واقعة تاريخية مثيرة يُحيل إليها باستمرار المفكر المصري مراد وهبة (1926-...) عند حديثه عن ظروف انتباهه إلى دور الفيلسوف الأندلسي ابن رشد (1126-1198م) في إشعال جذوة التنوير الغربي، مفادها أن "فريدريك الثاني، إمبراطور ألمانيا، كان في القرن الثالث عشر مشتبكاً في صراع مع السلطة الدينية، لأنه كان يريد أن يتجاوز النظام الإقطاعي، ويشجع طبقة التجار، فأُشير عليه بترجمة مؤلفات ابن رشد، لأن في هذه المؤلفات فكراً يسمح بالتطور، فأصدر أمراً بترجمة هذه المؤلفات".
هذا الحدث ذكره وهبة في كتابه "جرثومة التخلف"، وردده بصيغ مختلفة في عدد من مؤلفاته، في إشارة إلى نجاح استدعاء السلطة السياسية لفكر الفيلسوف العربي لمساندتها في صراعها مع رجال الكنيسة. ووفقاً للكتاب المذكور، فإنه بعد الترجمة "انقسم الفكر الفلسفي في أوروبا إلى تيارين، تيار يتبنى أفكار ابن رشد (الرشدية اللاتينية) وتيار يقف ضده".
يعتقد وهبة أيضاً "أنه من الممكن الأخذ بالأسس الفلسفية عند ابن رشد، ولكن بتغذيتها بالثورة العلمية"، من أجل بعث تنوير عربي تقوم به "الرشدية العربية" المستندة إلى أفكار ابن رشد المتعلقة بإعلاء سلطان العقل، ومقاومة الأصوليات الدينية المتطرفة والمفارِقة لروح العصر، وإشاعة التعددية في بيئة آمنة خالية من التكفير.
في كتابه "مفارقة ابن رشد"، يرى وهبة أن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط تأثر بابن رشد "في صياغة جوهر التنوير، إذ قال كانط في مقاله الشهير "جواب عن سؤال: ما التنوير؟": "كن جريئاً في إعمال عقلك". ومتتبعاً التأثير يستكمل وهبة أن كانط "قال: قف ضد الكاهن عندما يقول لك لا تبرهن، بل آمن"، وهذا نفس قول ابن رشد في شرحه على جمهورية أفلاطون إذ ارتأى أن من خصال الفيلسوف عشق التعلّم بما في ذلك اختراق الآراء التي ليست موضع فحص، أي المحرمات".
التأويل وخرق الإجماع
كان السؤال الذي بدأ به ابن رشد كتابه "فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال" هو: هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع أم محظور؟ وكانت إجابته أن "الشرع أوجب النظر بالعقل في الموجودات"، وأن أتمّ أنواع النظر هو البرهان، وهو قياس عقلي يعتمد على مقدمات يقينية، خاص بفئة الراسخين في العلم أي الحكماء، ويخالف القياس الجدلي والقياس الخطابي والقياس المغالطي، وهذه الاستدلالات الثلاثة هي من أدوات المتكلمين والجمهور.
وشرح ابن رشد أن البرهان ربما يؤدي إلى مخالفة ظاهر الشرع، لذا طرح فكرته عن التأويل، أي تأويل ظاهر النص ليتوافق مع العقل: "ونحن نقطع قطعاً أن ما أدّى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي"، أي "من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه، أو بسببه، أو لاحقه، أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عدّت في تعريف أصناف الكلام المجازي"، وفقاً لكتابه "فصل المقال".
وانتقل ابن رشد إلى مسألة مخالفة البرهان لإجماع الفقهاء، وهو أصل من أصول الفقه، فشكك أولاً في إمكانية تحصيله: "الإجماع لا يتقرر في النظريات بطريق يقيني". والسبب في رأيه يرجع إلى استحالة جمع العلماء في عصر ما، واستحالة معرفة أشخاصهم أو عددهم، ونقل مذهب كل واحد منهم في المسألة، ومن ثمَّ "لا يُقطع بكفر من خرق الإجماع".
معجباً بهذه الأفكار التي أعطت مساحة كبيرة للعقل، يرى وهبة أن "التأويل الحقيقي يمتنع معه التكفير لأن التأويل معناه التسامح تجاه الاختلاف. ولماذا التسامح؟ لأن العقل لديه بدائل، العقل لا يكتفي ببديل واحد، وإذا اكتفى العقل ببديل واحد يقع في براثن الدوغماطيقية، أي أنه يقع في توهم أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، واذا وقع العقل في هذا الوهم امتنع التطور، وبناء عليه فإن مفهوم التأويل عند ابن رشد يبيح التعددية، فيمتنع التكفير، ويلزم من ذلك التطور"، بحسب ما ذكره في كتاب "جرثومة التخلف".
ضياع أثر ابن رشد
مفارقة مؤسفة يلاحظها وهبة، وهي أنه بالرغم من إعجاب فريدريك الثاني (ت. 1250م) بمؤلفات ابن رشد بعد وفاته بمدة قصيرة، فإن السلطان الأندلسي يعقوب المنصور (ت. 1199م) نفاه وأصدر منشوراً يحذّر فيه الناس من كتب الفلسفة، لذا اتهموه بالزندقة والكفر وحرقوا كتبه، في حياته.
"أعطى الصدارة للعقل". هكذا يحلل وهبة سبب نكبة ابن رشد، موضحاً أنه "في تقديري أثَّر بفاعلية في الحضارة الغربية لكنه لم يتمكن من النفاذ أو التأثير بفاعلية في الحضارة العربية والإسلامية، وهذا أيضاً في اعتقادي مردود إلى المحرمات الثقافية التي كانت واردة أيضاً في عصر ابن رشد"، وفقاً لما قاله في "جرثومة التخلف".
"فريدريك الثاني، إمبراطور ألمانيا، كان في القرن الـ13 مشتبكاً في صراع مع السلطة الدينية، لأنه كان يريد أن يتجاوز النظام الإقطاعي، ويشجع طبقة التجار، فأُشير عليه بترجمة مؤلفات ابن رشد، لأن في هذه المؤلفات فكراً يسمح بالتطور"
خلافاً للنكبة، وقع الفيلسوف بين فكي الأصولية الدينية. سبقه أبو حامد الغزالي (ت. 1113م) الذي كفَّر الفلاسفة، وتصدى له ابن رشد في عدد من مؤلفاته أبرزها "تهافت التهافت". ولحقه تقيّ الدين ابن تيمية (ت. 1328م) الذي تبع الغزالي في تكفير الفلاسفة والهجوم عليهم.
برأي وهبة، الغزالي حتى الآن هو سيّد الموقف، مدعوماً من الأصولية الإسلامية، ويقرّ في كتاب "جرثومة التخلف" بأننا "حتى هذا العصر لا نجد أثراً لابن رشد، وإنما نجد الأثر للغزالي إلى الحد الذي يمكن القول فيه إنه هو وابن تيمية المنظران للأصولية المعاصرة، ومن هنا التناقض الآن بين علمانية من إفراز فلسفة ابن رشد في الغرب ومن أصولية من إفراز الغزالي وابن تيمية في العالم الإسلامي".
الأصولية والسلطة السياسية
عام 1974، أحس وهبة بانصراف طلاب قسم الفلسفة عن الإنصات لمحاضراته، كما يحكي في لقاء تلفزيوني، فكان منه أن سألهم عن السبب، فأجابوه أن أفكاره تدور خارج الدين، فلما اشتكى إلى مجلس القسم من مقولة الطلاب، طلب منه الزملاء عدم استكمال المحاضرات. ساعتها، شعر وهبة بزيادة نمو الأصولية الدينية في الجامعات.
وصل مدى نفوذ الأصولية إلى فصله من الجامعة بقرار من الرئيس المصري أنور السادات، في الرابع من أيلول/ سبتمبر 1980، بدعوى إفساد عقول الشباب، كما ذكر في كتاب "مفارقة ابن رشد".
بالعودة إلى "جرثومة التخلف"، يشير وهبة إلى أن "العنف من صميم الأصولية الدينية، وهذا الخط واضح ابتداء من أبي الأعلى المودودي في باكستان، فسيّد قطب في مصر، فالإمام الخميني وعلي شريعتي في إيران".
"التأويل الحقيقي يمتنع معه التكفير لأن التأويل معناه التسامح تجاه الاختلاف. ولماذا التسامح؟ لأن العقل لديه بدائل، العقل لا يكتفي ببديل واحد، وإذا اكتفى العقل ببديل واحد يقع... في توهم أنه يمتلك الحقيقة المطلقة"
لاحظ وهبة اقتران الأصولية بـ"تيار اقتصادي أطلقتُ عليه في أوائل السبعينيات لفظ الرأسمالية الطفيلية، بمعنى أنها رأسمالية لا علاقة لها بالإنتاج الصناعي أو الزراعي وإنما هي تنمو نمواً سرطانياً وتقتات من أنشطة غير شرعية".
وفي عام 1992، سجَّلَ شعوره بالاغتباط من خطاب رئيس الوزراء عاطف صدقي أمام مجلس الشعب: "أكد أن شركات توظيف الأموال كانت تمول بعض التنظيمات المتطرفة". ففي هذا القول ما يثبت وجهة نظره في تغذية الرأسمالية غير الشرعية للأصوليات المتطرفة.
المثقف والسلطة السياسية
رفض وهبة استخدام مصطلح "خيانة المثقفين" لتقصيرهم في اقتحام المحرمات الثقافية، وقال في حوار له مع جريدة الأهالي (5 شباط/ فبراير 1992): "أنا ضد استخدام لفظ خيانة، إن الخيانة معناها أن المثقف يعي حقيقة موقف ويعمل ضد هذا الموقف والسؤال إذن هل المثقف يعي بالفعل حقيقة الموقف وقوانينه؟ أشك في ذلك".
لاحقاً، وفي حواره مع مجلة الفيصل (الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 2017) تراجع وهبة عن موقفه السابق ووصف المثقف بالخائن لأنه لم ينتج تياراً يقاوم جماعة الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى قيامه بتضليل الناس عن أسباب الإرهاب الحقيقية.
وبحسب الحوار، "المثقف يكتفي فقط بإدانة الإرهاب، ويمتنع عن إزالة هذا الإرهاب، كيف يمتنع؟ هنا تكمن الخيانة، فهو يريد أن يبعدك من التفكير في ظاهرة الإرهاب، ويجرف عقلك في قضايا أخرى لا علاقة لها بالإرهاب، مثل الفقر والجهل وغيرهما، هنا الخديعة والخيانة، لأن هذه الأمراض موجودة قبل الإرهاب وبعده، ولها حلول أخرى لا علاقة لها بالإرهاب، فالمثقف يقول دائماً: إنه يوجد إرهاب، لكن ما سببه؟ سببه الفقر. هذه خديعة، لأن بن لادن والظواهري وأغلب قيادات الإخوان مليونيرات ومليارديرات".
ويتصور وهبة، وفقاً للحوار المشار إليه، والمنشور ضمن كتاب "جرثومة التخلف"، أن "المثقف ليس لديه الجسارة في إعمال العقل الناقد في مجال الفكر وإنما يستخدمه في مجال السياسية اليومية الحياتية ويتوهم أنه بذلك قد أدّى وظيفته النقدية، إن المشكلة الأساسية ليست في صدام المثقف مع السلطة وإنما في صدام المثقف مع المجتمع لأن المجتمع متخلف وبالتالي فإن وظيفة المثقف هي الكشف عن جذور هذا التخلف".
وجوه السلطة المخيفة والمأمولة
للسلطة السياسية وجه يخشاه مراد وهبة ووجه يأمله. الوجه المخيف يتمثل في تواطؤ السلطة مع جماعات أصولية متطرفة وهو ما حدث في زمن السادات في مصر.
أما الوجه المأمول، فيتمثل في فتح الباب أمام التنوير، والمقاومة الصادقة للأصوليات الدينية، وهو ما نلاحظه عند حديثه عن اهتمام فريديريك الثاني بترجمة ابن رشد، ووصول الفلسفة الأندلسية إلى أوجها مع الفلاسفة الثلاثة ابن باجة وابن طفيل وابن رشد، "وكان لهؤلاء الثلاثة صفات رئيسية مشتركة، وهي أنهم أطباء، وعلى علاقة بالسلطة".
وبموجب الوجه الأخير، يبرر وهبة دعمه للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ويؤكد ذلك ما قاله في حواره مع مجلة الفيصل من أن "السيسي منشغل بتغيير العادات الذهنية المتخلفة".
هذا الموقف السياسي لأستاذ الفلسفة جلب له انتقادات لاذعة، طالبته بالثبات خلف موقفه الذي عرضه في كتاب "رباعية الديمقراطية"، ومفاده أن كلاً من العلمانية والليبرالية والتنوير والعقد الاجتماعي يواجه أزمات ضخمة في العالم العربي، ومن ثم تغيب الديمقراطية كممارسة حقيقية.
عام 2018، نشر الكاتب والباحث في التاريخ والفلسفة سامح عسكر مقالاً عارض فيه تصريحات وهبة عن المثقفين والسلطة السياسية، متهماً الأخيرة بأنها لا تفتح الباب أمام الرأي الآخر، وضارباً المثل بأنه "في مجال التمثيل والفنون نشأت لجنة الدراما للرقابة على الأعمال الفنية وموافقتها مع اتجاه الحكومة، علاوة على قص الرقابة كل ما يمت للتنوير في الأعمال الدرامية بصلة، كما حدث في فيلم ‘دعدوش’ بحذف 30 دقيقة للباحث إسلام بحيري والفنانة صوفيا وهما يفنّدان خلفيات داعش من التراث".
وبعكس ما يذهب إليه وهبة من أن الرئيس المصري مقاوم للأصولية الدينية، يرى عسكر أن "السيسي وطوال 5 سنوات حكم، لم يثبت بعد مواجهته لرجال الدين، هو استبدل الإخوان فقط بالكنيسة والأزهر والسلفيين".
يعتقد عسكر أن "على الدكتور مراد إذا أراد تحويل السيسي لحاكم إصلاحي أن يطالبه بسن قوانين علمانية، مدنية، حريات، انفتاح، سمها ما شئت، كل هذا يخدم مشاريع التحديث".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 22 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع