الحواس
قبّلتُها للمرة الأولى في جنازة والدها. لم يكن يعرفني أحدٌ من أقاربها، ومع هذا لم أكُن قادراً على تركها وحيدةً في مثل هذا اليوم، لذا قرّرتُ أن أراها بمعزلٍ عنهم. أخبرتني أنها ستعود للبيت في الثامنة ليلاً، ستترك والدتها تستقبل المُتشحين بالسواد في منزل جدتها، وستترك هي هذا الجمع المهيب، وصوت الصراخ المتصل، حتى تُريح أعصابها قليلاً.
قابلتُها في الثامنة في مدخل منزلها في (......). كان المدخل على بعد سبعة شوارع من البحر، في هذا الوقت قرّرت السُحب أنه لا فائدة من الظل، خصوصاً وأن الشمس قد غابت، لذلك قرّرت السُحب كلها أن تنزل على الأرض.
استجرنا بالسقف في مدخل منزلها، كانت القطرات ما زالت تتراكم على وجهها حتى تسقط مشكلةً خطاً متصلاً يشبه خطوطها التي تذرفها من بداية اليوم. كان شعرها حزيناً على غير عادته، وعيناها كانتا تعترفان بدمي يوم أصابني سهمها. لم تكن حبيبتي كما أعرفُها. استسلمت للصمت، وتركت نظرها للأمطار على الرصيف، راقبتُها للحظات حتى شعرتُ أن الأرض مادت بي، وازنت نفسي وقاطعتُ عُزلتها:
- بخير؟
نظرت لي، ثم عادت لما هي فيه. تحرّكتُ من مكاني ووقفتُ أمام عينيها وقبّلتُها على خدِّها. لم تفهم وصمتت. كانت معي لكن وجدانها في مكانٍ آخر. كان يوماً غريباً، والأمطار أتت على غير معادها، جلستُ على سلالم المدخل وجلست بجانبي، واستغشيتُ وما كان بيَّ نعاس، لكنه الشذى الغريب المُفعم بالشهوة. شهوة! هل يجب أن يقترن يوم موت والد حبيبتي بهذه الكلمة؟
إنها المرة الأولى التي نجتمع فيها أنا وهي والسماء المُتخمة بالماء والكهرباء، ولا نتحدث عن الفلسفة أو الأدب. إنها المرة الأولى التي لا أقول فيها إني أعتقد أن باريس كذبة، كذبة! لا تنظري هكذا، أقصد أنها ليست تماثلها الملموس وإنما القصص حولها، ما كُتب عنها وفيها ومن كتبوا عنها وفيها، مجموعة من القصص... مجاز
تمايلتُ عليها، وقبّلتُها على شفتيها، حرّكتُ لساني ببطءٍ وهدوء على وقع الأمطار، ذُقتُها به للمرة الأولى، ثم أخذت شفتيها لعلّي أستوفي بهما عُمر أحزانها. لا أدري كم قتلتُ من الوقت حتى دفعتني عنها بغضب:
- ماذا تفعل؟
- لا أعلم، لكنه أفضل من الصمت.
- إنهم يبكون الآن.
صمتُ قليلاً ثم أخبرتها أنها قصة جيدة.
-قصة جيدة؟
- نعم، وفاة، وقُبلة؛ هذه الأشياء لا تحدُث، وإن حدثت لا يتحدث عنها أحد، وهذه أفضل القصص، هذا الحدث الغريب البعيد عن الأذهان.
- الكثير من الفلسفة لتبرير الفعل.
- لا أبرّرُ شيئاً، كل ما أقوله إن تقبيلك الآن شيء مميز، شيء غير طبيعي، قصة، أما أمس فالتقبيل تقبيل وفقط.
- لو لم أكن أعرفك لتركتُك بعد جُملتُك الأخيرة.
- لم أقصد العادي.
ما أريده أن أمدّ يَدي ببساطةٍ وآخذه بغير كياسة، أن ألتهم الخبزَ البشري القاتم بیدین جَشعتين.
- أعرف.
زادت الأمطار خارجاً وعرفتُ أننا سنبقى لوقتٍ أطول، لكنها اقترحت أن نصعد إلى منزلها، فصعدنا.
*****
لم أكن أتخيل أنه وفي هذا اليوم تحديداً أني سأقتربُ من جسدها بهذا الشكل، صعدتُ على فراشها وحرّكتُ أصابعي على رقبتها وهي مُستلقيةً أمامي. شعرتُ أن يدي تتثاقل مع أنفاسي، فحاولتُ إخفاء ذلك. لم أكن أعرف ماهي الخطوة القادمة، لكن قد لا يتكرّر الأمر بهذا الشكل مرةً أخرى. دم والدها لم يتوقف في عروقه بعد، ولا أعرف هل تريدُني أن أُكمل أم أنها مُرهقة ولا تقوى حتى على الاعتراض. لا أعرف، لكن أصابعي لم تتوقف.
تحسّست رقبتها وتسلّلتُ إلى شفتيها، حرّكت أصبعي حولها ببطء، ثم لمستُها في جوٍ مهيبٍ لا أعرف عواقبه. ضربت السماء ضوءها للمرة الأولى هذه الليلة، فألقت شيئاً في الخيال ذهب بعقلي أكثر، فنزلتُ بيدي إلى نهدها وكنتُ سأرجع إلى شكوكي وتساؤلاتي ثانية، غير أنها أطلقت تنهيدةً مكتومةً، اعتبرتُها جواب كل شيء، وعرفتُ من تنهيدة تذيب الصخور وتُدميها، وتستهوي الوُرق وتدنيها، إلى أين ستصل بنا هذه الليلة.
*****
إنها المرة الأولى التي نجتمع فيها أنا وهي والسماء المُتخمة بالماء والكهرباء، ولا نتحدث عن الفلسفة أو الأدب. إنها المرة الأولى التي لا أقول فيها إني أعتقد أن باريس كذبة، كذبة! لا تنظري هكذا، أقصد أنها ليست تماثلها الملموس وإنما القصص حولها، ما كُتب عنها وفيها ومن كتبوا عنها وفيها، مجموعة من القصص.
وضعت أصابعي في فمها ونحن لم نفترق بعد، نزلتُ عليها بجسدي ثانية، فصرخت لكنها لم تلحق بها لتوقفها، ابتسمت بعدها وقالت: "دوريان لوكس". فهمتُ الإحالة، لم أكن أتمنى أكثر من ذلك، أن يُحال الجنس إحالةً شعرية بهذه الطريقة... مجاز
-هكذا أنا نفسي كذبة.
فكرتُ في ردّها ولم يُسعفني عقلي بردٍ مناسب، فلم أثرثر وصمتّ.
ماذا كنتُ أقول؟ نعم، إنها المرة الأولى التي تمطر وفيها ونحن نتلامس بهذا الشكل. كنا نذوب في كأسٍ واحدة، كانت السماء مظلمة، وكنتُ تجاوزت نهدها، رفعتُ قدمها على كتفي ولم يتغير شيء من استسلامها المفاجئ. لا أقصدُ أني حاولتُ قبل ذلك ورفضت، لكن هكذا تخيّلتُ الأمر، أنها مُستسلمة هذه المرةً بالذات.
وقعتُ عليها به، فأطلقت صرخة هادئة، لم تُكملها، وكأنها أفلتت منها فجأةً على غير إرادتها، أو لعلها تذكرت أن الصراخ اليوم يجب أن يكون بطريقة معينة. لا، لا يجب أن أفكر في هذا الأمر الآن، سأفسد كل شيء. هل أتوقف؟ نظرتُ في عينيها فوجدُتها مُرتاحة، مُطمئنةً تنتظر المزيد. حسناً، ليس الوقتُ مناسباً للتفلسف، لابد أن البشر صرخوا يوم زيارة الردى لأشياء غيره، زوجة رجل فاسد صرخت فرحاً على سبيل المثال.
لم أنزل قدمها عن كتفي، وشعرتُ أنها لا تقوى على غير هذه الصورة، تمايلتُ عليها بجسدي، قبلتُها طويلاً وأنا بداخلها، حتى رجعتُ لوضعي السابق. كنتُ أخرج منها حتى نشتاق للحظة فاتت ونعودُ لها حتى ننسى من نحن؛ وضعت أصابعي في فمها ونحن لم نفترق بعد، نزلتُ عليها بجسدي ثانية، فصرخت لكنها لم تلحق بها لتوقفها، ابتسمت بعدها وقالت: "دوريان لوكس".
فهمتُ الإحالة، لم أكن أتمنى أكثر من ذلك، أن يُحال الجنس إحالةً شعرية بهذه الطريقة.
*****
الضوءُ يبقّع الظِّلال بلونٍ أصفر.
نتعرّقُ ونندفعُ إلى بَعضنا،
نتسلقُ بأصابعنا سلالم الأضلاع الزلقة.
وحيثما يَتلامس جَسدانا
يصيرُ الجلدُ حياً، حارّاً وتوّاقاً،
وكحيواناتٍ غير مرئية
يتحرَّكُ على صَدري ملمسكَ الناعم.
ما أريده أن أمدّ يَدي ببساطةٍ وآخذه بغير كياسة،
أن ألتهم الخبزَ البشري القاتم
بیدین جَشعتين.
أن ألتهمَ العيون، الأصابع، الفم،
طفيليات الرَّغبة العذبة.
مجنونة أنا، رأسي مليء بالنحل،
أترى كيف أضرب الوسادة بغير وعي.
وحين يستسلم جَسدي أخيراً،
ثم يجرُّ نفسه بعيداً، مشبعاً بالملح،
ويتقوس بوجعهِ الأخير،
أشعر بامتنانٍ شديدٍ نَحوك،
فأعطيكَ أي شيء، أي شيء.
إذا ما أحببتكَ، يُمكن أن يقتلني هذا القرب.
(القصيدة للشاعرة الأميركية دوريان لوكس)
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...