شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
حين ارتدى أسامة السيد

حين ارتدى أسامة السيد "مريلة" المطبخ وبمقادير نسوية أعدّ أكلاته

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والنساء

الخميس 3 نوفمبر 202205:52 م

ابتسامته الهادئة، ولغته الرحبة، تجعلان كل من يسمعه يشعر وكأن الحديث موجه إلى شخصه، وهاتان سمتان كانتا نافذة عبور الشيف المصري أسامة السيد، الذي غيّبه الموت عن عالمنا صباح الثلاثاء 1 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، إلى قلوب مشاهديه في مصر والوطن العربي.

أثر الفراشة... ورحيل الشيف

لا أعدّ نفسي من ضمن المهووسات بتجربة إعداد أكلات جديدة، وتالياً لست من هواة متابعة برامج الطبخ، إلا أن انتشارها جعلها جزءاً أساسياً من القنوات التي أتنقل بينها في أثناء فترات راحتى في المنزل، أو حتى لملء وقتي الضائع بمشاهدة جديد أصناف الأكل، أو ربما من باب الفضول لا أكثر. لكن هناك دائماً انطباعات ترسّخها مشاهداتنا الإعلامية في لا وعينا، حتى إن مررنا عليها مرور الكرام، كما هو الحال معي، وهنا يحضر الشيف أسامة، الذي حزنت على رحيله كثيراً، ووجدت أن الحالة نفسها انتابت أصدقاء لي على منصات التواصل الاجتماعي... فما الأثر الذي تركه لنا بالتحديد؟

منذ أربعينيات القرن الماضي، بدأت تجارب جديدة لفنون الطبخ تفرض نفسها كجزء من البرامج على الوسائل الإعلامية المتاحة -لا سيما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية- التي دفعت الدول الكبرى منصاتها نحو ابتكار أفكار تُخرج العالم من هوة النزاعات السياسية، ونتائجها المدمرة إنسانياً، فكانت عروض الأكل، ومن ثم ظهور روّاد لها أشهرهم الطاهية جوليا تشايلد، التي مهّدت الطريق لنجومية أصحاب هذه النوعية من البرامج، ومن بعدها في الولايات المتحدة جاء جيمس بيرد، مقدّم برنامج I Love to Eatالذي صُنِّف كأول برنامج طبخ تلفزيوني.

ابتسامته الهادئة، ولغته الرحبة، تجعلان كل من يسمعه يشعر وكأن الحديث موجه إلى شخصه، وهاتان سمتان كانتا نافذة عبور الشيف المصري أسامة السيد، الذي غيّبه الموت عن عالمنا صباح الثلاثاء 1 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري

وبالتزامن، اكتسب في مصر البرنامج الإذاعي "إلى ربّات البيوت"، للإذاعية صفية المهندس، في أربعينيات القرن الماضي، شهرةً واسعةً إذ خصصت فيه فقرة "أبلة نظيرة"، لفن الطبخ، مستندةً إلى نجاح كتاب "أصول الطهي"، لكاتبتيه بهية عثمان ونظيرة نيقولا، كأول كتاب طبخ عربي، ثم جاء "طبق اليوم"، كأول برنامج تليفزيوني للأكل، ومن بعده "دايما عامر"، للشيف منى عامر.

في بداية التسعينيات، ظهر أسامة السيد، ليطوّر شكل برامج الطبخ عربياً، وليكون أول رجل مصري يرتدي "مريلة" المطبخ، منافساً النساء في برنامج أمام جماهير لم تكن معتادةً حينها على رؤية رجل يتحدث أمامهم عن الطبخ على الشاشات.

محاولة إقناع الجماهير بأن الأكل سلوك بشري، يشارك في إعداده الرجل كما المرأة، وفعل لا علاقة له بالجنس أو بالتقليل من قيم الرجولة، أو بزيادة سمات الأنوثة، لم تكن تشغل أسامة وحده، وربما لم تشغله من الأساس، بل قادته الصدفة ليكون نموذجاً عن مشاركة الجنسين في أعمال الطبخ من دون قصد منه.

التحدي بدأ حين أدركت النساء مع الوقت، أن مهمة إعداد الطعام الملقاة على عاتقهن، منذ العصور الأولى للإنسانية، حين كان يخرج الرجل للصيد والحراسة لبنيته الجسدية الأقوى، بينما تعدّ الأم الأكل وتهتم بالأبناء بطبيعة الحال، دور لا تستطيع إتمامه وحدها، وبات يمثّل عبئاً صحياً ونفسياً بعد الخروج إلى معترك العمل، ومشاركة الرجل طموحات خارج المنزل، ليكون من غير الإنصاف إلقاء مهمة الطبخ على النساء فقط دون الرجال.

أفكار المساواة وتعبير النساء عن رفضهن للأعباء الزائدة عن القدرة، بدأت تنتقل مع الوقت إلى المجتمعات العربية، ومن غير المعروف ما إذا كان أسامة السيد، مناصراً لها أو لا، فهو قليل الكلام عن أفكاره 

لطالما حاولت رائدات الموجة الثانية للحركة النسوية، رفض الصورة النمطية التي تضفي رومانسيةً على فعل الطبخ، وعدّته كثيرات من النسويات عبئاً لا يطاق، وأدانت بعضهن علناً الطهي كونه يمثّل فرقةً جندريةً تقلّص من فرص الخروج إلى الشارع في مقابل البقاء في المنزل.

أما في عام 1968، فألقت مجموعة من النسويات كومةً من "المرايل" أمام البيت الأبيض، رافضات الفكرة التقليدية القائلة بأن الطبخ هو عمل نسائي. واستمرت المظاهرات المناهضة للطبخ في عام 1970، عندما نظمت نسويات مدينة نيويورك، مسيرةً تحمل لافتات كُتب عليها: "لا تطبخن العشاء"، وفي وقت لاحق، أصبح "لا تفترض أنني أطبخ" شعاراً نسوياً شائعاً.

لغة محايدة

أفكار المساواة وتعبير النساء عن رفضهن للأعباء الزائدة عن القدرة، بدأت تنتقل مع الوقت إلى المجتمعات العربية، ومن غير المعروف ما إذا كان أسامة السيد، مناصراً لها أو لا، فهو قليل الكلام عن أفكاره وكثير العمل في مجاله؛ لكن اللافت والمدهش أيضاً في الرجل استخدامه لغةً محايدةً طوال الوقت، وكأنه سبق ما نادت به الحركات النسوية لاحقاً. فمنذ بدايات ظهوره، وحتى تقديمه وصفته الأخيرة "الأرز مع الصيادية"، قبل 7 أشهر، على قناته على يوتيوب، كان يقول: "أهلا بيكم... هنعمل طبق سهل ممتنع... هنطبخ أكلة جديدة مع بعض...". والكتابة في الفيديو الأخير، تُصنَّف كلغة محايدة تراعي الجنسين، ويُفهم منها أنها موجهة إلى الرجل والمرأة على السواء: "يُنقع... يُغلى... يُصفّى الأرز..." وهكذا، ولم يقع في فخ توجيه الحديث إلى النساء وحدهن، كما مئات "الشيفات" اللاحقين.

الكتابة في الفيديو تُصنَّف كلغة محايدة تراعي الجنسين، ويُفهم منها أنها موجهة إلى الرجل والمرأة على السواء: "يُنقع... يُغلى... يُصفّى الأرز..." وهكذا، ولم يقع في فخ توجيه الحديث إلى النساء وحدهن، كما مئات "الشيفات" اللاحقين

هذه اللغة المحايدة، بالرغم من بساطتها، إلا أنها جعلت "السيد" شخصاً مريحاً يمكنه ترك انطباعات راقية عن رجل سافر وجال العالم، وتدرّج في المناصب منذ بداية الثمانينيات، حتى عمل رئيساً للطهاة في مطعم "SerbianCrown" الشهير في واشنطن العاصمة، ولاحقاً صار مسؤولاً عن إعداد مأدبة على شرف الرئيس الأمريكي ونائبه.

لعل تراكم الخبرات لديه جعله شاهداً على تحولات مجتمعات وأشخاص كُثر، فهضم الشيء ونقيضه، ليقدّمه منتجاً مصرياً "شيك" وبسيطاً في آن واحد.

وبالرغم من معاصرته لأجيال مسكونة بثقافات صحراوية منغلقة، "تبلع" النساء فيها مئات العبارات الساخرة التي تحدّ من أدوارهن لصالح الطبخ، مثل: "يلا ع المطبخ"، و"مكانك المطبخ"، و"آخرتك المطبخ"، لم ينسَق وراء لغة الشارع تلك، ولم يهادن العوام بهدف انتشار أكبر، بل ظل ممسكاً بنمطه الهادىء كفنان يعزف منفرداً.

والأبعد من ذلك، أنه كان شاهداً على تحول شخصيات "الشيفات" الجدد إلى خليط من الدعوية الدينية مع الأفكار الذكورية، فهم يحتكون بشكل أوسع بالجماهير المهتمة بالأكل والمنزل، وهذه النوعية من الجمهور هي الشريحة المعبّرة بشدة عما أصاب المجتمع من رداءة ذوق ورصانة.

بادل هؤلاء "الشيفات"، المجتمع ما أراده منهم، أو لنقل هم في الأصل جزء من هذا المجتمع، وعبّروا عن لسان حالهم على الشاشة بمزيد من الرداءة، وبكلمات من نوعية: "ورقة وقلم واكتبي ورايا يا ست الكل... وتعالي يا أختي أقولك تطبخي إيه لحماتك/ سلفتك عشان ماتعايركيش... وهنعمل النهار ده أكلة عشان ست البيت الشاطرة توفّر وتدبّر..."؛ وهذا بخلاف إجاباتهم عن أسئلة المداخلات التليفونية، متقمصين دور الدعاة الدينيين الناطقين بعبارات مغلّفة بفكاهة في ظاهرها، بينما هي مبطنة برسائل نفسية تُحمّل النساء وحدهن مسؤولية المطبخ، والأسرة والتربية، وتفرّغ الرجل تماماً من قيم المشاركة الزوجية والود ومساندة الزوجة والأبناء في فعل تحضير الطعام، حتى وإن كان مقدّم البرنامج رجلاً. وكأنهم يقولون بين السطور" "نعم نحن رجال نعمل بالطبخ ونتقاضى عليه أجراً... أما النساء فهذا واجبهن من دون أجر، وغير متاحة لهن الشكوى،. أو كما تقول المؤرخة الهندية رنا صففي: "كان الطهاة المحترفون رجالاً في الإمبراطوريات المغولية والبريطانية، بينما تم منح النساء مطابخ منفصلة، وتم وضع مطابخ الرجال في مرتبة أعلى في التسلسل الهرمي، مما يعزز فكرة ‘عندما تقوم النساء بذلك، فهذا واجبهن، ولكن عندما يفعل الرجال ذلك، فهو فن’".

والأبعد من ذلك، أنه كان شاهداً على تحول شخصيات "الشيفات" الجدد إلى خليط من الدعوية الدينية مع الأفكار الذكورية

"سينغ" وأسامة

في هذا الحين، ركّز أسامة السيد على نفسه، ليطلّ في كل مرة نظيفاً ولامعاً، وهذه أيضاً قاعدة قد تبدو بديهيةً لمن يظهر على الشاشة على الأقل، إلا أنها لم تعد كذلك مع "شيفات" اعتادوا السلوك العشوائي في حياتهم الخاصة، فأظهروه على الشاشة حتى وإن كانوا نجوماً يتقاضون الملايين. وهذا شيء آخر يستحق الإشادة به.

المؤلف الهندي رافيندر سينغ، ألقى باللوم على الثقافة الشعبية الراسخة، كسبب لمخاصمة الرجال للمطبخ. يقول: "الصور النمطية مشفرة بشدة في أذهاننا. يُنظر إلى الرجال بازدراء من أجل الطبخ".

لكن يبدو أن "سينغ"، لم يعرف الشيف أسامة السيد، الذي صالحنا مع الرجال الواقفين بـ"مريلة" المطبخ، جنباً إلى جنب مع المرأة، لإعداد أكلات صُنعت بمقادير المساواة والحب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard