شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
قانون مدني للأحوال الشخصية في لبنان... إلزامي أم اختياري؟

قانون مدني للأحوال الشخصية في لبنان... إلزامي أم اختياري؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والنساء

الجمعة 4 نوفمبر 202211:36 ص

هذا المقال أُنتج ضمن مشروع "المدافعات عن حقوق المرأة"، بدعم من منظمة Civil Rights Defenders.

في لبنان، أطلقت مسألة تعديل نظام الأحوال الشخصية من أجل اعتماد قانون مدني، جدلاً واسعاً نتيجة الاعتراضات التي صدرت عن ممثلي الطوائف التاريخية، بمعزل عن الطابع الاختياري أو الإلزامي للقانون المدني المطروح اعتماده. وقد برزت المجموعات النسوية وتجمّعات الأمهات المعتصمات أمام بعض المحاكم الدينية في طليعة النضال، إما من أجل تعديل الموجود أو من أجل إقرار قانون مدني عادل للأحوال الشخصية.

ولعلّ ما يبرز في الخطابات الطائفية الرافضة للطرح المدني، هو ربطها غير السليم بين ضرورة حصرية أنظمة الأحوال الشخصية الدينية من جهة، وما يُسمّى بضرورة المحافظة على خصوصية المجتمع اللبناني وهوية الطوائف التي تشارك في تكوينه من جهة أخرى. من هنا، تميّزت مواقف بعض ممثلي الطوائف التاريخية برفضها إقرار أي قانون مدني بحجة التصدّي لتسريب قيم المجتمعات الأجنبية، خاصةً الغربية منها التي قد تؤدي، وفقاً لهذه الخطابات، إلى تفكّك العائلة في لبنان. وقد رأينا كيف أصبحت النساء وحقوقهن رهائن السرديات التي تدور حول حماية الهويات الثقافية وخصوصية المجتمعات، وكأن هكذا حماية لا يمكن أن تمرّ إلا عبر السيطرة على المرأة وخياراتها وتحرّكاتها وجسدها.

عرف تاريخ لبنان الحديث مبادرات وطروحات كثيرةً قُدّمت من أجل اعتماد قانون مدني للأحوال الشخصية، وانقسم دعاتُها بين فريق يدعو إلى قانون إلزامي موحّد وآخر يدفع باتجاه اعتماد قانون اختياري ملائم وممكن أكثر

في المقابل، استندت المطالبة بإقرار قانون مدني للأحوال الشخصية ليس فقط إلى احترام حرية المعتقد الفردية التي تعود لكل مواطن/ ة قد يرى في الزواج الديني مخالفةً لمعتقداته الشخصية، ولكن أيضاً على ضرورة اعتماد نظام مدني بمقدوره الالتزام أكثر بحقوق الأفراد الرئيسية، وعلى رأسها حقوق النساء وحقوق الأطفال التي ناضلت من أجلها ولا تزال أجيال من النساء والمدافعات/ ين عن حقوق الإنسان من أجل رفع الظلم عن نساء حُرمن من حقوقهن في مسائل تتعلّق بالوصاية والحضانة والطلاق والنفقة... وتحقيق المساواة الفعلية المنشودة.

عرف تاريخ لبنان الحديث مبادرات وطروحات كثيرةً قُدّمت من أجل اعتماد قانون مدني للأحوال الشخصية، وانقسم دعاتُها بين فريق يدعو إلى قانون إلزامي موحّد وآخر يدفع باتجاه اعتماد قانون اختياري ملائم وممكن أكثر. فما هو موقف القانون اللبناني نفسه من هذه المسألة؟ وبعد الإجابة عن هذا السؤال، هل يكفي أصلاً اعتماد قانون مدني من أجل تأمين الحماية للأفراد في إطار العلاقات الأسريّة؟

في صحّة اختيار "الاختياري"

ليس الجدل بين المدني والاختياري جديداً، ومن أجل التقرير في شأن ما يمكن تطبيقه في السياق القانوني اللبناني الحالي، يجب أولاً التطرّق إلى إمكانية اعتماد قانون مدني إلزامي على ضوء المادة 9 من الدستور التي تنصّ على ما يلي:

"حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على ألا يكون في ذلك إخلال في النظام العام، وهي تضمن أيضاً للأهلين، على اختلاف مللهم، احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية".

ما هو موقف القانون اللبناني نفسه من هذه المسألة؟ وبعد الإجابة عن هذا السؤال، هل يكفي أصلاً اعتماد قانون مدني من أجل تأمين الحماية للأفراد في إطار العلاقات الأسريّة؟

رأى معظم الفقهاء في لبنان أنه لا يمكن إلغاء صلاحيات الطوائف الدينية في مجال الأحوال الشخصية، نظراً إلى ارتباطها بالحرية الدينية وفقاً للمادة 9 من الدستور. بمعنى آخر، إن الاعتراف بهذه الصلاحيات يندرج ضمن إطار حماية الحرية الدينية التي تعود لأفراد هذه الطوائف عبر السماح لهم بالزواج والافتراق والطلاق وغيرها، وفقاً لما تنصّ عليه عقائدهم الدينية الشخصية. ومن هذا المنطلق، يكون فرض قانون مدني إلزامي للأحوال الشخصية غير ممكن، إلا في حال تعديل المادة 9 من الدستور.

على خطّ موازٍ، أجمع الفقه القانوني على أن اعتماد قانون مدني للأحوال الشخصية، بصيغة اختيارية، هو مُوجب ملقى على عاتق الدولة أساساً، وذلك على ضوء المادة 9 من الدستور نفسها، حيث أن الحرية الدينية ليست محصورةً في أفراد الطوائف التاريخية الذين يرغبون في عيش حياة عائلية وفقاً لتعاليمهم الدينية. أي أنه بالإمكان، الآن، الدفع في اتجاه تشريع قانون مدني اختياري من دون أي تعديل دستوري.

رأى معظم الفقهاء في لبنان أنه لا يمكن إلغاء صلاحيات الطوائف الدينية في مجال الأحوال الشخصية.

لهذا السبب أصلاً، وفي انتظار امتثال المشرّع لهذا الموجب الملقى على عاتقه بموجب المادة 9 من الدستور، تعترف المحاكم اللبنانية بصحّة الزواج المدني المعقود في الخارج بين اللبنانيين/ ات وتُخضعه ومفاعيله للقانون المدني الأجنبي الذي عُقد الزواج في ظلّه. لكن في هذا الإطار، تبقى حرية المعتقد وكأنها حكر على مَن يتمتّع بالوسائل المادية الكافية للسفر إلى خارج لبنان والزواج مدنياً نظراً إلى التكلفة التي يفرضها هكذا انتقال.

هل يكفي قانون مدني للأحوال الشخصية لتأمين حماية لحقوق الأفراد الأساسية؟

الجواب هو كلا. فلا القانون الاختياري يضمن تأمين الحماية لحقوق الأفراد، ولا إلزامية القانون المدني تسمح بالإطاحة بالعوائق الجاثمة أمام تأمين إطار قانوني للعلاقات العائلية يكون حمائياً لجميع الأشخاص. وهنا، لا بدّ من التساؤل عن مدى دقّة الافتراض المبني على أن اعتماد نظام مدني للأحوال الشخصي يُحتّم نصوصاً تضمن حقوق الأفراد الرئيسية، ومن ضمنها حقوق النساء. فشكل القانون لا يملي مضمونه، بدليل أن عدداً كبيراً من التشريعات اللبنانية الصادرة عن السلطات المدنية، مثل قانون الجنسية المجحف في حق النساء وقانون العقوبات، يعتمد نظرةً غير متساوية إلى العلاقات العائلية وأدوار النساء والرجال في هذا الإطار. لذا، تجدر الإضاءة ليس فقط على ضرورة اعتماد قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية، بل أيضاً على تضمّن هذا القانون نصوصاً تتوافق مع مبدأ المساواة والحريات الفردية المكرّسة بموجب الدستور اللبناني.

المرأة التي تتزوج دينياً، تماماً كما المرأة التي تختار أن تتزوج مدنياً، يجب أن يحق لها أن تحظى بالحماية نفسها.

ومن ثمّ، من المهم الإضاءة على أن اعتماد قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية لا يكفي لحماية حقوق الأفراد الأساسية، إذ إن إمكانية لجوء بعض الأفراد إليه وممارسة حق الخيار هذا لن تكون متاحةً للجميع نظراً إلى العقبات الاقتصادية والسوسيوليوجية التي تعتري أي شكل من أشكال الخروج عن الطوائف التاريخية، فكيف حين تكون النساء هنّ اللواتي يخرجن عنها؟ فضلاً عن أن حصر حماية الأفراد بإمكانية اختيارهم الخضوع لقانون مدني للأحوال الشخصي، من شأنه أن يلقي عليهم أو ينقل إلى عاتقهم مسؤولية تأمين احترام الحقوق الأساسية، وهي في الأساس مسؤولية يجب أن تتحمّلها الدولة فقط، كما يجب أن تنسحب مفاعليها على الجميع.

ومن ثمّ، من المهم الإضاءة على أن اعتماد قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية لا يكفي لحماية حقوق الأفراد الأساسية، إذ إن إمكانية لجوء بعض الأفراد إليه وممارسة حق الخيار هذا لن تكون متاحةً للجميع 

هذا المنطق سينفي حقوق الأفراد الذين يختارون العيش وفقاً لعقيدتهم، في أن يتم احترام حقوقهم الأساسية. ويعني ذلك عملياً أن المرأة التي تتزوج دينياً، تماماً كما المرأة التي تختار أن تتزوج مدنياً، يجب أن يحق لها أن تحظى بالحماية نفسها. وفي هذا الإطار، يجدر التذكير بأنّ القوانين الدينية ليست في حد ذاتها مخالفةً للحقوق الأساسية للأفراد، إذ إن لهذه القوانين تفسيرات مختلفةً قد تصب في قراءات تستند بصورة أكبر إلى مبدأ المساواة.

في الخلاصة، يجب أن يترافق اعتماد أي قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية، وللأسباب المذكورة آنفاً، مع موجب مُلقى على عاتق الطوائف نفسها، يتمثل في اتّباعها القراءة الأكثر انسجاماً مع حقوق الأفراد الأساسية المنصوص عليها في الدستور اللبناني، بدلاً من التوقف عند التفسير المعتمد من قبل بعض أفراد الطائفة وتوجّهاتها... وإلا، فعلينا أولاً تعديل المادة 9 من الدستور.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard