في يوم 22 تموز/ يوليو 2021، الساعة الرابعة صباحاً، أخذت رشفة من كأس العرق البلدي وأشعلت سيجارة، ثم بدأت بتنفيذ عملية نوعية على المستوى الشخصي، وهي إغلاق ثلاثة بروفايلات على فيسبوك، اثنان منها باسمي، والثالث باسم مقهى قصيدة نثر. بالطبع، هذه ليست المرة الأولى التي أفعل فيها ذلك، فأنا معتاد كل فترة على مغادرة العالم الافتراضي لعدة أشهر، وأحياناً لأكثر من سنة.
خلال القيام بخطوات الإغلاق، ظهر أمامي سؤال يقول: هل تريد بالتأكيد إلغاء تنشيط حسابك؟ وتحته عدّة خيارات متعلقة بسبب مغادرتي لفيسبوك، منها "لديّ حساب آخر على فيسبوك" والذي اخترته كسبب للمغادرة في المرات الثلاث، لأنّه لم تكن لديّ رغبة في الإفصاح عن السبب الحقيقي، مع العلم أنّه يوجد ضمن الخيارات مكان مخصص لكتابة سبب المغادرة. بمعنى آخر، كذبت على فيسبوك ولم أشعر بالخجل أبداً، ولست مهتماً إنْ كُشفت.
لماذا قد أخجل وأهتم إنْ كذبت عليك أيها الفيسبوك العارف بأسماء أكثر من ملياري شخص، ولديك صورهم وتواريخ ميلادهم ورسائلهم الخاصة والحميمية؟ ترى ما الذي سيحدث لك لو غادرك كل هؤلاء المشتركين دفعة واحدة؟ أي معنى سيكون لوجودك حين تصبح وحيداً على الشبكة العنكبوتية، بلا أي مشترك؟ هل ستخاف من أن تقتلك الوحدة كما تفعل بنا نحن البشر؟
بعد أنْ أنهيت عملية الإغلاق بشكل كامل ولم يعد لديّ أيُّ وجود في عالم فيسبوك، شعرت بأنني إله بشري لديه القدرة على أن يُميت ويُحيي نفسه متى يشاء في العالم الافتراضي.
من بين أصدقائي الفيسبوكيين والذين يبلغ عددهم حوالي 3700 صديق، هناك خمسة أشخاص سألوني حين التقيتهم على أرض الواقع: "ليش مسكر حسابك؟ إيمت بدّك ترجع تفتحو؟" وأجبتُ بإيجاز: "استراحة من العالم الافتراضي، وما بعرف إيمت رح ارجع". باستثناء هؤلاء الخمسة، أظن أنّ لا أحد انتبه إلى غيابي الفيسبوكي إلا عن الطريق المصادفة، كأنْ يبحث شخص عن اسمي من أجل مراسلتي وسؤالي عن أمر ما فيكتشف أنّ حسابي لم يعد موجوداً. برأيي الشخصي، من الطبيعي والعادي جداً ألا ينتبه إلا بضعة أشخاص لمغادرتي فيسبوك.
في اليوم التالي، أحسستُ برغبة مُلحة في إعادة تفعيل حساباتي الثلاث، لكنني لم أفعل. وبعد حوالي أسبوع تلاشت هذه الرغبة.
هناك أشخاص يقضون غالبية يومهم على وسائل التواصل الاجتماعي، بطريقة غير صحية وفيها حالة من الإدمان، وتخيفهم فكرة التخلي عن هذا العالم الافتراضي لأنهم يعيشون فيه أكثر من عيشهم في الواقع، إلى درجة أنهم حين يجلسون برفقة أصدقائهم يمسكون هواتفهم المحمولة طوال الوقت، ويبدأون بالتقاط الصور ونشرها على عدّة مواقع للتواصل الاجتماعي، وفي حال توقفوا قليلاً عن النظر إلى شاشات هواتفهم وفتحوا حديثاً ما، لن يكون بعيداً عما شاهدوه وقرأوه وسمعوه في العالم الافتراضي.
ماذا خسرتُ حين أغلقت حساباتي؟
بعد أكثر من شهر، سألت نفسي ما الذي خسرتهُ بإغلاقي لحساباتي على فيسبوك؟
وتبيّن لي أنني خسرت قراءة نصوص وبوستات جميلة يكتبها أو يشاركها البعض، وخسرت جمالاً بصرياً كنت أحصل عليه من خلال مشاهدتي لصور وفيديوهات وستوريات تُنشر عليه، إضافة إلى أنه حين يخطر في بالي شيء ما، لا أستطيع أن أشاركه مع الآخرين وأحظى ببعض اللايكات والتعليقات المسلية. أيضاً، خسرتُ عدداً لا بأس به من القُرّاء لمقالاتي التي أنشرها على المواقع الإلكترونية بحكم أنني لم أعد أشاركها على حساباتي، وهذا بدوره أدى إلى خسارة رسالة قد تصلني من جميلة ما، تقول: "حلو يلي كاتبو".
"بعد أنْ أنهيت عملية الإغلاق بشكل كامل ولم يعد لديّ أيُّ وجود في عالم فيسبوك، شعرت بأنني إله بشري لديه القدرة على أن يُميت ويُحيي نفسه متى يشاء في العالم الافتراضي"
بالنسبة إليّ، لا يمكنني اعتبار مثل هذه الأشياء خسائر بالمعنى العميق للكلمة، باستثناء خسارتي الفادحة للرسالة التي تقول "حلو يلي كاتبو". إنني أمزح. في الحقيقة حتى هذه لا أعتبرها خسارة.
ماذا كسبتُ حين أغلقت حساباتي؟
كنت أقضي يومياً وقتاً يتراوح بين أربع وست ساعات على فيسبوك، وكانت بعض هذه الساعات مُسلّية وممتعة ومفيدة أحياناً، إلا أنّ فقداني لها لم يكن له أيّ أثر سلبي عليّ، لأنني أمتلك في حياتي الواقعية بدائل أكثر متعة وتسلية وفائدة. فمثلاً: بعد إغلاقي لفيسبوك صرتُ أقرأ الكتب وأشاهد الأفلام وأكتب أكثر من قَبلْ، وألعب الورق "الطرنيب" مع الأصدقاء، وغير ذلك الكثير.
يمكنني القول إنّ أثمن ما كسبته بعد مغادرتي لفيسبوك هو الوقت الذي جعلني أقوم بالعديد من الأشياء المؤجلة والتي انعكست بشكل إيجابي عليّ.
ما هو السبب الحقيقي لإغلاقي حساباتي؟
إغلاقي لحساباتي على فيسبوك كان الخطوة الأولى من تجربة أردتُ خوضها، وهي التخلي عن العالم الافتراضي ووسائل الاتصال بشكل كامل لعدّة أشهر أو أكثر، وكنت أفكر أنْ أفعل ذلك بشكل تدريجي وليس دفعة واحدة. فبعد أنْ أغلقت فيسبوكي، قمت بإغلاق حسابي على الإنستغرام، وكانت الخطوة التالية هي حذف الوتساب وكل ما يتعلق بوسائل التواصل عبر العالم الافتراضي بما في ذلك بريدي الإلكتروني، ومن ثم التوقف نهائياً عن استعمال الإنترنت بأي شكل من الأشكال، حتى لو كان فتح متصفح غوغل لدقيقة واحدة. ثم تأتي الخطوة الأخيرة وهي إغلاق هاتفي المحمول ووضعه في أحد الأدراج.
"صرتُ أقرأ الكتب وأشاهد الأفلام وأكتب أكثر من قَبلْ، وألعب الورق ‘الطرنيب’ مع الأصدقاء... يمكنني القول إنّ أثمن ما كسبته بعد مغادرتي لفيسبوك هو الوقت الذي جعلني أقوم بالعديد من الأشياء المؤجلة"
بعد حوالي شهرين من إغلاقي لفيسبوك وإنستغرام، لم أستطع وبشكل تدريجي حذف الوتساب وما يليه مما ذكرت، فقررت أن أفعل كل هذه الأمور مع بعضها دفعة واحدة وفي الوقت نفسه. وبالفعل، قمتُ بالتخلي عن الإنترنت وكل ما يتعلق به بشكل كامل، وأغلقت هاتفي المحمول، ولكن للأسف بعد أربعة أيام تراجعت عن الأمر، وعاد كل شيء كما كان باستثناء فيسبوك وإنستغرام.
الهدف الحقيقي من وراء هذا كله هو أنّ هذا الإنترنت والهاتف المحمول رغم حاجتي إليهما، كانا وما يزالان يسببان لي الإزعاج ويقيّداني وينتهكان خصوصيتي أحياناً، إضافة إلى رغبتي الشديدة في استعادة نمط حياتي الذي كنت أعيشه قبل ذلك، حين لم يكن لديّ سوى الهاتف الأرضي كوسيلة اتصال وتواصل سريعة ومتطورة.
لماذا لم أنجح بفعل كل ما ذكرته سوى لمدة أربعة أيام فقط؟ بسبب ضغوط الحياة على الصعيد المالي والاجتماعي وما شابه. فعلى سبيل المثال، الإنترنت والهاتف المحمول يساعداني في تقليل الجهد والوقت اللازمين للحصول على الكثير من متطلبات الحياة المعيشية، وأحياناً يكونان سبباً مباشراً في الحصول على بعض هذه المتطلبات.
بالرغم من أنني لم أنجح، لكن الفكرة لا زالت قائمة ورغبتي هائلة بأن أنفّذها على أرض الواقع... ذات يوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...