه الفكري والاجتماعي
تزوج من السيدة بهية مرعي وأنجبا ثلاثة أولاد: نوار ومحمد خير و بلال. نال العديد من الجوائز والأوسمة وشهادات التقدير، وقد رشح في عام 1954 لمنصب مفتي الجمهورية اللبنانية، وتوفي في 4 كانون الأول/ديسمبر عام 1996، ودفن في بيروت في مقام الأوزاعي.
لم يكتفِ العلايلي في مصر بالتعلم فقط ،بل شارك في الحياة السياسية المصرية، حيث تأثر بالزعيم المصري مصطفى كامل، وعندما عاد إلى لبنان عام 1940 صار يلقي الدروس الدينية واللغوية ويخطب في الجامع العمري الكبير مستقطباً كثيراً من المستمعين والمعجبين به، وكان يكتب في مجالاتٍ متعددةٍ.
ما ضرر استعمال تلفن يتلفن للمتكلم بالتليفون؟
في عام 1938 نشر كتابه بعنوان "مقدمة لدرس لغة العرب"، وهو كتاب في فقه اللغة وفيه دعوة لتيسير اللغة العربية وجعلها لغةً حديثة عصرية تساير العصر وتلائم التطور، وفي كتابه هذا أسس لقيام مذهب التوسع في اللغة، وكان شعاره الذي كتبه في أحد كتبه اللاحقة: "ليس محافظةً التقليد مع الخطأ، وليس خروجاً التصحيح الذي يحقق المعرفة"، و هو بذلك وضع حلولاً للكثير من مشاكل اللغة وعقدها وعالجها معالجةً موضوعيةً دون الإساءة إلى عمارة اللغة وبنيتها وجعلها مواكبةً لروح العصر.
وقد أثبت بذلك أن العربية من أوسع اللغات وأقدرها على التعبير عن الأغراض دون المساس بالجوهر. يقول العلايلي في كتابه: "ما ضرر استعمال تلفن يتلفن للمتكلم بالتليفون؟ أليس ما قيس على كلام العرب هو من كلامهم؟". إنه تعامل مع اللغة بموقف المنفتح والمحافظ؛ منفتح على التطور الذي واجه المجتمع العربي، وخاصة في العصر الحديث، والمحافظ على الجوهر، وقد كانت اللغة في نظره لهباً وموقداً، فاللهب ينطفئ والموقد يبقى.
غلب في اللغة الاستعمال على ما هو صحيح
أثار الكتاب في حينه ضجة وانقسم حوله أصحاب اللغة بين مؤيدٍ ومعارض، وبعضهم عدّه قفزةً غير مأمونة النتائج. وللعلايلي آراء مهمة في تيسير النحو والكتابة والتعريب والعامية والفصحى، وتفصيح العامية، والكتابة بالحروف اللاتينية. وعن رأيه في التعريب يقول: "الكلمات التي تفرض نفسها في الاستعمال والفهم من الضروري أن تعيش، كلمات كثيرة مثلاً وُجِدت لكلمة تلفزيون لكنها لم تنتشر، فقد غلب في اللغة الاستعمال على ما هو صحيح. وهنا أيضاً أعطي مثالاً 'الجُرنال'، كلمة دخلت اللغة في مطلع القرن العشرين من حضارة الغرب، ولكن هذه التسمية لم تنتشر، وإنما في النهاية انتشر المرادف العربي وهي كلمة الجريدة ".
مشاريع لم تكتمل في اللغة
وتطبيقاً لآرائه النظرية التي وردت في كتابه "مقدمة لدرس لغة العرب" ألف كتابه "المعجم الكبير"، ولكنه لم يصدر كاملاً، إنما صدر منه أجزاء من المجلد الأول (1954_1955)، وكان من المقرر حسب تصريح العلايلي أن يصدر في 24 مجلداً. وفي عام 1963 صدر الجزء الأول كاملاً من معجمه "المرجع" وهو موجزٌ عن "المعجم الكبير".
نلاحظ أنّ كثيراً من كتاباته مشاريع لم تكتمل، سواءً في اللغة أو غيرها، وقد أُرجِع عدم صدور "المعجم الكبير" إلى نقص في الدعم المادي من الحكومة اللبنانية. كما وضع العلايلي مع مجموعة من العسكريين المختصين "المعجم العسكري" بتكليف من الحكومة اللبنانية، بدأ العمل به عام 1955 وانتهى عام 1969، وحصيلته 40 ألف كلمة، وعندما تبنت جامعة الدول العربية توحيد المصطلحات اعتمدت على 80% مما جاء فيه من مصطلحات وتسميات ما تزال تستخدم حتى الآن.
أنا جئت بعد الخليل
وللعلايلي في الأدب نثره وشعره باع طويل، فالأدب عنده يعكس الواقع الاجتماعي بشكل أو بآخر، ويعبر عن موقف الأديب الفكري والشعوري. في عام 1939 نظم قصيدة طويلة من 1500 بيت على وزن واحد وروي واحد عن المعراج النبوي مقلداً فيها "رسالة الغفران" للمعري و"الكوميديا الإلهية" لدانتي، وفي السبعينيات خلال الحرب الأهلية اللبنانية أصدر ديوانه الشعري الأخير "قصائد دامية الحرف بيضاء الأمل"، خالف فيه عروض الخليل مقتفياً أثر أبي العتاهية الذي كان يقول رداً على ناقديه: " أنا جئت بعد الخليل".
وقد كتب العلايلي مجموعة من القصص الواقعية التي ظهرت فيها العاطفة الجياشة والانحياز إلى جانب الإنسان المقهور والمحروم كقصة "قارع الأجراس" التي أدان فيها المرحلة الناصرية في مصر.
فلسفة الفكرة القومية حاجةٌ وضرورةٌ
أما بالنسبة لمواقفه القومية والوطنية، فقد كان العلايلي قومياً عروبياً من غير تعصبٍ وشوفونية، إنساناً كونياً منفتحاً على الآخرين، كتب في العرب والقومية العربية كتاباً أسماه "دستور العرب القومي" ظهر عام 1941 بعد ظهور كتاب المفكر قسطنطين زريق "الوعي القومي". يتطرق العلايلي في هذا الكتاب إلى أحد أسس بناء المجتمعات وهو القومية التي يقول فيها: "فالقومية يجب أن تكون اجتماعية محضة، أي قائمة على وحدة اللغة ووحدة الوطن ووحدة الزمن في المصلحة حاضراً أو مستقبلاً، ووحدة المثل التي تنبع من المصالح المشتركة والأدبيات المشتركة والأهداف المشتركة".
للعلايلي رأي في إقامة الحدود، وخاصةً حدّ السرقة والزنا وغيرها، إذ يقول إنه لا يجوز تطبيق الشرع إلا في حال المعاودة والتكرار محتجاً أنّ الإسلام لا يمكن أن يبني مجتمعاً كله مقطوع الأرجل والأيدي.
القومية عند العلايلي بحاجةٍ إلى فلسفةٍ معتبراً أنّ "فلسفة الفكرة القومية حاجةٌ وضرورةٌ، لأنها القوة التي تمد المبادئ بالحرارة وتمس الأوضاع بفيض الحيوية، وتضيف إليها عنصر البقاء والمقاومة ".
وفائدة الفلسفة أنها محافظة للقضية وحامية لها من التمزق والعاديات، وهذا ما ينقص القومية العربية والفكر القومي العربي. أهم عنصر من عناصر القومية العربية عند العلايلي هو اللغة، فيورد العلايلي في إحدى المقابلات معه أنّ المفكر المصري محمود عزمي كان يختلف مع الآخرين من الداعين إلى القومية العربية ويقول: "إن مصطلح العالم العربي غير صحيح ويقول عالم العربية أي عالم اللغة العربية، فاللغة أبرز ما يجمع العرب، وبعدها يأتي التاريخ المشترك وسواه".
التجزئة وليدة الانتدابات
على الرغم من قوميته فلم يقف العلايلي من التجزئة مواقف متشنجة، بل اعتبرها وليدة الانتدابات، فالإقليمية تجوز إذا نظرنا إليها كجزء من الكل العربي، وأن تكون ممارسة موقوتة بالتحرز، وله رأي مميز في طريقة تحرير فلسطين، فقد دعا غداة احتلال فلسطين وقبل أن يملأها المستوطنون الإسرائيليون إلى الزحف السلمي من قبل العرب بملايينهم نحو فلسطين لاستردادها وتثبيت الأمر الواقع، إذ إنه لا يمكن للصهاينة قتل هؤلاء الملايين، ولا يمكن أن يقبل الرأي العام العالمي بقتلها.
حدّد عقول الناس في ثلاث
يرى العلايلي أنّ عظمة الإنسان تكمن في توازنه "فلا إفراط ولا تفريط"، فقد كان مع الإنسان، وخاصةً الإنسان المقهور المعذب المظلوم. كان مناضلاً من أجل رفعة هذا الإنسان وحفظ كرامته وحريته، واعتبر أنّ كل إنسان فيه من نور الله، مستشهداً بالآية التي تقول: "ولله نور السموات والأرض"، كما أنه حدد عقول الناس بثلاثة أنواع:
1. من يشبه عقل المرآة المسطحة، فيرى ذاته.
2. من يشبه عقل المرآة المكبرة، فيرى الأشياء أعمق وأكبر.
3.من يشبه عقله انعكاس الماسة، فيكون ذهنه كسطح الألماس يحوط كل شيء و يرى كل شيء. وهؤلاء هم العلماء والمخترعون، ومنهم المؤمنون الكبار والمصلحون، ومن خلال ذلك نصل إلى التقاء العلم بالدين في جعلهما اللامحسوس محسوساً، هذا شأن المؤمن الذي يتجلى روحياً ويرى ما لا يراه الآخرون.
وُصِم بالشيخ الأحمر مع أنه كان يكره الألوان
ولأنه مع الإنسان ومع المظلوم والمحروم يقف إلى جانبه ويرفع صوته من أجله، يريد له أن يكون حراً في تفكيره وفي عيشه، فأي تجمع يرفع راية الإنسان كان العلايلي معه، سواء أكان هذا التجمع اشتراكياً أو شيوعياً، يسارياً أو قومياً أو دينياً، لذلك لم يفهمه الكثيرون، ولم يَرُق بمواقفه هذه للكثيرين، فوصمه بعضهم بالشيخ الأحمر، مع العلم أنه يرد ويؤكد أنه ليس مع الألوان، ولكن يسير بمجتمعه نحو النضج.
آن الأوان لهزّ المجتمع المتحجر
شارك العلايلي في الحياة السياسية في مطلع شبابه حتى كهولته؛ ففي مصر وعندما كان طالباً بالأزهر شارك في الحراك السياسي المصري، وعندما عاد إلى لبنان شارك في تأسيس عدة أحزاب، منها حزب النداء القومي وعصبة العمل القومي، وفي تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي حيث كان في لجنته التأسيسية، فالعلايلي نزل إلى الساحة اللبنانية مناضلاً وداعية حوار، انطلاقاً من منطقه القائل: " آن الأوان لهز المجتمع المتحجر، والعمل على صراع الأحزاب الذي يوصل في النهاية إلى الجمهور المسيس" وبذلك خير الأمة.
كان لا يعجبه لبنان، فلبنان في نظره مجموعة طوائف، يقول: "نحن لا نغدو كوننا بداةً متأنقين"، فهي عقلية قديمة متحجرة في عصر الحضارة. وعن رأيه في أنظمة الحكم السائدة في البلدان العربية والإسلامية، يقول إنها معيقة للتقدم والدليل على ذلك- كما يرى العلايلي- قيام الثورات والانقلابات في وجه هذه الأنظمة.
اليقظة الدينية هي ردة فعل وليست كمون الفعل
وهو المؤمن المتدين له رأي مختلف في التدين، فاليقظة الدينية في نظره هي ردة من ردات الفعل، وليس كمون الفعل، ردة فعل للكمون الحضاري والتجارب الحضارية التي أخفقت في معالجة مشاكل الناس وتحقيق تطلعاتهم في عيش كريم.
رأى العلايلي أن الكلمات التي تفرض نفسها في الاستعمال والفهم من الضروري أن تعيش؛ كلمات كثيرة مثلاً وُجِدت لكلمة تلفزيون لكنها لم تنتشر، فقد غلب في اللغة الاستعمال على ما هو صحيح
العلايلي في كل آرائه ومواقفه وكتاباته ينطلق من قوله: "أنا لا أؤمن بالأسوار"، يؤمن بالثورة على الراكد والساكن و كل ما هو معيق لتقدم الإنسان وارتقائه الفكري والاجتماعي، إنه متدين و مؤمن بالثوابت، يخاف الله ويعمل لآخرته كما يعمل لدنياه، ولكن ذلك لم يكن يثنيه عن الحق وقول الحق. إنه المسلم الذي أراد أن يطور ويثور على الشوائب والعوائق. يكشف القناع عن وجه الإسلام الحقيقي كما رآه في كتابه "أين الخطأ"، ويقرر أنّ الشريعة بمنطق النبي ومنطق العلم تظل في معرض تكيف وتجدد بدليل الحديث النبوي "إنّ الله يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة أمور دينها"، فلا قوالب ولا أنماط جاهزة، وكل توقف عن التجدد هو توقف عن الحياة.
وله رأي في إقامة الحدود، وخاصةً حد السرقة والزنا وغيرها، إذ لا يجوز تطبيق الشرع إلا في حال المعاودة والتكرار، محتجاً أنّ الإسلام لا يمكن أن يبني مجتمعاً كله مقطوع الأرجل والأيدي. كما أنه رفض القدر الماورائي وهاجم القدري العاجز، فهوجم واعتبر شيخاً دينياً يقلب مفاهيم الناس عن الشريعة والغيبيات. كما أنه فسر الحديث النبوي "بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ" تفسيراً جديداً لم يسبقه إليه لا القدماء ولا المعاصرون، فكلمة "غريباً" فسّرها من "الغرابة" أي الإدهاش، وليس من الغربة، فيكون معنى الحديث أنّ الإسلام بدأ مدهشاً بتعاليمه وسموّه، وسيعود كما بدأ مدهشاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...