"ذلك الخطاط كتب ثلاثة خطوط؛ واحد قرأه هو وليس الغير، واحد قرأه هو والغير، واحد لا هو قرأه ولا الغير. أنا ذلك الخط الثالث". (شمس الدين التبريزي) — صفحة تحررها مريم حيدري
أخي، رضا، كان متضايقاً منّي دائماً، حيث كان عليه في كثير من الأحيان أن ينقذني من المواقف الصعبة. ذات مرّة، قبل أن أتوقّف عن الذهاب، أو أن أُطردَ (لا أتذكّر أيّهما كان) من ثانوية فيرفاكس في ويست هوليوود، اتصلتُ به من هاتفٍ عمومي في زاوية شارع سانتا مونيكا وهولوواي درايف، لأخبرَه أنني مطارَد، وبحاجةٍ إليه كي يخرجني من هذه الورطة. شتمَ وحَلفَ، لكنّه جاء.
قبل ساعة من ذلك، كنتُ قد خضتُ عراكاً في الصفّ، وضربتُ تلميذاً مشاكساً من الصفّ العاشر بسلسلة معدنية، وهربت. وكنتُ أسير مشياً على الأقدام، فشعرتُ أنه وشلّته أخذوا يطاردونني بسيارة. المهمّ أن رضا، رغم غضبه جاء لإنقاذي، تماماً كما فعل بضعة أشهر بعد ذلك، عندما كان يجب أن أُنقَل إلى غرفة الطوارئ لغسل معدتي، بسبب فعلٍ تافهٍ آخر كنت قد ارتكبته. بعد المستشفى، لم يشتمْني رضا ولم يصرخ في وجهي. بدلاً من ذلك، أخذني إلى محلٍّ لبيع الهامبرغر، ورغم حالة معدتي، طلبَ الطعامَ، وحتّى حاول أن يبتسم.
أظنّ أنه كان عند ذلك قلقاً حقّاً من أنني قد لا أدومُ طويلاً في هذا العالم. بعد أعوامٍ انقلبتْ أدوارُنا: في قمّة شهرةِ أخي، وبداية دخول إصابته بالإيدز مرحلتَها الخطيرة والأخيرة بنفس الوقت، بعد عامين من المكوث في طهران، عدتُ لكي أعيشَ معه وشريكِه براندن، في نيويورك. سرعان ما أصبحنا أنا ورضا زميلين في العمل. كان يريدني أن أشاركه كتابةَ مسرحياته، وكنتُ أريد، بقوّةٍ، ألّا يموت.
حين مات، لم أسقط مباشرة في الهاوية. بل استغرق الأمر حيناً من الوقت؛ خطوة صغيرة في الزمن نحو أسفل سلّم الاكتئاب المؤدي إلى الظلام المحتوم. شعور شاملٌ بالضيق طغى واستحوذ في السنوات اللاحقة على معظم ساعات أرَقي حتى بعد أن نشرتُ كتابي الأوّل، وحصلتُ على بعض الاعتراف في عالم نيويورك الأدبي القاسي، وتمكّنتُ من الحصول على وظيفة أكاديمية محترمة بسبب كتابتي.
كان يريدني أن أشاركه كتابةَ مسرحياته، وكنتُ أريد بقوّةٍ ألّا يموت... سالار عبدُه يكتب عن أخيه، المسرحي البارز رضا عبدُه
يمكن للحزن أن يتّخذ أشكالاً مختلفة. أحياناً يبدو الأمر كما لو أنك قد دلفتَ إلى كهف؛ كلّما تقدّمتَ كلّما أصبح الضوءُ أقلَّ لترى طريقَك. وفي نهاية المطاف، تبلغ نقطةَ الظلام البحْت. وبالنسبة لي حدث ذلك ذات ليلة؛ ذهبتُ إلى النوم، وحين استيقظتُ، كأنما زرّ المفتاح كان قد انطفأ.
في ليلة عيد الميلاد الستّين لمعلّمي وأستاذ الكتابة وجدتُ نفسي، مثل سمكة خارج الماء، ضيفاً في بيتٍ مليء بنجوم عالم الأدب والفنّ في نيويورك. أحد أولئك الضيوف كانت سوزان سونتاغ التي كانت راعية لمسرح رضا. حين قلتُ لها من أنا، ضمتني سونتاغ ضمة وجيزة وحميمة. ثمّ افترقنا ولم نتحدّث مرّة أخرى. وبالرغم من أنني لم أكن حقاً من محبّي أسلوب سونتاغ المكثّف في الكتابة، إلا أنني كنتُ أريد أن أصدّق في تلك الحالة أن التفاتًا صغيراً إلى رحيل رضا من مفكّرة من عيارِها، قد يُعطيني نوعاً من القوة العاطفية. أملٌ أصمّ، مولود من العذاب.
من اليمين إلى اليسار: رضا وسالار
في الصباح التالي، فتحتُ عينيّ، لكنني لم أستطع الخروج من السّرير؛ كما لو أن أحد أعضاء جسدي كان قد بُتر. ذلك العضو، أعرف الآن، أنه كان رضا. ذلك اللقاء المختصر مع سونتاغ، داعمة رضا البارزة، عزّزت حقيقةً لم أتصالح معها طيلة العام الماضي: رضا، أخي، كان قد رحل بلا عودة. كنتُ قد فقدتُ ركيزتي الأساسية في هذه الحياة. وأصبحتُ وحيداً.
لستُ مقتنعاً بالقول المأثور الذي يقول إن الزمن يشفي؛ ما يفعله الزمنُ هو أن يثلمَ الألم، وهو شيء مختلف، كما لو أننا ننظر إلى صورة قديمة، شاحبة وبعيدة، لكنها ما تزال حاضرة جدّاً. السنة الأخيرة من حياة رضا كانت تفوق الطاقة والتحمّل. له. ولي. ولشريكِه. هناك أشياء قليلة فقط في الحياة تكون مفجعة أكثر من مشاهدة يوم "جيّد" لشخصٍ مصابٍ بمرضٍ مميت، بصيصٌ من العافية، والأمل؛ لأنه عندما يعود المرضُ ثانية -ودائماً ما يحدث ذلك- نشعر أن العالم قد لعب مزحة قاسية.
رضا عبدُه يتوسط أخويه سالار وسَردار- 1992- لوس أنجلوس
رأيتُ ميتاتٍ عديدةً بعد موت رضا؛ بما في ذلك موت الرّجال المفاجئ والعنيف في ساحات المعركة، غير أنه، بالنسبة لي، ليس ثمة شيءٌ يمكن مقارنته بأن يتضاءل شخص عزيز علينا ببطءٍ أمام أعيننا، وأن نشاهد قوّةَ الحياة تغادره شيئاً فشيئاً في يومٍ من الأيام، إلى أن لا يبقى شيء يمكن الصراع من أجله.
تَقدُّم رضا السريع في عالم المسرح من لا شيء، جعل الناسَ متلهفين كي يفهموا بشكلٍ أفضل من هو، وما هي خلفياته. مسرحياته أدهشت الجماهير. سواء في المشاهد التي أخرجها في مختلف حارات المدينة أم تلك التي انحصرت في المساحات الضيقة والخانقة، كان قادراً على أن يلتقط تصاويره، ويستخلص عروضاً من ممثّليه بحجم التضحية بالنفس. مسرحُه كان مسرحاً غاضباً في غاية الإثارة؛ يعاقِبُ ويستنفد طاقة المشاهد؛ على سبيل المثال، بعد مشاهدة عرضِ رضا لـ"الملك لير"، الذي كان إنتاجاً متواصلاً لثلاث ساعات بينما لم يكن هو قد بلغ إلا واحداً وعشرين عاماً، وبميزانية كادت تكون لا شيء، أصبحت مشاهدة العروض الأخرى لشكسبير بالنسبة إليّ وكأنها واجب إجباري. نحن الذين كنّا معه، كنا نعرف، ربّما دون وعيٍ، بأنّ شيئاً خارقاً كان يحدث هنا. هذه التدريبات وهذه العروض لن تتكرّر مرةً ثانية في تاريخ المسرح، لا بهذه الطريقة، ولا بهذه القوّة والحيوية. قد يأتي آخرون ويقومون بأعمالٍ هائلة أيضاً، لكنّ المسرح الذي كان يأتي به رضا على المنصة العالمية، كان له وحده، ليس إلا؛ وبمجرّد رحيله (وكلّنا كنّا نعرف أنه سيرحل)، لا أحد سوف يستطيع أن يحلّ مكانه.
توفي رضا في الثانية والثلاثين من عمره، وبعد ذلك تدافعت الأسئلةُ التي كانت في الحقيقة قد بدأت قبل ذلك بمدة طويلة.
هل درس رضا حقّاً الرقص الكاثَكالي (Kathakali) في الهند؟ لا.
هل شارك رضا كممثلٍ طفلٍ عمره تسع سنوات في إحدى مسرحيات روبرت ويلسون الملحمية في مهرجان شيراز للفنون في إيران؟ أمرٌ مستبعَد.
ولكن على صدر قائمة الأسئلة المطروحة من قبل الباحثين، والمطّلعين والمعنيين بالمسرح، كانت مقولة مفادها أن أمّنا إيطالية. أمّنا كانت في الحقيقة فارسيةً مئة بالمئة، دون أن تكون لديها ذرة من النسب الإيطالي.
أثار اهتمامي السبب الكامن وراء تلفيق رضا في بداية حياته المهنية كلّ ذلك، ولماذا كان الناس يركّزون على فكرة كون أمّنا إيطالية. أكذوبة رضا كانت قد نشأت من نقطةِ خوف. الخوف من عدم النجاح في بيئة كانت فيها المشاعرُ العدائية تجاه الإيرانيين عالية جدّاً. كان ذلك في منتصف الثمانينات تقريباً. كانت الثورة الإيرانية لا تزال طريّة، كما أن إيرانُ كانت في حربٍ مع العراق، وذكرى أزمة الرهائن الأمريكيين الأخيرة كانت مزروعة في الذاكرة الأمريكية بعمق. أعرف أن رضا ندم بعد ذلك على قوله إن أمّه إيطالية، ولكن، في ذلك الوقت، وعندما كان في العشرينيات من عمره فقط، ولم يزل يشقّ طريقه جاهداً، أنْ يخبر الناس بأن لديه أمّاً إيطالية كان يمنحه بعض الحرية في التصرّف، ويجعله أكثر غرابة بدلاً من أن يكون خائفاً. ولكن لِمَ هذا الافتتان من قبَلِ الآخرين بماضينا الإيطالي؟
حين مات، لم أسقط مباشرة في الهاوية، بل استغرق الأمر حيناً من الوقت
لسنوات عديدة كنتُ أجدني سريع الغضب كلّما سألني أحدهم إن كانت أمُّنا إيطالية. اللعنة! لا. كنتُ أريد أن أصرخَ كلّ مرّة، رغم أني لم أفهم تحديداً ما هو مصدرُ غيظي. استغرق الأمرُ كثيراً من الوقت والتأمل في الآثار الخبيثة الناشئة من لاوعي الشوفينية الثقافية حتى أدركتُ أخيرًا السرّ: وجود أمٍّ إيطالية برَّر عبقرية رضا لكثير من الناس. كان من المستحيلِ قبولُ هذه الحقيقة أن إيرانياً، لم يتجاوز عمره الثلاثين حتى، قد أعاد صياغة قواعد المسرح العالمي، وكان يرتقي الآن بالفنّ. لا بدّ من أن يكون نصفٌ إيطاليّ فيه كي يحقّق ذلك؛ وأن يكون ذلك الدّمُ الأوروبيّ المميّز يجري لا محالة في عروقه، دمُ دانتي وفيردي وبيرانديلو وفليني.
نوع من الاستعلاء واجهتُه مراراً وتكراراً في حياتي؛ لا تمرّ سنة دون أن يُعربَ أحدٌ ما عن دهشته أمام شغلي منصباً في قسم الأدب الإنكليزي بجامعة كبيرة في أمريكا، فما بالك إن كانت في نيويورك. لا يبدو للأجانب أنه كما أن شخصاً أمريكياً أو بريطانياً أو فرنسياً يمكنه أن يكون أستاذاً للفارسية أو العربية، فالعكسُ أيضاً يمكن أن يحدث. أتذكّر حواراً للرّاحل إدوارد سعيد في هذا المجال، يتحدّث فيه عن تفاجؤ شخصٍ ما وتساؤله بأنه كيف له، هو العربي، أن يستطيع العزف على البيانو، بل ويتقن ذلك.
أكاذيب رضا البيضاء، ومبالغاته من حين إلى آخر، كانت تطاردني لفترة طويلة، لا سيّما تلك التي كان يؤكّد فيها أنه تعرّض إلى إساءة بدنية من قبل والدِنا. كان والدُنا رجلاً شرقَ أوسطياً صارماً، ميّالاً إلى المعاملة العفوية بعنفٍ تجاه أيّ شخص، منحدراً من أسلاف من منطقة "لُرِستان" الإيرانية، حيث يُعرّف الأفراد فيها وفق حبّهم للمشاجرة وشهامتهم. بالنسبة إلى رضا الذي كان يصارع للغاية من أجل فصل هويته المثلية الواضحة عن خلفيته الفحولية، شكّلت فكرة الإساءة البدنية المستساغة للآذان الغربية كانت قطعة أخرى لأسطورة أكبر، ليست بعيدة عن تعلّم الـ"كاثَكالي" في الهند أو التمثيل في طفولته في مسرح روبرت ويلسون في طهران. هذه الأمور تركتْ مفعولها، فقد أضفت غموضاً على شخصيته اكتملَ به مسرحُه.
ملصق لأحد عروض رضا عبده
على أيّ حال، بمرور الوقت وضعتُ تلك الأكاذيب البيضاء جانباً وحاولتُ أن أنساها. موتُ رضا كان قد قضى عليّ. كنّا نشتغل على المسرحية القادمة التي كان من المقرّر أن يكون عنوانها "قصة عار". ذات مرّة، مررتُ بمكتبتِنا في الشقة التي كنّا نتشاركها في تايمز سكوير، فوجدتُ نسخة لكتاب خورخه لويس بورخيس، "تاريخ العار العالمي"؛ كتاب أهيف، تبيّن لي فوراً أنه من المحتمل أن رضا كان قد استلهم العنوان منه. كان عنواناً جيداً، رغم أن بورخيس نفسه كان يعتقد دوماً أن قصصَ هذا العمل المبكر هي محاولة لليافعين.
كنّا أنا ورضا، قد وجدنا آنذاك إيقاعنا. كان هو يمنحني الصورة أو التيمة، ويسمح لي أن أبحر فيها. مهمّتي كانت أن أجد ما يمكن كتابته، بشكلٍ حرٍّ تماماً، وبعيداً عن رغبتي الطبيعية في كتابة روايات أو مقالات منظّمة بإحكام. العمل مع رضا كان يحرّرني؛ كان شعراً، وشيئاً ما لم أستطع فعله أبداً.
الفكرة الرئيسية لـ"قصة عار"، كان ينبغي أن تُجسَّد من خلال شخصين ينتظران موعد إعدامهما؛ أحدهما حقيقي والآخر افتراضي؛ واحد منهما، مثل رضا، كان يموت من مرض عضال، والآخر كان في السجن ينتظر تنفيذ الحكم عليه بالإعدام. أتذكر أنه خلال تلك الفترة كانت شقّتنا مكتظة بكتبٍ تتناول موضوعين: عقوبة الإعدام ومحنة سود البشرة في أمريكا. على الرغم من مسرحية رضا "ضيّق، أيمن، أبيض"، وانتقاده الشرس فيها لآفة العنصرية، إلا أنه لم ينته من الأمر، بل كان عازماً على أن يعود إليها من الباب الخلفي بـ"قصة عار". الإحصائيات تقول إن السكّان السود في الولايات المتحدة يشكّلون حوالى 12 بالمئة، في حين أن السجناء المحكوم عليهم بالإعدام من السود يشكلون نسبة مذهلة بلغت 42 بالمئة.
"قصة عار" كانت نوعاً من "الغضب من موت النّور" الذي كنّا تطرّقنا إليه إلى حدّ ما في مادّتنا الأخيرة، "اقتباسات من مدينة مدمَّرة"، وهي مسرحية تناولت المرض والموت والإبادة الجماعية التي كانت تحدث آنذاك في يوغوسلافيا السابقة.
رضا عبده
كنت أبحث عن كتبٍ لرضا وأيضاً عن كتب لأطلع عليها، تحضيراً للمسرحية الجديدة، فبدا لي واحد منها ملائماً في ذلك الوقت. عثرتُ عليه في محل ستراند (Strand) لبيع الكتب: "ثمِلٌ من مرضي" لأناتولي برويارد؛ كتيّب عاطفي ألّفه ناقدُ نيويورك تايمز، قبل أن يستسلم أخيراً لمرض السرطان. صحةُ رضا كانت تتدهور يوماً بعد يوم، ومع ذلك كان يستوحي من جُمَل برويارد، ويبدو أنها كانت ترفع من معنوياته. في تلك الأثناء كانت أحاديثنا متواصلة، وكتابتي له مستمرّة. لا أتذكّر السياق، ولكن، ذات يوم اقترحت عليه سطراً معيّناً لمسرحيتنا: "ماذا لو كان الترجّل كلمة وحيدة؟". شدّته فوراً فكرة الترجّل، التي تدلّ على كلٍّ من الوصول ونهاية الرحلة. فالترجّل كلمة تحيل إلى تأويلين؛ حيث أنها النهاية والبداية في نفس الوقت؛ مغادرة السفينة بينما هي ترسو في الميناء.
لكن توكيد الجملة كان على الوحدة الجوهرية للحالة، ماذا لو كان المكانُ الذي يصل إليه الشخص، أي الموت، مرحلة أخيرة لا عودة فيها؟ لأيام طويلة ظلّ رضا سابحاً في هذه الفكرة، ويسألني كيف ولماذا خطرتْ تلك الجملة ببالي. لم أقل: "لأن عقلي، يا رضا، يتسابق مع موتِكَ. كلاهما، عقلي وموتُك، لن يتركاني وشأني". من هنا تصبح الذاكرة ضبابية. لا أعرف إن كانت أياماً وأسابيع قبل موتِ رضا، أو أسابيع وأشهراً. ما هو مؤكد أنه لم تعد هناك مسرحية أخرى. كنا قد انتهينا.
وماذا حصل لسيناريو "قصة عار"؟ مرور الوقت يقنعني بأننا لم نكملها أبداً. في الحقيقة، أقنعت نفسي أننا لم نبدأها أصلاً. ربما سطر هنا، وسطر هناك؛ بعض الفقرات العشوائية، وليس أكثر؛ فكرةٌ أستطيع أن أتعايش معها، لأنها تخفّف من ألم أننا كنّا على أعتاب إنجاز مسرحية أخرى، لكنّنا لم نعد قادرين على ذلك. بعدها، في 2012، أي بعد سبعة عشر عاماً بعد رحيل رضا، رأيتُ مصادفة إعادة نشر مقابلة أجراها معي الكاتب دانييل موفسون (Daniel Mufson) عام 1998. جانب من محادثتنا كان كما يلي:
د.م: تعاونك معه كان مكثّفًا أكثر في "اقتباسات من مدينة مدمّرة"، أليس كذلك؟
س.ع: كان يبدأ تعاونُنا، على ما يبدو، من تلك النقطة، على أن أكتب كلَّ مسرحياته. وكتبتُ المسرحية الأخيرة؛ في الحقيقة أنهيتها. لكنّه مرض بعد ذلك.
د.م: "قصة عار؟"
س.ع: نعم.
نحن الذين كنّا معه، كنا نعرف، ربّما دون وعيٍ، بأنّ شيئاً خارقاً كان يحدث هنا... سالار عبده في مجاز الخطّ الثالث، رصيف22
أيهما هي الصحيحة؟ ذاكرتي -ربما الذاكرة الفاشلة- لعام 2012، والتي تقول إننا لم نُنهِ "قصة عار"؟ أم إصراري عامَ 1998، الوقت الأقرب من رحيل رضا، على أن نصّ المسرحية كان مكتملاً؟ لِمَ هذا التناقض؟ هل كنت أكذب آنذاك، بالطريقة التي كان يرغب رضا بين حين وآخر أن يفعل؟ أم أن حطام الوقت ساعدني أن أمسح شيئاً ثميناً من واحدة من أكثر مراحل حياتي امتداداً وألماً؟ ومع ذلك، أعرف أن نوبة غضب ذاتية التدفّق -غضب من موت رضا- ساقتني نحو تسليمِ كلّ ما كتبتُه لتلك المسرحية للريح. لم أعد أعرف ما هي الحقيقة. أشعر بعدم الارتياح، بل بالذّلّ، لعدم معرفتي. يقال إن النسيانَ آليةُ دفاع. ما كان مدى أهمية ذلك بالنسبة إليّ لكي أنسى "قصة عار"؟ لن أعرف أبداً.
لِنعُدْ إلى مسرحيتنا غير المكتملة؛ ما حملته معي لأطول وقت ممكن، كان ذلك السطر اليتيم: "ماذا لو كان الترجّلُ كلمة وحيدة"، فقط لأن رضا كان مأخوذاً جدّاً بدلالته حتى ظلّ يردّده بصوت عال.
في إحدى الفعاليات التأبينية التي أقيمت لرضا في عدة مدنٍ مختلفة حول العالم بعد مرور وقت قصير على موته -وهذه بالتحديد كانت في لوس أنجلوس- تقدَّم أحدٌ ما نحو أمّنا، وأخذ فجأة بالحديث بالإيطالية. واضح أنه كان يريد أن يحدّثَ والدة رضا بلغتها الأمّ المفترضة. تراجعت لبرهة، ولكنها لم تترك المعركة، فأمّنا التي تتحدّث الفرنسية والإنكليزية بطلاقة (ولكن ليس الإيطالية)، وكانت قد حصلت أخيراً على التأشيرة لكي تأتي إلى الولايات المتحدة، لتكون مع رضا في أيامه الأخيرة، ألقت نظرةً مسرحية بالفعل ومبرَّحة من العذاب، مثل ممثّلة حاذقة، وقالت: “أرجوك! هذه اللغة تجلب لي الذكريات السيئة، وحسب. لا أريد أن أتحدّث بها”. صدّقها الشخصُ أو ربّما تظاهر بذلك، ولم يعودا إلى الحديث بالإيطالية، لغتها "الأمّ"، من جديد.
ذات يوم منحتُه سطراً معيّناً لمسرحيتنا: "ماذا لو كان الترجّل كلمة وحيدة؟". شدّته فوراً فكرة الترجّل، التي تدلّ على كلٍّ من الوصول ونهاية الرحلة
ذكرتُ هذا فقط لأنه قد يكون نهاية مناسبة؛ حيث يمكنني أن أترك الأكاذيب والذكريات الملتبسة خلفي. لكن الحياة ليست شفافة دائماً. وهكذا إلى أن جاء ربيع 2018، وكان متحف نيويورك للفنّ الحديث ومجلة بيدون (Bidoun) في مراحلهما الأخيرة للاستعداد من أجل موسمِ عرضٍ طويل لمعرض استرجاعي عن رضا، حينها عادت إليّ الرغبة في معرفة الحقيقة، وكنت على تواصل مستمرّ مع القائمين على المعرض من أجل ترتيب التسلسل الزمني لحياة رضا وبعض تذكاراتِه.
توجد أرشيفات رضا عبده في المكتبة العامة للفنون الاستعراضية في مركز لينكولن (Lincoln Center)، وهو مركز هائل ومفعم بالثّروات للباحثين، ولكنني لم أزره على الإطلاق خلال السنوات العديدة التي كنت أمرّ من أمامه عدة مرّات في الأسبوع. لماذا لم أذهب إلى هناك أبداً لمعرفة المزيد عن “قصة عار”؟ هذا كان السؤال الأول الذي طرحتُه على نفسي.
والجواب: "لأنك طالما كنتَ تخشى ما قد تجده. لأنك لم تكن مستعدّاً لذلك".
في منتصف شهر أيار/مايو، ذات يوم مشرقٍ ودافئ، عندما كان خريجو الجامعات الجدد بقبّعاتهم وعباءاتِهم في مركز لينكولن (Lincoln Center) من أجل التقاط صور لبعضهم بعضاً، قمتُ أخيراً بتلك الرحلة. تُقابل المكتبة تمثالاً معدنياً كبيراً لألكسندر كالدر (Alexander Calder)، في القسم الخلفيّ من المجمّع الواسع الذي يضمّ أيضاً أوركسترا نيويورك الفيلهارمونية، وأوبرا متروبوليتان، ومدرسة جوليارد (Julliard School)، ومسرح الباليه الأمريكي: عدد من الأماكن الأكثر قيمة على هذا الكوكب. بينما كنت أنتظر أن يُحضرَ لي أمين المكتبة “العلبة رقم 6” من أرشيف رضا عبده (العلبة التي تحتوي تحديداً على مشاريعَ عمَلْنا معاً عليها نحن الاثنان)، قمت بجولة قصيرة للمكان، ورأيت في الواجهة الزجاجية أشياء ثمينة لأيّ جامعِ مقتنيات -أحذية أرتورو توسكانيني (Arturo Toscanini)، وأقلام كلارا شومان (Clara Schumann)، منديل فرانز ليس (Franz Liszt)، إلخ.
كان المكان مَعلَماً للتنظيم وسهولة العثور على الأشياء، على عكس كلّ ما أعرفه من المكان الذي أنحدِرُ منه. وأنا الذي لم أحتمل البقاء في المكتبات أو المتاحف أكثر من خمس دقائق، دون أن أشعر بالملل والنعاس، كنتُ آنذاك مفتوناً ويقظاً تمامًا. كان ذلك تكريماً موجّهاً من العالم الغربي إلى نفسه؛ قدرته على صيانة الأشياء، وعدم السماح بتركِها تختفي بسهولة، من أجل الحفاظ على الشعور بالاستمرارية، وبالتالي، بالاحترام.
عندما وصلَت العلبةُ، أوّل ما لفَتَ انتباهي كان سيناريو من 151 صفحة، كنتُ كتبتُه لرضا، بناء على "الشاهنامه" (كتاب الملوك)، الملحمة الوطنية العظمى لبلاد فارس. كنتُ أظنّ أن هذا السيناريو قد فُقد للأبد، ورؤيتُه مرّة أخرى بعد طويلٍ من الوقت كان أشبه برؤية شبح أمامي. وكان ذلك نصّ "الشاهنامه" الذي كان قد نوى رضا العملَ عليه لمهرجان لوس أنجلوس، فطلب مني الوصول إلى قصة قائمة بذاتها من تلك الملحمة مترامية الأطراف. ولكن، لسبب ما توقّف مشروع "الشاهنامه"، وكان علينا أن نتوصل سريعاً إلى شيء آخر، وقد انتهى الأمرُ بأن يكون هذا الشيءُ الآخر “اقتباسات”. قال لي رضا آنذاك إنه قد تمّ سحب التمويل من "الشاهنامه"، فنحتاج إلى عرض أقلّ تكلفة.
صحيح أن الميزانية المتعلقة بالتصميم والأزياء لـ"اقتباسات" ربما كانت لا شيء مقابل ما كان يتطلّبه العمل على "الشاهنامه"، ولكن، وأنا أنظر الآن إلى الماضي، أعتقد، ولستُ متأكداً، أن السبب الحقيقي الذي جعل رضا يضع "الشاهنامه" جانباً، هو أنه كان آنذاك موغلاً في المرض والوهنِ إلى درجة تمنعه من أن يتولّى مشروعاً كهذا، لأنه كان يتطلب مستوى من الجهد لم يكن يمتلكه رضا في ذلك الوقت بكلّ بساطة. ولكن، أكثر من ذلك، أتخيّل أيضاً أنه كانت هناك ضرورة لـ"اقتباسات"، سواء في حياة رضا الشخصية وفي ذلك السياق، ولذلك كان العمل عليه أنسب بكثير من مسرحية "الشاهنامه".
لا أتذكر من ذلك العرض سوى أنني ركزتُ فيه على مأساة الأب والابن في قصة المحاربيْن، رُستم وسُهراب. رأيت عندئذ أن النص كان في الحقيقة مزيجاً من الشخصيات الأيقونية الشكسبيرية، كـ"الأحمق"، جوقة منشدين على غرار المآسي الإغريقية، وشخصيات مختلفة من "الشاهنامه" نفسها، تمّ نظمها بلمسة ما بعد حداثية لتُظهر الألعاب البهلوانية الأدبية لكاتبٍ شاب. قراءة ذلك التكلّف والثرثرة المتواصلة في السيناريو الذي كنت كتبتُه قبل ربع قرنٍ كان مؤلماً حقًّا. لم أستطع أن أستوعب غرورَه الفجّ، وبعد بضع صفحات وضعته جانباً.
يُلاحَظ في النصّ بعضُ الوعود بعمل جيد، ولكن، فقدان التواضع أيضاً وقلّة خبرة بأهمية التوقيت في المسرح. طبعاً كان رضا سيعرف كيف يتعامل تحديداً مع تلك الكُتل النصّية؛ يقصّ ويقصّ إلى أن تغدو المسرحية مكثفة في أقلّ حجم ممكن. ثمّ يضيف لمساته الخاصّة لإضفاء النكهة. وحين ينتهي، كان السيناريو الفجّ الأول، سيصبح مصقولاً وجاهزاً للتنفيذ.
لم تتركني غرابة أن أجلس أمام أمين المكتبة وأنظر إلى المواد التي كنت صففتُها على الورق قبل وقت طويل في ما مضى، مواد تمّت أرشفتها في تلك البناية كلّ ذلك الوقت. كان الأمر كما لو أنني كنتُ لصّاً عائداً إلى بيت لم يعد بيتي، وأنظر إلى أسرار شخص آخر. كانت الكلمات مألوفة حتى بعد محوِها، قريبة ولكن بعيدة أيضاً، ونائية.
يمكن للحزن أن يتّخذ أشكالاً مختلفة. أحياناً يبدو الأمر كما لو أنك قد دلفتَ إلى كهف؛ كلّما تقدّمتَ كلّما أصبح الضوءُ أقلَّ لترى طريقَك
بدت “قصة عار” في نهاية المطاف ملفّاً بأصغر ما يمكن من طول؛ ففضلاً عن الأوراق المكتوبة بخطّ يد رضا، لم يكن هناك على الإطلاق سوى ستّ صفحات مطبوعة! لم يكن هذا عملاً مكتملاً. ولم يكد يكون حتى. إلا إذا كنتُ، وكما ظننت، قد رميتُ في وقت ما، أجزاءً كبيرة من حصّتي في النص. على كلّ حال، ما لفت نظري، كانت أجزاء من حياتي المبكرة هناك. في الصفحة 1، الفصل الأول، وجدتُ هذا:
الثقب في المرآة يصبح أكبر وأكبر.
الجملة مقتبسة من ديوان شاعرة جوّالة كنت أعرفها عندما كنتُ طالباً جامعياً في بيركلي. هذا السطر لم يحرّك فيّ ساكناً الآن، فلم أجده غامضاً أو مثيراً للاهتمام على نحوٍ خاص. ولكن في سنّ العشرين، حين واجهتُه لأول مرة، فكّرتُ أنه مميّز بما يكفي لكي يبقى في الذاكرة. أو، ربما، إدراجه في مسرح رضا عبده، كان طريقتي لتخليد امرأة عجوز مشرّدة كانت تبيع شِعرَها قبل سنوات طويلة، دائرةً به من طاولة إلى أخرى في مقاهي المدينة الجامعية الشهيرة.
مشهد من أحد عروض رضا عبده
الصفحة 3 أ عادت بي إلى مرحلة من حياتنا كان رضا غالباً ما غاضباً مني فيها:
أنت جالس هناك، لاهيًا باصبعيْ إبهامك في بعد ظهرِ يومِ أحد، إذ يقول الحارس: “أنت بروتستانتي أم كاثوليكي؟”.
كنتُ أُلقيتُ ثانية في جناح الأحداث. لم يكن مهمّاً لماذا كنتُ هناك في ذلك الوقت. كان الوقتُ، كما يُظهر النصّ، بعدَ ظهر يوم أحد -رغم أنني ميّال أكثر إلى التفكير بأنه كان الصباح- ولم يكن لديّ أيّ شيء أفعله في السجن. طبعاً الأحد هو يوم الكنيسة، ولم يخطر ببال الحارس بأنني قد لا أكون مسيحياً أصلاً. عندما تكون جالساً في زنزانة وحيدة طوال اليوم، ويأتي أحد ليمنحك فرصة الانضمام إلى الحياة البشرية لمدة ساعة أو ساعتين، فلا يهمّ كثيراً إن أرسلوك إلى مكان للعبادة غير متعلّق بك. أجبتُ فوراً بأنني بروتستانتي. لماذا بروتستانتي؟ لا أعرف. كان قراراً اعتباطياً ومصيرياً. وخلال بضع دقائق، وُضعتُ في طابور الأوباش “البروتستانتيين” الشباب المُعَدّين لخدمة الكنيسة. إذاً، كان النصُّ في الفصل B لـ”قصة عار”، يشير إلى لحظاتي تلك في الكنيسة، في السجن، في مكانٍ ما من لوس أنجلوس الكبرى، كاليفورنيا.
تذكّرت أنهم مباشرة بعد العبادة بثّوا لنا فيلماً من سلسلة أفلام "غودزيلا" اليابانية القديمة. غرابة الجلوس على المقاعد الخشبية ومشاهدة الغودزيلا في كنيسة السِّجن في أمريكا، لم تَضِع في ذهني البالغ من العمر ستة عشر عاما آنذاك، وبعد عدّة سنوات أدرجتُ كلّ ذلك في عملِ رضا المقرّر تنفيذه. كنت أرغب أيضاً في أن أدرج، بشكل غير مباشر، لحظة الاعتراف التي عشتُها في بيت الله ذلك: بدموعٍ منسكبة على وجهي، وعدتُ نفسي بأن أغيّر في تصرفاتي الإجرامية منذ ذلك الوقت فصاعداً. وأخذتُ بتنفيذ الوعد إلى درجة كبيرة.
ثمّ، في أعلى الصفحة 4، بعد بضع سطور من الغودزيلا وكفّارتي، كان هناك السطر الذي كنتُ قد أتيت حقيقة من أجله، السطر الذي سكن رضا حتى النهاية تقريباً:
ت.پ: ماذا إن كان الترجّلُ كلمة وحيدة؟
يحدّد النصُّ المطبوعُ، بوضوحٍ، أيّاً من الممثلين كان يجب أن يقول ذلك السطر. ت.پ، توم پيرل، واحد من ممثّلي رضا الرئيسيين في فرقته المسرحية، "دار أ لوز" (dar a luz).
والإجابة، التي هي سؤال بحدّ ذاتها -لأنه ليس ثمة إجابة في الحقيقة- تأتي على لسان بيتر جايكوبس (Peter Jacobs)، ممثل رئيسي آخر لرِضا:
پ.ج: ماذا إن؟
ترجمتها من الإنكليزية: مريم حيدري
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 22 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع