هل كل ما هو غير شرعي غير أخلاقي؟ منذ بدايات ظهورها صنفت لعبة كرة القدم الأكثر انتشاراً من بين الرياضات الأخرى، وأصبحت الأكثر شعبية في العالم حتى تطورت الى شكلها الحديث في منتصف القرن الماضي، لكن تطور شكلها لم يأت مجانياً فقد ترافق مع تحولها إلى واحدة من أكثر الاستثمارات المدرة للأرباح في العالم، وإلى تحول الفيفا إلى واحدة من أكبر المؤسسات المالية التي يفوق رأسمالها موازنات كثير من الدول.
ارتبطت اللعبة أكثر من سواها بالتشجيع في الملاعب إلى أن تبنت إذاعات الراديو في ثلاثينيات القرن الماضي فكرة بث المباريات، ما أعطاها إمكانية الوصول إلى مختلف الطبقات الإجتماعية.
مع مرور الزمن استحوذت كرة القدم على مشاعر الفقراء، فأصبحت رياضتهم الأولى حتى أن أبرز لاعبيها يخرجون من الطبقات الدنيا التي تعاني من الفقر نتيجة قدرة الأطفال في الأحياء المهملة على اللعب في أي مساحة صغيرة مفتوحة، دون الحاجة إلى بنية تحتية أو أدوات كالمضارب، فالشباك تكون رمزية من خلال وضع حجرين، والشارع أو الأرض الفارغة كفيلة بأن تكون الملعب، وأية كرة ستفي بالغرض، أما تشكيلة الفرق فهي الأسهل وتضم أطفال الحي كلهم تقريباً.
لعبة الفقراء التي امتلكها الأغنياء
كانت مشاهدة كرة القدم وما زالت الملاذ الترفيهي الوحيد لمن لا يستطيعون الوصول إلى ملاعبها، وظلت تتغير وتزداد انتشاراً كلما تطورت وسائل التواصل. فمع انتشار أجهزة التلفاز في المونديال الذي أقيم في سويسرا عام 1954 نقلت مباريات كأس العالم عبر الشاشات.
وفي العام 1960 ولأول مرة في تاريخ اللعبة حدث بيع لحقوق البث في مباراة جمعت فريقي ريال مدريد الإسباني وأوتريخت الهولندي، ومن بعدها قرر الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) اعتماد سياسة بيع حقوق البث لمباريات كأس العالم عبر شاشات التلفزيون وتضاءل بثها على الراديو.
في العالم العربي اقتصرت مشاهدات المونديال على التلفاز والقنوات الأرضية قبل ظهور سياسات التشفير والاحتكار، بالتحديد عندما تبنت شبكة راديو وتلفزيون العرب الفضائية "ART" شراء حقوق البث وتشفيرها في عام 1996
على صعيد العالم العربي اقتصرت مشاهدات المونديال على التلفاز والقنوات الأرضية قبل ظهور سياسات التشفير والاحتكار، بالتحديد عندما تبنت شبكة راديو وتلفزيون العرب الفضائية "ART" شراء حقوق البث وتشفيرها في عام 1996، الأمر الذي منع الشرائح الأوسع في الدول العربية من مشاهدة البطولة، وهي السياسة التي ما زالت تطبقها مجموعة قنوات بي إن سبورت.
تعيش الشعوب العربية اليوم حالة من الانتظار والترقب لمنافسات كأس العالم ستنطلق من أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني وستستمر حتى منتصف ديسمبر/كانون الأول، لا سيما أنه أول مونديال على أرض عربية. وفي ظل استمرار سياسة الاحتكار وغلاء أسعار الباقات لجأ الملايين من عشاق المستديرة في العالم العربي إلى طرق غير رسمية لمشاهدة المباريات.
الـ"IPTV" بث رقمي بديل في العراق
سامر النقيب (34 عاماً) مهندس ميكانيكي يقيم في منطقة النجف في العراق يقول لرصيف22 إن غالبية الشعب العراقي لا يقدر على دفع ثمن باقات القنوات المشفرة، لذا يلجأ بعضهم للمشاهدة في المقاهي والحدائق العامة، ومقابل ذلك يطلبون النارجيلة أو مشروباً حتى يتسنى لهم المشاهدة، لكنها في النهاية مكلفة أيضاً.
أخيراً وجد غالبية العراقيين طريقة غير شرعية بديلة وهي خاصية إعادة البث التلفزيوني عبر الإنترنت المعروفة باسم "IPTV" وهو اشتراك سنوي يتيح بث قنوات بي إن سبورت الرياضية كاملة بتكلفة 30 ألف دينار عراقي في السنة أي ما يعادل 20 دولاراً.
ويروي النقيب أنه تواصل مع أحد مروجي هذه الخدمة عبر موقع فيسبوك، والتي تعمل من خلال الشاشة الذكية بسهولة بعد تحميل أحد برامج الخاصية من متجر الشاشة ثم الاتفاق على سياسة الاستخدام ومدة الدفع سنوياً، وهي أفضل بديل على حد تعبيره لسياسة احتكار البث وتبلغ كلفتها 2500 دينار عراقي شهرياً أي 1.5 دولار.
قمر عاموس الإسرائيلي في مصر
يقول أحمد الطيب المساوي (27 عاماً) المقيم في قرية المساوية التابعة لمدينة إسنا في الأقصر لرصيف22: "نجتمع في أجواء أسرية بشكل يومي لمشاهدة المباريات المشفرة أمام حقولنا وبيوتنا، نخرج التلفاز على طاولة صغيرة وننتظر صواني العشاء وأكواب الشاي واليانسون، ولا باقة ولا وجع قلب".
ويضيف أن شبكات الإنترنت لم تصل إلى البلدة التي يعيش فيها بشكل كامل حتى اللحظة بسبب ضعف البنية التحتية وقلة عدد محطات التغذية المخصصة لخطوط التليفونات الأرضية، الأمر الذي جعلهم في القرية يلجأون إلى حيلة بدائية من خلال (الوصلة) وهي أن يشترك شخص في عدد من باقات "بي إن سبورت"وشو تايم ويقوم بتوزيعها على أجهزة الرسيفرات من خلال "ديكودر" يعلق على عواميد الإنارة، حيث يمد أهالي القرية أسلاكاً على منازلهم تبلغ تكلفتها 70 جنيهاً مصرياً أي ما يعادل 3.5 دولار.
توقف عمرو حسني المقيم في الجيزة عن الذهاب إلى المقاهي برفقة زوجته، لعدة أسباب منها غلاء أسعار المشروبات والشيشة، وانتشار الألفاظ الجارحة من مشجعي كرة القدم، ووجد حيلة لمشاهدة مباريات دوري أبطال أوروبا وتمكنه من مشاهدة مباريات المونديال أيضاً.
في القرية يلجأون إلى حيلة بدائية من خلال (الوصلة) وهي أن يشترك شخص في عدد من باقات "بي إن سبورت" و"شو تايم" ويقوم بتوزيعها على أجهزة الرسيفرات من خلال "ديكودر" يعلق على عواميد الإنارة، حيث يمد أهالي القرية أسلاكاً على منازلهم
يقول لرصيف22 إنه يشتري قطعة "دش" لاقط إشارة بسعر 30 جنيهاً أي ما يعادل 1.5 دولار، ويركبها في طبق الدش الهوائي ثم يقوم بتغيير اتجاهه لاستقبال قمر "عاموس" الإسرائيلي بدلاً من النايلسات، مؤكداً أن القمر الإسرائيلي يبث باقة كبيرة من القنوات الرياضية. ونظراً لأن المباريات تبث بتعليق عبري يلجأ إلى تشغيل البث المباشر دون صورة على الانترنت حتى يستطيع مشاهدة المباراة بتعليق عربي.
مجموعات لمشاركة اللينكات في فلسطين
أما أزهار الفرا (29 عاماً) وهي طالبة ماجستير من خان يونس وعاشقة لكرة القدم خاصة الدوريات الكبرى والبطولات العالمية، فتواجه عقبات مثل جميع الفلسطينيين، في ظل ارتفاع أسعار اشتراكات القنوات وعدم قدرتهم على شرائها، وفي الوقت نفسه لا تستطيع الذهاب إلى المقاهي، لذا لم يبق أمامها إلا الجلوس في غرفتها والبحث عن لينكات البث المباشر على مواقع الانترنت وهي طريقة يلجأ اليها كثير من الفلسطينيين على حد قولها.
في أوقات الدوريات الكبرى والمونديال يتم تأسيس مجموعات على الواتسأب وفيسبوك عملها الوحيد هو نشر اللينكات التي تعمل أو ما زالت تعمل في حال توقف بعضها، وتسهيل عملية البحث على الأعضاء
ففي أوقات الدوريات الكبرى والمونديال يتم تأسيس مجموعات على الواتسأب وفيسبوك عملها الوحيد هو نشر اللينكات التي تعمل أو ما زالت تعمل في حال توقف بعضها، وتسهيل عملية البحث على الأعضاء.
الـ"شيرنج" في تونس
تقيم هدير بالرزاقة (31 عاماً) في العاصمة التونسية وتهوى كرة القدم، تلجأ في كثير من الأحيان إلى مشاهدة المباريات في المقاهي لعدم قدرتها على دفع ثمن الاشتراك، ولأنها تحب مشاهدتها في أجواء عامة تعطي شعوراً بالحماسة خاصة أن المباريات تحتاج إلى شاشات تلفزيون ضخمة لتكتمل متعة الأجواء.
ونظراً لصعوبة نزولها بشكل يومي خلال المباريات وجدت طريقة "الشيرينغ" وهي شراء رسيفر صغير الحجم استطاعت من خلاله مشاهدة المباريات والمسلسلات والأفلام، هو جهاز رخيص الثمن يفتح القنوات عبر الإنترنت بتكلفة 130 ديناراً تونسياً، أي 40 دولاراً وتجدد باقته بشكل سنوي.
هل يحاكم رأس المال أخلاقياً؟
لكن هل كل ما هو غير شرعي غير أخلاقي، وهل تتم محاكمة الفقير على مطالبته بالمتعة حين يفقد الخيار بنفس الشدة التي تتم بها محاكمة المقتدر مالياً صاحب الخيار؟
تصف أستاذة علم الاجتماع في كلية التربية جامعة عين شمس د. سامية خضر احتكار البث سواء لمباريات كرة القدم أو غيرها بأنه "تكريس لفكرة الطبقية وأنه يتسبب بإحساس بالدونية لأفراد الشرائح الاجتماعية غير القادرة على دفع الإشتراك، تقول لرصيف22: "كرة القدم لعبة شعبية بالدرجة الأولى واحتكار بثها يخلق نوعاً من التفاوت والتقسيم بين فئات المجتمع، ناهيك عن حرمان طبقة لصالح أخرى من المتع والسعادة، وهذا يؤدي إلى شعور الفقراء بمزيد من الرفض المجتمعي".
وترى خضر أن حرمان أي شخص من المتعة التي يجب أن تكون متاحة يشعره بالأسى، ويجعله رافضاً لمجتمعه، لأن الإنسان اجتماعي بطبعه، مطالبةً بتوقف جذري لسياسة احتكار المتعة سواء مشاهدة مباريات المونديال أو الأفلام والمسلسلات في ظل الانتشار الواسع لمنصات البث المنزلية التي تتيح الفن مقابل المال، فهذه السياسات على حد تعبيرها هدفها الوحيد "تصدير الشعور بالهزيمة والانعزال والتقسيم وهي أشياء بدورها تزيد من تخلف المجتمعات وانتشار العنف فيها".
عالمة اجتماع... كرة القدم لعبة شعبية بالدرجة الأولى واحتكار بثها يخلق نوعاً من التفاوت والتقسيم بين فئات المجتمع، ناهيك عن حرمان طبقة لصالح أخرى من المتع والسعادة
وتعليقاً على اتباع الملايين في العالم العربي طرقاً غير شرعية تمكنهم من مشاهدة المباريات، تقول: "إن التمرد في هذه الحالة هو فعل أخلاقي رغم أنه في باطنه تمرد، لأنه في هذه الحالة دليل على أنهم أشخاص طبيعيون يبحثون عن متعة المشاهدة والسعادة، فمن حقهم أن يشاهدوا فريقهم المفضل أو نجمهم المفضل في مباراة أو مسلسل أو أغنية أو فيلم. لا يقتصر الأمر على كرة القدم. لماذا يشاهد جاري ما حرمت أنا منه؟ الأمر هنا مجرد توحش للرأسمالية على حساب السعادة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف