بدءاً من منتصف يوليو/تموز المنقضي، توقفت المواقع الصحافية المصرية المملوكة لشركة "المتحدة للخدمات الإعلامية" المملوكة لصندوق يتبع أحد الأجهزة الأمنية السيادية في مصر، عن إنتاج فيديوهات البث المباشر عبر حساباتها على فيسبوك لأسباب لم يتم الإفصاح عنها في وقتها، فيما بدأ المسؤولون بالشركة في إعداد تقييم موقف لما يُنشر، ووضع قواعد حاكمة بشكل يسمح باستئناف الخدمة الصحافية، والاستفادة من العوائد المالية التي تجنيها المؤسسات التابعة للشركة منها.
ليس معروفاً على وجه التحديد السبب الرئيسي الذي دفع الشركة لتعطيل خدمة البث المباشر بمواقعها، فبينما تحدثت مواقع مصرية مستقلة وأخرى عربية عن أن السبب كان أحد الفيديوهات التي بثها موقع "الوطن" خلال تغطية الزيادة الأخيرة في أسعار الوقود تضمن انتقاداً للحكومة، نفى أكثر من مصدر بالجريدة التي تأسست عقب ثورة 25 يناير وجود مخالفات للسياسة التحريرية خلال تغطيتها الأخيرة من داخل محطات الوقود.
مصادر في صحيفة "الوطن" المصرية، نفت أن يكون السبب هو انتقاد المواطنين لسياسات الدولة الاقتصادية خلال "لايف" جرى بثه من إحدى محطات الوقود عقب الزيادة الأخيرة في أسعار المحروقات
فيما اتجهت توقعات إلى كون القرار يأتي استجابة للاستياء الواسع الذي باتت تلاقيه فيديوهات البث المباشر، وما أثارته خلال الأشهر الماضية من انتقادات داخل الوسط الصحافي نفسه، بسبب التوسع في نشر الفيديوهات الغرائبية، ذات المحتوى الذي لا يخلو من تضليل وترويج للخرافة، إلى جانب مخالفة المعايير المهنية والاخلاقية في فيديوهات بث الجنازات ومتابعة الجرائم. إلا أن مصادر صحافية قالت لرصيف22 إن الغضب الحقيقي داخل الدوائر الرسمية جاء عقب بث هذه النوعية من الفيديوهات بالتزامن مع أحداث سياسية مهمة كخطب الرئيس عبدالفتاح السيسي وافتتاحاته الدورية للمشروعات التنموية، ما جعلها تسحب بساط المشاهدات من "مشروعات الدولة".
في هذا السياق، يعزو المسؤول السابق عن لجنة الحريات بنقابة الصحافيين، عمرو بدر، إقدام شركة المتحدة على وقف خدمة البث المباشر بشكل مؤقت، إلى سببين، أحدهما مهني بحت وهو تعدد الشكاوى من قلب الوسط الصحافي من مستوى وقيمة الحوارات التي تنتجها الكثير من المواقع، وآخر سياسي لانشغال وسائل الإعلام، خصوصاً المملوكة للدولة، بقضايا سطحية غير مؤثرة.
الجدير بالذكر أن القرار أتى عقب انتقاد السيسي نفسه لسيطرة برامج الطبخ على قنوات التلفزيون، بينما أشاد بعدد قليل من البرامج التي تهتم بالعلوم واكتشاف الموهبين، قائلاً: "كل ما بحثت في التليفزيون أجد مطبخا، أنا مش ضد، لكن التنويع ضروري"، وهي مزحة حملت رسالة بعدم رضا الرئيس عن اهتمامات الإعلام هذه الفترة، ما مثل إشارة لقيادات المتحدة لإعادة النظر في المحتوى الذي لا يرضى عنه الرئيس.
اتجهت توقعات إلى أن القرار يأتي استجابة للاستياء الواسع الذي باتت تلاقيه فيديوهات البث المباشر، بسبب التوسع في نشر الخرافة. لكن همسات أخرى تردد أن السبب هو كون هذه الفيديوهات تسحب بساط المشاهدات من تحت أقدام افتتاحات الرئيس وخطاباته
وعبر الرئيس غير مرة عن عدم رضاه عن أداء وسائل الإعلام المحلية في تناولها لمجريات الأمور، فقبل عامين انتقد تغطية الإعلام لملف مخالفات البناء والتعديات على الأراضي الزراعية، متهماً بعض الوسائل "بأنها لا تتصدى للمخالفات وعليها العمل بشكل معمق أكثر". وفي وقت سابق، انتقد تعامل الإعلام المحلي مع الحوادث الإرهابية التي استهدفت أقباطاً بكنسيتي طنطا والإسكندرية في 2017، مطالبا بضرورة أن يتحلى الإعلام بالموضوعية والوعي والمصداقية "حتى لا يؤلم الناس".
وفقاً لمصدر بإحدى فرق إنتاج الفيديوهات في صحيفة تابعة للمتحدة، فإن المؤسسات الصحافية الكبرى تحقق أرباحاً شهرية تتجاوز 100 ألف دولار، وهو رقم لن يتم التضحية به بسهولة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها المؤسسات الصحافية
كل هذه المواقف تنبئ بموقف رأس السلطة من التعامل "السطحي" للإعلام مع بعض القضايا والأحداث الساخنة، مما يرجح أن يكون الغضب طال "البث المباشر"، الذي سيطر على أداء الكثير من المواقع الصحافية المصرية في السنوات الأخيرة، وبات مادة أساسية لا تستغنى عنها الصحف بهدف تحصيل الأرباح التي تغري بها شركة فيسبوك صناع المحتوي بشكل عام منذ إطلاقها هذه الخدمة في 2016. في وقت تعاني هذه الصحف من انهيار توزيع نسخها الورقية، وتهديدات بالإغلاق وتسريح العمالة بسبب الخسائر المتراكمة.
فإلى أي مدى سيتأثر الوسط الصحافي المصري بالتطورات الأخيرة؟ من هو المسؤول الحقيقي عن وضع معايير هذه الصناعة الحديثة؟
غضب مكتوم
المؤكد حتى الآن أن المواقع الصحافية التي عرفت الطريق إلى الأرباح من خلال خدمة البث المباشر لن تتخلى عن سلاحها الوحيد للربح، في ظل قيود إعلامية لا تسمح بتجويد المحتوى إلى درجة تجذب جمهور المتلقين، فباتت الخرافات واللقطات الغرائبية لجاذبيتها، هي مصدر الدخل المضمون. وهو ما يترجمه تحقيق أحد الفيديوهات لمشاهدات تتجاوز الـ20 مليوناً.
وفقاً لمصدر بإحدى فرق إنتاج الفيديوهات في واحدة من الصحف التابعة للمتحدة، فإن المؤسسات الصحافية الكبرى تحقق أرباحاً شهرية تتجاوز 100 ألف دولار، وهو رقم لن يتم التضحية به بسهولة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها المؤسسات الصحافية، مع تراجع عوائد الإعلانات، متوقعاً استئناف البث المباشر بمجموعة مواقع المتحدة بعد وضع إطار عام لهذه النوعية من الفيديوهات.
"إحنا شغالين عند مارك"
"إحنا شغالين عند مارك" هكذا يلخص الصحافي محمد بصل، مدير تحرير جريدة وموقع الشروق، أزمة البث المباشر التي أتاحتها شركة فيسبوك للمنصات الإعلامية في السنوات الفائتة، فأرباح المشاهدات تتحرك وفقاً لما يحدده رفاق مارك زوكربيرغ، بناء على الخوارزميات، أي طرق توجيه متابعة المنشورات.
يشرح بصل أنه مع تراجع مبيعات الصحف الورقية في مصر، نتيجة عزوف الكثيرين عن اقتنائها، تماشياً مع التطور التكنولوجي، باتت الصفحة الرئيسية لفيسبوك هي المكافئ الحديث لفرشة الجرائد التي كانت تمتلئ في كل صباح بإصدارات متعددة، فباتت الأولوية لمن يدفع أكثر لفيسبوك، ومن يشبع احتياجات جمهوره ونهمه صوب مواد متعلقة بالروتين اليومي والقضايا الجدلية.
في المقابل، تسبب هذه السياسات إهمال الخدمات الأساسية التي كانت توفرها الصحف وتفرد لها مساحات كبيرة بصفحاتها وموقعها: "باختصار صاحب الفرشة طبق علينا قواعده واستدرجنا لتغيير سياساتنا بناء على تصرفاته"، يقول بصل لرصيف22.
الرغبة في اقتسام كعكة خدمات البث المباشر من فيسبوك دفع الكثير من إدارات الصحف للاستثمار في شباب صغار في السن سريعي الحركة للتركيز على تلك الخدمات، ما أدى إلى تعطيل كفاءات وقطاعات كاملة داخل تلك المؤسسات.
لا ينتقص مدير تحرير "الشروق" من قدر "الفرسان الجدد"، فهو يراهم مجتهدين ونجحوا في تسليط الضوء على بعض مناحي الحياة، لكنهم لم يلتفتوا إلى مواد إعلامية أكثر أهمية، عازياً ذلك إلى افتقارهم لحسن التصرف والتدريب المهني المناسب، من أول اختيار زاوية المعالجة حتى التحدث بلغة سليمة ولو عامية.
أين دور نقابة الصحافيين؟
الهوس بجني الأرباح من نافذة فيسبوك أملاً في توفير جزء من نفقات المواقع، دفع عدداً من مديري المنصات الصحافية لإجبار صغار المحررين على تكثيف إنتاجهم من هذا النوع من المحتوى، حتى لو لم يبدوا رغبة واضحة في الانخراط في هذا المضمار، حسبما يؤكد محمود كامل، عضو مجلس نقابة الصحافيين.
يقول كامل لرصيف22 إنه تلقى شكاوى شفهية من محررين حول إجبارهم من قبل مديريهم المباشرين على إنتاج هذا النوع من المواد الصحافية، بحثاً عن تحقيق الأرباح. لافتاً إلى أن النقابة لم تتخذ إجراءات حقيقية لأن الشكاوى لم تتسم بالطابع الرسمي.
مع ذلك، يؤكد كامل أن النقابة لا تمارس دورها في مراقبة ممارسات المهنة ومدى التزام أعضائها بضوابطها، كغيرها من المهام والمسؤوليات التي تخلت عنها المجالس المنتخبة في السنوات الفائتة بسب قلة اجتماعاتها: "صحافة اللايف مسؤولية رئيس التحرير في المقام الأول، لكن النقابة يجب أن بكون لها دور فاعل في التدريب والتوجيه ومراعاة ميثاق الشرف الصحافي".
خدمة البث المباشر كانت بطلاً في أزمات تغطية جنازات مشاهير الفن في مصر، بسبب المشادات التي نتجت عن رغبة المصورين وبعض الصحافيين في إجراء مقابلات أثناء مراسم الدفن والعزاء، ما تسبب في مطالبة الفنانين بتقنين إجراءات تغطية جنازات المشاهير بدعوى عدم احترام حرمة الميت والتعدي على خصوصيتهم، كما حدث في عزاء الفنانين الراحلين سمير غانم وزوجته دلال عبدالعزيز، وهو ما تحركت نقابة الصحافيين لتقنينه.
عقب هذه الحملة، أعلن نقيب الممثلين أشرف زكي تعاقده مع إحدى الشركات الخاصة لتنظيم مراسم دفن جثامين المشاهير، لتولي استخراج تصاريح الدفن وتوفير سيارة نقل الموتى والحفاظ على خصوصية المتوفي، لمنع ما وصفهم بـ"المندسين ومنتحلي صفة الصحافيين" من اقتحام الجنازات و"للحفاظ على حرمة الموت".
"بدأنا بالفعل في وضع معايير لتغطية الزملاء لجنازات المشاهير والشخصيات العامة بشكل يحترم الحياة الشخصية دون أن نتخلى عن واجبنا، بعدما رصدنا فتح البث المباشر في المقابر وتعدد شكاوى الفنانين من إجبارهم على الحديث عن المتوفي، فضلاً عن اقتحام مواطنين عاديين الجنازات بكاميرات منتحلين صفة صحافيين"، يقول محمود كامل.
أهل المهنة أدرى بشعابها
في السياق ذاته، يعول المسؤول السابق عن لجنة الحريات بنقابة الصحافيين، عمرو بدر، على أهل المهنة أكثر من السلطة في ضبط ومعالجة البيت الصحافي، سواء فيما ينشر أو يبث من مواد إعلامية، باعتبار أن السلطة تنتهج نهجاً مختلفاً في التعامل مع الإعلام "يغلفه القيود".
يؤمن بدر بأن أدوات المهنة الحديثة التي فرضتها التكنولوجيا "جسر لا غنى عنه ولا يمكن إغفاله للتواصل مع الشارع، كونها تؤدي دوراً في الدفاع عن القضايا الجماهيرية في السياسية والاقتصاد، وهموم المواطنين، وتسليط الضوء على الإبداعات الحقيقية لأشخاص مغمورين، وحينها فقط ستجلب أرباحاً أكبر، فضلاً عن تحقيق التأثير الغائب منذ سنوات طويلة".
كما يُحمِّل بدر نقابة الصحافيين جزءاً من مسؤولية الانتهاكات التي تسببت فيها فيديوهات البث المباشر، في إطار مسؤولية أوسع عما آلت إليه أوضاع المهنة، مع وضعه في الاعتبار أن النقابة تتعامل بشكل مختلف مع الصحافة الحديثة بروافدها المختلفة، في ظل وجود هيئات أخرى كالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، تشرف على عملية إصدار تراخيص المواقع الإلكترونية، وهو ما يصفه بدر بوجود قصور في الخيال لدى أعضاء مجلس النقابة.
على الجانب الآخر، يدافع قسم من أبناء المهنة عن صحافة اللايف باعتبارها طوق النجاة للكثير من المؤسسات الصحافية المأزومة اقتصادياً وتحريرياً.
"البث المباشر هو أحد نماذج التمويل المستحدثة للمؤسسات الصحافية في ظل ندرة وتراجع قيمة الإعلانات الممول الرئيسي لوسائل الإعلام، وفي ظل اتجاه المعلنين للسوشيال ميديا لقلة تكاليفها وسرعة انتشارها مقارنة بالمواقع"، يقول علي التركي، مدير تحرير في موقع البوابة نيوز.
لتركي كتابان متخصصان في تحديات صناعة الإعلام هما "صناعة المواقع الإخبارية" و "تطوير المواقع الإخبارية"، كما حصل على الماجستير من جامعة المنصورة، في إدارة المؤسسات الصحافية عن رسالة بعنوان "السياسة التحريرية في المؤسسات الإعلامية ذات المنصات المتعددة".
يتفق تركي مع بصل في أن سوء الإدارة وقلة مهارات القائمين بالاتصال، يأتيان من عدم تمتع الصحافيين بالخبرة الكافية في التعامل مع هذه الوسيلة الحديثة، وتسبب هذا في انتقاد الخاصية نفسها، لا طرق التعامل معها. "المراسلون لم يخضعوا لدورات تأهيلية في التصوير وإدارة حوار على الهواء، سواء من مؤسساتهم أو من قبل النقابة، عدا أن أغلب مديري المنصات ينتمون إلى العصر الورقي بأفكاره المختلفة عن الديجتال".
لكن التركي يرفض وصم التجربة بالفشل في ظل إنتاج مواقع قصص مميزة حية، حققت انتشاراً وراعت في الوقت نفسه معايير وضوابط المهنة، فهي "باتت معركة حياة أو موت حتى لا يتجاوزنا الزمن، كوننا نعيش عصر المنصات المتعددة، في ظل منافسة شرسة يخوضها الصحافيون مع اليوتيوبرز والبلوجرز".
الحل لا يكمن في وضع وثيقة حاكمة هي عبارة عن بنود جُلها عقابية مصحوبة بتشديد الرقابة، إنما يرى الصحافي محمد بصل ضرورة إيجاد تنظيم شامل لهذه الممارسة من داخل المؤسسات ذاتها مع تطوير التدريب وتوسيع أنماط الإنتاج في صورة إستراتيجيات متكاملة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعتين??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 22 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون