تتطاير الحصى الناعمة على وجه موسى كالزجاج، محدِثةً ندوباً وجراحاً خلال عمله في تكسير الصخور في أحد مقالع سرمدا في ريف إدلب. وسط جوٍّ اجتمعت فيه الحرارة المرتفعة والغبار، يعمل ذو الأعوام الخمسة والعشرين، اثنتي عشرة ساعةً يومياً ليس بينه وبين لهيب الشمس الحارقة خلالها سوى قطعة قماشٍ مبلّلة يضعها فوق رأسه.
يروي موسى العبد الله (اسم المستعار)، المهجّر من ريف حماه، لرصيف22، عن عمله في هذه المهنة منذ ثلاث سنوات والتي هي مصدر رزقه الوحيد، إذ يقوم بتكسير الحجارة، ليتم استخدامها في أعمال البناء مقابل 70 ليرةً تركيةً كأجرة يومية، أي ما يعادل 4 دولارات تقريباً، وهي أجرة، حسب قوله، لا تكفي مصروف أسرته المكونة من خمسة أفراد إلى جانب والديه اليوم، مع هذا التدهور المعيشي الحاصل في شمال سوريا بشكل عام.
يضحك موسى عند سؤالنا له عن استعماله وسائل السلامة المهنية، كالحذاء الواقي والقفازات والكمامات، يقول: "هذه الوسائل لا وجود لها في قاموس عملنا، لا أستعمل إلا النظارات بعد إصابة عيني اليسرى بجرح في القرنية لم يُشفَ إلا بعد فترة طويلة، إذ أثّرت على رؤيتي بشكل واضح ما أدى إلى ضعف إنتاجي في العمل، بسبب الألم الذي عانيته وخاصةً مع ارتفاع درجات الحرارة. وضعف الإنتاج في العمل غير مسموح، لا ترف لنا في راحة أو علاج".
يتابع موسى سخريته لدى سؤالنا عن مدى التزام صاحب العمل بعلاجه: "هناك حالات حرجة أكثر من إصابة عيني. هناك مسنّون يعملون معنا وهم مصابون بالربو، ولم يتكفل بهم صاحب العمل، نحن نعمل مقابل أجر يومي فقط ولا يمكن أن نحصل على أكثر من ذلك، فاليوم الذي لا نعمل فيه لا نأكل فيه".
حدّ الفقر للعائلة الواحدة هو 228 دولاراً أمريكياً، أي ما يعادل 3،740 ليرة تركية معتمداً على التصنيفات الدولية لحدّ الفقر
تحكي قصة موسى مشكلة عشرات الآلاف من العمال شمال غرب سوريا، المحرومين من مستحقاتهم الحقيقية التي تناسب طبيعة عملهم الشاق، وتتفاقم هذه الفجوة بين تدنّي دخل العامل شمال غرب سوريا وبين المستوى المعيشي الذي يتضاعف بشكل يومي بسبب التعامل هناك بالليرة التركية التي تُعدّ غير مستقرة، في حين يبقى راتب العامل ثابتاً من دون أي زيادات أو من دون الأخذ بعين الاعتبار ارتفاع مقومات الحياة من مواد غذائية وأجرة منزل وأجور كهرباء وأسعار الوقود والمواصلات والأدوية.
انكماش معيشي
أواخر أيار/ مايو الفائت، أصدر فريق "منسقو استجابة سوريا"، بياناً عرض فيه مؤشر حدّ الفقر والجوع والكلفات الاقتصادية للعائلات شمال غرب سوريا. ويذكر أن حساب الكلفة المعيشية للأسرة المكونة من أربعة أفراد ضمن الحدود الدنيا، هي 3،165 ليرةً تركيةً، ومن دون الاعتماد على المساعدات الإنسانية، كما يذكر أن حدّ الفقر للعائلة الواحدة هو 228 دولاراً أمريكياً، أي ما يعادل 3،740 ليرة تركية معتمداً على التصنيفات الدولية لحدّ الفقر والتي تبلغ 1.9 دولار أمريكي لكل شخص يومياً.
ووفق الفريق، فقد بلغت نسبة العائلات الواقعة تحت خط الفقر 84%، وفق الأسعار الأساسية وموارد الدخل. ونسبة العائلات الواقعة تحت حدّ الجوع، 36% من إجمالي العائلات الواقعة تحت خط الفقر.
وتضمّن البيان الاحتياجات المعيشية للأسرة بكلفتها، إذ تحتاج الأسرة لشراء الخضروات بالحد الأدنى إلى 550 ليرةً تركيةً واللحوم مرتين شهريّاً 250 ليرةً تركيةً، ومواد متفرقة من المحال (بقاليات) 850 ليرةً تركيةً شهريّاً، فيما بلغت الحاجة من مادة الخبز إلى 450 ليرةً تركيةً شهريّاً، عدا تكاليف الكهرباء ومياه الشرب والاستخدام، والغاز وكلفة الاتصالات والإنترنت، والعلاج والأدوية ومصاريف المدارس.
استغلال وقبول بالخطر
يمضي عبد العليم فشفش (30 عاماً)، وهو مهجّر من الغوطة الشرقية في ريف دمشق ويقيم في ريف عفرين، أكثر من 14 ساعةً في عمله، إذ يعمل "حدّاد باطون"، ضمن ورشة لأعمال البناء، وبأجرة يومية لا تزيد عن 85 ليرةً تركيةً، أي ما يعادل 4.72 دولارات، وهو مبلغ لا يكفي ثمن علبة سجائره اليومية وربطتي الخبز ومصروف غذاء أسرته، كما يقول.
هناك مسنّون يعملون معنا وهم مصابون بالربو، ولم يتكفل بهم صاحب العمل، نحن نعمل مقابل أجر يومي فقط ولا يمكن أن نحصل على أكثر من ذلك، فاليوم الذي لا نعمل فيه لا نأكل فيه
يصف عبد العليم لرصيف22، عمله الشاق وساعاته الطويلة في برد الشتاء وحرارة الصيف، وبمقابل مادي زهيد، يرى أنه لا يناسب ربع مجهوده، ولا يسدّ احتياجات أسرته اليومية، خاصةً أن لديه طفلةً رضيعةً بحاجة إلى علبة حليب كل أربعة أيام يتجاوز سعرها 60 ليرةً تركيةً أو أكثر، وذلك حسب سعر الدولار.
لطالما طالب عبد العليم صاحب العمل بزيادة أجرته اليومية، لأنها لا تكفيه إلا ثمن طعام يومي، فبالنسبة إليه باتت الملابس ومصاريف الدواء والعلاج من الكماليات، مضيفاً: "جواب صاحب العمل الدائم لجميع العمال، هو من لم يعجبه فليترك. هناك آلاف العمال يرغبون في العمل مكانك".
يشتكي الشاب من حالة الابتزاز التي يتعرض لها كل آخر أسبوع، عند موعد استلام راتبه، فكثيراً ما يؤجَّل الموعد إلى أول أيام الأسبوع التالي عمداً بهدف كسب نهار مجاني من صاحب العمل على حساب العامل، إذا ما قرر أي عامل ترك العمل من دون توضيح سبب يُعجب صاحب العمل.
ويشير إلى عدم اهتمام رب العمل به بالرغم من أنه يعمل معه بجدّ منذ سنتين، إذ لم يأخذ أي تعويض مادي أو إعانة عندما تعرض لضربة شمس إبّان موجة الحر أقعدته أسبوعاً كاملاً في الفراش، ويعلّق قائلاً: "لقد استدنت في سبيل تأمين قوتي اليومي وثمن دوائي بعد تعرضي لضربة شمس وعدم تمكني من الذهاب إلى عملي، وعندما تحدثت مع ربّ العمل على الهاتف مطالباً بإعانة مالية ريثما أتماثل للشفاء رفض رفضاً قاطعاً".
في دائرة الاتهام
ساعات العمل الطويلة باتت هي القاعدة في شمال غرب سوريا، مقابل أجر زهيد ومن دون إعطاء أي أهمية لوجود معدات حماية، وخاصةً في المهن الشاقة كالعاملين في حراقات النفط البدائية التي كثيراً ما تسبّب أعطاباً للعمال قد ترتقي إلى فقدان حياتهم نتيجة انفجار خزانات التكرير، وكعمال البناء في الأماكن العالية، وعمال المقالع الحجرية والرخام الحجري، وأعمال الزراعة المرهقة في الصيف.
يملك المزارع أبو تيسير بكورة، أرضاً زراعيةً، ويعمل لديه في سرمين في ريف إدلب عددٌ من العمال في جني الغلال، وأعمال التعشيب والري، ويمنح يومياً لكل عاملٍ قرابة 60 ليرةً تركيةً بساعات عمل تتجاوز الـ12 يومياً.
لدى سؤالنا له عن تناسب الأجرة اليومية مع ساعات العمل الطويلة، أجاب بأنه يعطي العمال أجرتهم بناءً على شرطٍ واتفاقٍ مسبقين، كما أنه لا يتردد في إعطائهم من الغلال الزراعية، معترفاً بأن الأجرة قليلة إلا أن لديه مصاريف أخرى كصناديق الثمار الزراعية، وأجور النقل إلى الأسواق التي تُعدّ باهظة الثمن نسبةً إلى ارتفاع ثمن المحروقات، وأجور السقاية والمبيدات.
لطالما طالب عبد العليم صاحب العمل بزيادة أجرته اليومية، لأنها لا تكفيه إلا ثمن طعام يومي، لكن الجواب الدائم لجميع العمال، "من لم يعجبه فليترك. هناك آلاف العمال يرغبون في العمل مكانك"
أما متعهد الورشة التي يعمل فيها موسى، فقد رفض التعليق على غياب أي تعويضات أو إعانات للمصابين خلال العمل منهم، إلا أنه اكتفى بالقول: "أُحذّرهم دائماً في العمل من التهاون في حياتهم وخاصةً في الأماكن المرتفعة، أما بالنسبة إلى تأخير الأجرة الأسبوعية فهو عائد إلى توفر السيولة المالية بين أيدينا، إلا أن حقوقهم محفوظة ولا يمكن أن نأكل عليهم قرشاً واحداً".
تشجيع استثماري
وجود عدد كبير من طالبي العمل، يجعل صاحب العمل أمام خيارات كثيرة، منها تخفيض الراتب، ومن لا يرغب في العمل بهذا الراتب فهناك من يعمل وبأقل منه، كما أن ضعف الإنتاج، لقلة المعامل والمحال، مع ظروف المنطقة غير المستقرة، يتطلب عمالاً أقل كون الإنتاج ضعيفاً والتصريف كذلك.
يقول وزير المالية والاقتصاد في الحكومة المؤقتة التابعة للمعارضة السورية عبد الحكيم المصري، لرصيف22، إن "مناطق شمال غرب سوريا غير مستقرة من نواحٍ كثيرة، وهذا ما يجعل فرص الاستثمار قليلةً وتالياً تدنّي الأجور التي لا تتناسب مع مستوى المعيشة، إذا ما علمنا بارتفاع نسب البطالة المرعب، فمتوسط الأجور لغالبية العمال 1،500 ليرة تركية شهريّاً، وهذا غير منطقي، لأن الحدّ يجب أن يكون 4،000 ليرة تركية شهريّاً عدا أجرة البيت.
وعن أهم الحلول، يلفت المصري إلى ضرورة تشكيل نقابة عمال، بالرغم من عدم نجاعة هذا الحل برأيه بسبب ارتفاع نسب البطالة، وتستطيع هذه النقابة فرض قوانين عادلة على أرباب العمال كتحقيق الأجور المناسبة للعمال وتأمينهم اجتماعيّاً وصحيّاً، مشيراً إلى أن الوزارة تعمل على تشجيع الاستثمار وتأهيل البنية التحتية قدر الإمكان بحيث تكون هناك بيئة آمنة للمستثمرين وتالياً يكون هناك طلب على الأيادي العاملة.
ما يمنع تحقيق حصول العامل على جميع حقوقه في مناطق شمال غرب سوريا، هي العمل بالقوانين الصادرة عن النظام السوري الأمر الذي يُعدّ اعترافاً ضمنيّاً بشرعيته
وتقوم الوزارة حاليّاً بتجهيز قانون للتأمينات ولكنه محدود، إلا أنه يمكن تطويره مستقبلاً ليشمل إصابات العمل، وغير ذلك، حسب تأكيدات المصري.
ويتفق الخبير الاقتصادي خالد تركاوي، مع الوزير المصري، في أن ما يمنع تحصيل الحقوق الاقتصادية المتعلقة بحقوق العامل كإنسان، هو الوضع العام في سوريا، حيث أن الأمن والاستقرار غير موجودين في الأساس، وكذلك غياب الجهات التي تطالب بالحقوق والهيئات والنقابات، مشيراً إلى أن الحل يأتي من خلال تشجيع الاستثمار في المنطقة، وتحسين قدرات طالبي العمل من حيث المهارات والتدريب، وكذلك تنظيم العاملين في نقابات حرفية أو صناعية بحسب تخصصاتهم.
القوانين... حبرٌ على ورق
وفق المادة 48 من قانون العمل السوري رقم 17 لعام 2010، يتضمن عقد العمل كل المعلومات حول العامل وصاحب العمل وطبيعة العمل ومدته والأجر المتفق عليه وساعات العمل وحقوق العامل، من عناية طبية وإسعاف أولي في المنشأة ونفقات علاج والحق في الزيادة الدورية للأجور وغيرها من أمور تنظم العلاقة بين الطرفين وتحفظ حقوقهما.
ويؤكد المحامي عبد الناصر حوشان، عضو مجلس نقابة المحامين الأحرار في حماه، لرصيف22، أن "الذي يمنع تحقيق حصول العامل على جميع حقوقه في مناطق شمال غرب سوريا، هي إثارة إشكالية قانونية، وهي العمل بالقوانين الصادرة عن النظام السوري الأمر الذي يُعدّ اعترافاً ضمنيّاً بشرعيته من جهة، ومن جهة أخرى عدم وجود وزارات خاصة تقوم على تطبيق نصوص كثير من القوانين، بالإضافة إلى أن حكومة الإنقاذ المسيطرة على إدلب وريفها تعمل وفق الشريعة الإسلامية، فيما تأخذ الحكومة المؤقتة المسيطرة على مناطق ريف حلب وريف الحسكة ببعض القوانين المتوافقة مع دستور 1950، وأغلبها القوانين الأساسية التي صدرت في عهد الاستقلال وقبل انقلاب البعث".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...