هناك أنواع كثيرة من الانتظار، انتظار الأعياد من أجل المشاوير وشراء الثياب الجديدة، انتظار أنْ نكبر كي يُسمح لنا بالبقاء خارج البيت لوقت متأخر، انتظار الأصدقاء الأوغاد الذين يتأخرون دوماً عن مواعيدهم، والانتظار في أغنية فيروز "قدّيش كان في ناس، عَ المفرق تنطر ناس، وتشتّي الدني ويحملو شمسية، وأنا بأيّام الصحو ما حدا نَطَرني"، وغير ذلك كثير.
لن أستفيض بالحديث عن الانتظار الذي نعيشه نحن السوريون بسبب الحرب، بداية من انتظار عودة مَن نحبهم من المعركة أو من بلاد الغربة، وانتهاءً بانتظار الرسائل التي تصل إلى هواتفنا الجوالة لاستلام مخصصاتنا من السكّر والأرزّ والوقود وما شابه، إضافة إلى الانتظار الذي أصبح مصدر رزق للبعض، فمَن لا يطيق الانتظار على محطة الوقود وطوابير الخبز والمؤسسة الاستهلاكية وما شابه، يرسل بدلاً منه شخصاً ما لينتظر مقابل مبلغٍ بسيطٍ من المال.
الانتظار، بكل أشكاله وحالاته تقريباً يجعلنا قلقين وغير مرتاحين، باستثناء حالات قليلة قد يكون فيها ممتعاً ومشوّقاً.
الانتظار الممتع
في طفولتي، حين كان والدي يخبرني قبل ذهابه بيوم إلى المدينة بأنه سيأخذني معه، كان قلبي يخفق بسرعة من شدة الفرح، وأدخل في حالة انتظار ممتعة وشيقة. أحلم بالموزة التي سيشتريها لي أو بالكباب الذي سآكله في مطعم "أبو شفيق"، لأن قدرة والدي المالية لم تكن تسمح لي بأنْ أحصل على الاثنين معاً، وخاصة أن الموز في تلك المرحلة كان غالي الثمن، إلى درجة أنّ الفقراء ومتوسطي الدخل لا يمكنهم شراءه أكثر من مرة أو مرتين في الشهر.
رغم ذلك، كنت أبالغ دوماً وأحلم بأنني سأحصل على الاثنين في الوقت نفسه. لم يتحقق هذا الحلم سوى مرات قليلة. لا زلت أذكر حين قلت لوالدي بعد أنْ خرجنا من المطعم مشيراً بإصبعي: "ليك بيّي في قدّامنا بياع موز". توقف والدي عند البائع الذي أخبره بسعر الموزة. نظر إليّ مبتسماً وهو يُخرج كل ما في جيبه من نقود ليكتشف أنه في حال دفع ثمن الموزة لن يكفي ما تبقى لدفع أجرة الباص الذي سنعود فيه إلى القرية، ما جعله يطلب من البائع استبدال الموزة بواحدة أصغر حجماً وأقل سعراً.
من حالات الانتظار الممتعة التي كنت أعيشها، وبشكل يومي تقريباً، انتظار الشمس أن تتجاوز وقت العصر كي يُسمح لي بالخروج من المنزل لألعب كرة القدم مع أطفال القرية. وفي المراهقة، كان الانتظار الأجمل هو انتظاري للفتاة التي أحبها خلف سور المدرسة من أجل رؤيتها والحديث معها لخمس أو عشر دقائق لا أكثر.
كبرت في العمر ولم يعد الانتظار يمتعني إلا في حالات نادرة جداً، لأن رؤيتي للمتعة وللحياة تغيّرت، ولأن كل حالة انتظار أراها وقتاً مهدوراً، وقيمة ما أنتظره لم يكن يستحق أنْ أخصص له كل هذا الوقت من عمري إلا في حالات قليلة جداً.
مع بداية الحرب في سوريا، صار الانتظار الوحيد الممتع والشيق بالنسبة إليّ هو (...). حاولت أنْ أبحث عن انتظار ممتع أضعه بين هذين القوسين، ويؤسفني القول إنني لم أجده! فكل حالات الانتظار في تلك الفترة كانت مخيفة ومقلقة وتفوح منها رائحة الفقدان والموت.
الانتظار خلال الخدمة العسكرية
قبل حوالي 23 سنة، وأثناء تأديتي للخدمة العسكرية، كنت أنتظر انتهاء درس الرياضة الصباحي لأتناول الطعام، وانتهاء العشاء لأذهب إلى النوم، وانتهاء الشهر لأحصل على إجازة وأتصل بالفتاة التي أحبها، وانتهاء خدمتي الإلزامية لأعيد ترتيب حياتي بكل تفاصيلها على الأصعدة كافة وأعيش حالات انتظار مختلفة.
"هناك أنواع كثيرة من الانتظار، انتظار الأعياد من أجل المشاوير وشراء الثياب الجديدة، انتظار أنْ نكبر كي يُسمح لنا بالبقاء خارج البيت لوقت متأخر، انتظار الأصدقاء الأوغاد الذين يتأخرون دوماً عن مواعيدهم، والانتظار في أغنية فيروز ‘قدّيش كان في ناس’"
من أطول حالات الانتظار وأقساها التي عشتها خلال خدمتي الإلزامية تلك التي كانت خلال نوبات الحرس وخاصة الليلية الباردة. أربع ساعات أمشي فيها ذهاباً وإياباً في مساحة لا تتجاوز عشرة أمتار، خلال تلك الساعات المزدحمة بالأفكار والشعور بالوحدة لم أكن أنتظر شيئاً في الوجود سوى الشخص الذي سيأتي رغماً عنه ليقف بدلاً عني في المحرس ويحسدني لأن نوبتي انتهت. لحظة وصوله، كنت أشعر بنوع من الراحة والحرية.
الانتظار بعد العسكرية
بعد انتهاء خدمتي العسكرية، شعرت بأنّ وقتي كله ملكي، ويمكنني أنْ فعل ما أشاء وأرتب حياتي كما يحلو لي دون أن تكون هناك ضوابط وقوانين تمنعني، وظننت أنني لن أكون مجبراً على عيش حالات انتظار طويلة ومملة وقاسية مهما كانت الأسباب والظروف. لكن الواقع كان له رأي آخر، فقد وجدت نفسي مجبراً على انتظار أشياء مصيرية وحساسة أصعب بكثير من تلك التي كانت خلال خدمتي العسكرية! وكنت مدركاً أنني في حال لم أنتظرها سأتعرض للأذية، لأن هذه الأشياء كلها تقريباً مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بمستقبلي.
أحد أبسط أشكال الانتظار التي عشتها بعد انتهاء خدمتي الإلزامية، كان انتظاري كل يوم على الطريق العام لمدة نصف ساعة وأحياناً ساعة كي أركب إحدى وسائل النقل وأصل إلى عملي، ولم أكن أملك حلاً سوى التخلي عن وظيفتي وخسارة مصدرٍ مالي سيؤثر على حياتي.
الصعوبة في انتظار وسائل النقل بالنسبة إليّ كان سببها التكرار اليومي بغض النظر عن الطقس السيئ والحالة النفسية والتعب الجسدي.
أصعب وأسخف انتظار في حياتي
الموت أسخف وأصعب حقيقة سأواجهها، إنه الحقيقة الأصدق في حياتي، إنه الحقيقة الساطعة المشرقة المنيرة بشكل وقح ومبالَغ فيه. رغم ذلك، في بعض الأحيان، كنت أنكر هذه الحقيقة وأستخف بها بهدف تخفيف رعبها وبشاعتها. بناءً على ذلك يُمكنني القول: إنّ حياتي كلها حالة انتظار طويلة للموت.
"خلال السنوات التي عشتها، قمت بالاستكشاف والبحث وأقمت علاقات مع الآخرين، وأقنعتُ نفسي بأنني مشغول بالعمل والحب والإنجاز والمعرفة وما شابه لأشتت عقلي عن فكرة أنّ هذه الحياة بلا جدوى وبلا معنى وسخيفة"
هي حالة انتظار لتلك اللحظة المرعبة البشعة الحقيرة المأساوية التي سأشعر فيها بأنني عاجز وبشكل مطلق عن أخذ شهيق واحد بالرغم من أنّ الهواء ما زال يملأ كوكب الأرض. الموت: هو القليل من الأوكسجين الذي نعجز عن استنشاقه.
الحياة بالنسبة إليّ تشبه بشكل ما غرفة الانتظار في عيادة الطبيب. لحظة دخولي، أتفحص المكان بحثاً عن كرسي أجلس عليه، بعد ذلك أنظر في وجوه الموجودين، وقد أقوم بمحادثة لا معنى لها لعدة دقائق مع شخص يجلس قربي، ثم أتصل بصديق ما ونتحدث عن أشياء ممتعة ومسلية، بعدها أتصفح وسائل التواصل الاجتماعي، وفجأة أنتبه بأنّ عدد المنتظرين أصبح أقل وأّنّ دوري اقترب، فأعود لتكرار ما كنت أفعله كي لا أشعر بثقل الوقت، ثم أسمع الممرضة تقول: رامي غدير جاء دورك، فأدخل، وبعد أنْ يفحصني الطبيب يخبرني بأنني أعاني من مرض خطير وقد أموت الليلة أو في صباح الغد.
خلال السنوات التي عشتها، قمت بالاستكشاف والبحث وأقمت علاقات مع الآخرين، وأقنعتُ نفسي بأنني مشغول بالعمل والحب والإنجاز والمعرفة وما شابه لأشتت عقلي عن فكرة أنّ هذه الحياة بلا جدوى وبلا معنى وسخيفة، وأيضاً لأشغل نفسي عن التفكير بأنني في حالة انتظار للموت.
المعنى الوحيد لسنوات عمري الـ44 هو الوقت الذي عشته في مشاركتي للآخرين ومشاركة الآخرين لي التسلية والمتعة والضحك، وبعض الأحزان والآلام.
لحظة. هذه الحياة التي بلا معنى والسخيفة هي بالنسبة إليّ مدهشة ورائعة وجميلة جداً، وأنا ممتن من أعماق قلبي لأنني كائن حي على هذا الكوكب مُنح الفرصة كي يعيشها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.