الحواس
أجلس أمام الطبيب وأنا أعرف تقريباً ما سيقوله... أو دعنا نبدأ من عند سكرتيرة طبيب القلب التي كانت تتحدث مع صديقة لها دون أن تنظر إلي، وتقول: "جالها ذبحة صدرية". أكره التطيّر، لكنني لا أستطيع أن أمنع عقلي من الذهاب إليه. أتذكر أمي منذ سنوات طويلة تقترح اقتراحاً مهماً، منقذاً بشكل ما لحياتنا، فيأتي صوت من الكارتون الذي يشاهده أخي الصغير يقول: "مستحيل"، لتصمت أمي عن الكلام، وتبتسم بتسليم لإرادة الله وإذعاناً للصوت الرفيع.
لكنني نفضت الفكرة عن رأسي. الفكرة التي عادت لطزاجتها عندما قال الطبيب: "هذه أعراض ذبحة صدرية".
ما الذي يذبح قلبي؟
وأنا صغيرة، أرى أمي تحمل همّ أشياء صغيرة، صغيرة جداً، مثل صحّتنا ودراستنا وقوت يومنا، وتحمل همّ أشياء بعيدة، بعيدة جداً، مثل مستقبلنا ومستقبلها. وكنت أتساءل لماذا؟ وأحاول أن أجعلها تنتبه لما نحن به الآن وفقط. أحاول أن أشير إلى أن لا شيء يستحق أن تبذل من جهدها وصحتها لتخاف وتقلق على أشياء صغيرة وبعيدة. لكنها مضت في طريق القلق دون أن تنتبه لقلقي عليها.
الآن، بعد أن أصبحت الأشياء البعيدة قريبة، عرفت أنها مرعبة، وأن الأشياء التي ظننتها صغيرة هي كل ما يمكن أن يقلق المرء عليه. كما عرفت أن القلق شعور لا إرادي، يمكن أن تنشغل عنه صبياً باللهو والنسيان، لكن بعد أن تنضج الأمور في رأسك، يصبح القلق مثل الذرة في طنجرة على نار الوقت، تتقافز بجنون، ودون توقف.
ما الذي فعله الحب بقلبي؟
تطلب مني الطبيبة النفسية أن أكتب عن الرابط بين من أحببتهم. أعتقد أن الرابط الوحيد بين من أحببتهم هو أنا. كذلك التعامل ببرود مع مشاعري واحتياجاتي. في البداية لا أجد إلّا القبول غير المشروط الذي يتحول تدريجياً إلى إهمال لمشاعري، خاصة وقت الحزن والغضب، أو بمعنى أدق، عندما يتسببون لي في الحزن والغضب.
مفهومي عن الحب بسيط وسهل للغاية: يدٌ تمسك بيدي في الفرح والحزن والألم. ما فعله الحب في قلبي أنه خذله كثيراً. خذل الصبية التي حلمت والفتاة التي صدّقت والمرأة التي قدمت كل شيء... مجاز
الغريب أنني شرحت لكل منهم كم يؤلمني إهمال مشاعري في هذه الأوقات بذات، لكن دون جدوى، والجاهل يتشابه في هذا مع الأحمق مع الذكي الفطن. كلهم في تجاهل مشاعري وقت حاجتي إليهم سواء. يتشابهون في أنهم جميعاً تكون الهواتف في أيديهم وأنا أرسل أنني تعبة وأتألم. يعرفون أنهم السبب، ورغم ذلك لا يردّون. يحدث أن أبكي بجوارهم، ولا تمتد يد لتمسح دموعي. يحدث ألا أنام الليل بسببهم وهم يعرفون تماماً، ولا أجد أي شيء من الحنان والتهدئة. يتشابهون في أنهم يجعلونني أصل للشعور البشع للمدمن الذي فجأة ينقطع عن مادة إدمانه، غير أنني أكون واعية لكل شيء.
يتشابهون أيضاً في أنهم غير موجودين. الموجود بذاته كأنه غير موجود، والموجود بحضوره الطاغي، أيضاً غير موجود. حتى أنني أصبحت لا أفهم كيف يكون هناك رجل كامل في حياة امرأة، شعور لم أجربه، لم أعشه ولن أنساه.
أعتقد أن أحداً لم يحبني حسب مفهومي عن الحب. أنا أيضاً تتغير مشاعري بعد الكثير من المحاولات والإحباط. لكن هم من البداية لم يقربهم الحب، ربما كان الإعجاب أو كانت الرغبة. برغم أن مفهومي عن الحب بسيط وسهل للغاية: يدٌ تمسك بيدي في الفرح والحزن والألم. تقول طبيبتي إن هذا ليس احتياجاً لحب رجل بالذات، لأن هذه اليد يمكن أن تكون لصديق أو قريب. لكنني وبعد كل هذه السنوات من الكتابة وكشف نفسي، ربما لا أستطع شرح ماذا وراء اليد بعينها التي نرضى أن نمسك بها وتمسك بنا، من بين الكثير من الأيادِ الممدودة.
ما فعله الحب في قلبي أنه خذله كثيراً. خذل الصبية التي حلمت والفتاة التي صدّقت والمرأة التي قدمت كل شيء.
ما الذي يفطر قلبي؟
صورة على الإنترنت لكلب من الحجم الصغير مهما كبر سنه، وكلب من الحجم الكبير مهما كان صغيراً. يسير الكلبان في الطين فتتسخ أقدام الكبير بينما يتسخ الصغير كله. الشعور بالحزن يشبه السير في الطين، البعض يطاله حتى قدمه والبعض يطاله كله.
الشعور بالحزن يشبه السير في الطين، البعض يطاله حتى قدمه والبعض يطاله كله... مجاز
لم أفهم أبداً شعور الحزن وأنا صبية. أسأل أمي، وصديقتي، ورجلاً أحببته، لماذا تحزنون؟ ولا أجد إجابة شافية. أرى أن الحياة واسعة وممتلئة بأسباب السعادة، طالما أن الإنسان يستطيع أن يتحرك تجاه أحلامه فماذا تكون أسباب الحزن؟ طالما أن القلب سليم نستطيع أن نخوض في كل شيء. الغريب أنني حتى الآن وأنا أكتب هذه الكلمات أؤمن بأن الحزن يجب ألا يسكن الأرواح. لكن الفقد له رأي آخر.
في حالة قلبي المفطور يمكن أن نكتب في التشخيص أن السبب هو فقد من كانوا أقرب الناس، والخوف من فقد من أصبحوا أقرب الناس. مثلاً صديقك الذي كان يشاركك السير في الطريق، الضحك الذي جمعكما، التعب، النجاح، التزويغ من الدراسة والعمل، حضنه الذي بكيت فيه في أشد لحظات حياتك بؤساً. صديقك الذي لم تتخيّل أن يبعدكما الزمن لكنه يبقى دائماً صديقك، ولو بعد يوم، ولو بعد عام، ولو لم تتحدثا على الإطلاق. صديقك الذي باعك بثمن بخس. الذي آلمك تماماً في الموضع الذي يعرف أنه سيقضي عليك.
تعرف أنه يبرّر لنفسه الأفعال السيئة، مثل كل الناس. تعرف وتبتسم وتكمل حياتك. لكن بقلب مفطور، دون إرادتك. تصرخ في قلبك "كفاك!" لا يكتفي القلب بطرد الأشخاص. يستمر في الانفطار كرد فعل أحمق على استمرارك في الحياة.
ماذا يقول الطبيب؟
يقول الطبيب: "تحتاجين إلى الراحة والبعد عن القلق". النخزة في صدري تلاعبني بالظهور والاختفاء، أحايلها فلا تختفي، أنساها فتنساني. وذراعي الذي يعتصرني بلا سبب أحاول أن أرشيه ببعض الراحة. راحة مزيفة لا تتضمن العمل ولا قيادة السيارة ولا الطبخ ولا الكتابة. ما زلت أقول للناس: "لا داعي للقلق"، وأبشّر بالتفاؤل والبعد عن سخافة الحزن. أشارك في حساباتي الصور الجميلة والمواقف المضحكة. ربما لأنني ما زلت أحتفظ ببراءة قلبي، ببعض الثقة في قلوب الناس، أو ربما كما قال الشاعر فؤاد حداد: "أنا في اختراع الأمل صاحب عشر براءات".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين