حياكة الكلام
زوجته إسراء، الأقربُ لطفلة صغيرة لمّا تَتَحَصَّبْ بعد، أَمّا أنْ تراها وقد هَدَّهَا اعتقال زوجها، سيما وإن الأخبار تتواتر ضاربة أخماس التخمين بأسداسه؛ لقد قتلوه ورموا جثته أو بقاياها بعد أن ذوبوها بحمض الكبريت، لم يتبق منه إلا رائحة نفاذة.
لقد كَبِرتْ هذه الطفلة بسرعة شديدة منذ اعتقال زوجها.
أمه سعدة، الدائمة الخوف عليه، من عائلة حج حسين المنافسة لهم في القرية، فقد قُتِلَ ابن لتلك العائلة بشكل غامض تحت خيمة لإحدى "النَوَريات" وظلوا يتهمون عائلة زوجها بدم ابنهم.
"إنهم مثل المخابرات، لا أمان لهم"، هكذا تردِّد سعدة دوماً كلما تحدثت عن عائلة حج حسين، ظلّت تخاف على وحيدها منهم، فأرسلته إلى المدينة البعيدة، بعيداً عن سقاية محصول القطن في شهر آب. وبحجة اكتساب الحضرية المدنية، ظلّتْ لسنوات تبعد ابنها عن القرية حتى لا ينالوا منه ثأراً.
من وجهة نظر الجلاد في المعتقل؛ كان يجب على الضفيرة الثخينة لأمه سعدة أن تمنعه من الخيانات، أما زوجته فهي مثله؛ "فالخائن لا ينكح إلا خائنة، بجديلة خائنة"... مجاز
أبعدته إلى أخواله في الحضر حيث درس في مدارس المدينة، وتناول الدبشية (البطيخ الأحمر) بشوكة متوسطة الحجم، وتناول لحم الضأن بشوكة كبيرة في يده اليسار وسكينة بنصل منشار ناعم في يمناه، ذات مقبض مذهب، وصار يقيل في الظهيرة، ولما اشتدَّ عوده، زَوَّجَتْهُ أمه من الصهباء إسراء، لتعديل نسلهم الداكن السمرة.
الجديلة؛ هذه الكلمة، عبءٌ ثقيل جداً على السوريات
أسكنته في بيت قريب من خاله، لكنه كذلك تتلمذ على يد خاله ذي العوينات الرقيقة كالياسمين، وتعلم منه "أن العدالة على الأرض، أهم منها في السماء"، وذات آذار نال مع خاله حصتهم، من سيل عَرِمِ من هراوات مطاطية لرجال الشرطة، مازح خاله: "المهم إن العدالة تحققت اليوم، خمس من الهراوات بالتساوي، انهالتْ على كل واحد منا!".
لكن في المرة التالية كانت حصة خاله أكبر منه، فقد اُقْتِيدا (مُطْمَّشي) الأعين إلى معتقل ما، حيث كان الداخل إليه مفقوداً حتماً.
من وجهة نظر الجلاد في المعتقل؛ كان يجب على الضفيرة الثخينة لأمه سعدة أن تمنعه من الخيانات، أما زوجته فهي مثله؛ "فالخائن لا ينكح إلا خائنة، بجديلة خائنة"، هذا ما أفتى به الجلاد، مضيفاً: "العاهرات عندك أَلا زالت شعورهن مضفورة! ورب الكعبة إني إذا ما قصصتّ رأسك، فإني لجاعلك قاصّاً لضفائرهن الخائنة".
خرج من المعتقل وحيداً دون خاله، بعد أن دفعت أمه سعدة، والتي اِبْيَضَّتْ ضفيرتها الثخينة خلال الشهور التسعة لاعتقال وحيدها، ثمن غلالها لهذا السنة من القمح والقطن لأحد سماسرة أباطرة الحرب لإخراجه من المعتقل.
ذاك الرجل اليافع والحزين منع زوجته وأمه من تضفير شعورهما، وبعد أسبوع قام ليلاً بقص ضفيرتيهما بمقص جَزِّ صوف الأغنام و هو يهذي، يبكي، وينوح؛ فالأَشَدُّ ألماً له، من الحبلين المعدنين الرفيعين هناك في المعتقل، المغلفين بغلاف واق من المطاط، والمنضفرين معاً بشكل ثنائي (الكبل الثنائي) والذي كان يُضْرَبُ به، كان وجع اسم هذه الأداة، لقد اسموها: "جدّولة إسراء".
أما "الكبل" الرباعي الذي هشم وجه خاله، مفقداً إياه حياته بخمس ضربات فقط؛ فقد كان مضفوراً من أربع حبال معدنية ثخينة جداً، أسماه الجلاد: "ضفيرة سعدة"، أمه.
الجديلة؛ هذه الكلمة، عبءٌ ثقيل جداً على السوريات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه