في نفس الموعد كل عام، يكون العالم مع حالة ثقافية مع إعلان نتائج جائزة نوبل بفروعها، ونكون نحن على موعد مع الهيستيريا الثقافية العرضية.
نتناقل قبل أيام من موعد إعلان الجائزة الخاصة بالأدب تنبؤاتنا الساذجة حسب معارفنا المتواضعة بالأدب في العالم، ثم نبدأ في مهاجمة الفائز الذي باغتتنا به لجنة الجائزة، ونسأل سؤالنا الإنكاري المتكرر وبكل ثقة: "من هذا؟ لم نسمع به!".
ونتساءل بدورنا ونحن نقرأ ذلك السؤال الوجودي للشعوب العربية في وسائل التواصل الاجتماعي: أين ستسمعون به؟ هل لنا منابر ثقافية منتجة للثقافة، وهل عندنا برامج تلفزيونية وإذاعية خلاقة وبرامج احترافية تراقب ما يجري في عالم الأدب بالعالم بكل اللغات؟
ألا نعيش انتكاسة في الإعلام الثقافي منذ الثمانينات، ولا تعدوا برامجنا التلفزيونية، التي يقدمها في العادة سطحيون، نقل أخبار المهرجانات والحفلات وفضائح النجوم؟ ألم نفقد جلّ مجلاتنا الثقافية والفكرية وملاحقنا الصحفية؟ ألم تتحول تلفزاتنا إلى سوق مزادية لبيع الطناجر والحقائب والحفاضات والسحر والشعوذة والتطبب والفتاوي الدينية؟
لكن الغريب أن تنطلق تلك الأسئلة مما يسمى النخبة التي من المفروض أنها تعلم بواقع العزلة الثقافية التي تعيشها، حتى أصبح منتجها نفسه سطحياً، فالقاعدة عندنا صارت "الذي لا نعرفه غير موجود".
ألا نعيش انتكاسة في الإعلام الثقافي منذ الثمانينات، ولا تعدوا برامجنا التلفزيونية، التي يقدمها في العادة سطحيون، نقل أخبار المهرجانات والحفلات وفضائح النجوم؟ ألم نفقد جلّ مجلاتنا الثقافية والفكرية وملاحقنا الصحفية؟ ألم تتحول تلفزاتنا إلى سوق مزادية لبيع الطناجر والحقائب والحفاضات والسحر والشعوذة والتطبب والفتاوي الدينية؟
نوبل 2021 و"التنزنة" والعرب المهللون
تراجع الهجوم على الفائز هذه المرة مبكراً بعد انحراف البعض بالسؤال بحس قومي بائس، من "من هذا ؟ إلى "هل تعرفون من هذا؟".
وبدأت الإجابات الكرنفالية: واحد يدعي أن الجائزة أنصفت أخيراً القارة الإفريقية بتتويج كاتب أفريقي من تنزانيا، دون أن يتثبت حتى في قائمة من تحصل عليها، بينما يلتقط آخر إشارة إلى أصل الكاتب والعائلة الزنجبارية، ليتوسع في الأصل العربي للكاتب وانحدار عائلته من اليمن وتأثره بالثقافة العربية الإسلامية، رغم إنكار الكاتب نفسه لذلك التأثر، وبسرعة أيضاً تغرق المواقع الإخبارية بخبر الجائزة وسيرة الفائز، وتتساقط علينا صور الكاتب من محرك البحث غوغل وتتوشح بعض الأخبار بمقاطع من حواراته مترجمة على عجل بطريقة ركيكة.
يتفاجأ المصريون مثلاً، والذين بدأوا منذ الصباح في التهكم على الفائز المجهول بالنسبة إليهم، أنه كان ضيفاً في مؤسسة ثقافية مصرية بالتعاون مع المركز الثقافي البريطاني 16 نوفمبر سنة 2016، لكنهم، ربما، لم يلبوا حتى دعوة المؤسسة، ولم يذهبوا إلى اللقاء الأدبي الذي أدارته في فضاء "الكتب خان" الأكاديمية شيرين أبو النجا.
تحول الحديث، بعد مشاهدة مقاطع من اللقاء وصورة لصاحبة الفضاء مع الكاتب الفائز على صفحتها، إلى نبوءات تلك المؤسسة التي استضافته. وظهرت أغلفة الصحف وقد استحوذت عليها الصور المقرصنة للفائز، مبشرة بأعداد خاصة وحوارات ستُحلب ليلة حصوله على الجائزة عبر "google translate"، كل ذلك ونحن نضرب فجأة الدف الإفريقي ونرمي بالبخور الزنجباري، كما فعلنا سابقا مع فوز سوينكا ثم نسينا ولم نعد حتى نشتري رواياته.
كما تعودنا كل عام، ستغرق سوق الكتب بترجمات مقرصنة لكتب الفائز بجائزة نوبل للآداب في دور نشر عربية، يستعين فيها أصحابها بأكثر المستعدين لتقديم العمل في أقرب فرصة، وستكون جودة الترجمة آخر ما سيقع التفكير فيه. المهم أن تبدأ الليلة في الترجمة يا عزيزي، والمهم أن تسلّم الكتاب سريعاً
رسائل المحرّرين الثقافيين
مراسلو الصحافة الثقافية أول المهرولين إلى الكتّاب بجميع مستوياتهم لكي يكتبوا تقريرهم السنوي للمنابر التي يشتغلون فيها، فيسألون حتى الذي لم يضبط يوماً يقرأ رواية عالمية مترجمة، عن رأيه في نتائج الجائزة، وعن استبعاد العرب، وعن عدم فوز أدونيس بها وأحقيته بالجائزة من عدمها.
سيتململ أحد الكتاب وسيقول إنه لا يعرف الكاتب لكي يعطي آراء فيه، فيحرضه المحرر الثقافي أو مقدم البرنامج الإذاعي ويشير اليه بقراءة سيرته من ويكيبيديا بالعربية، وما سيكتب عنه الليلة من مقالات، وقد يبذل مجهوداً ويرسل إليه الروابط إذا شعر بكسله. قد يجيب كاتب في مكالمة هاتفية بأنه لا يستطيع أن يدلي برأيه في كاتب لا يعرفه، لكنه يثمّن فوز الأفريقي بها. لم يكن يقول ذلك لينشر بل ليعتذر من الصحافي بطريقة لبقة، فإذا رأيه يتصدر التقرير بالبنط العريض.
ماذا يحدث عادة؟
كما تعودنا كل عام، ستغرق سوق الكتب بترجمات مقرصنة للكاتب في دور نشر عربية، يستعين فيها أصحابها بأكثر المستعدين لتقديم العمل في أقرب فرصة، وستكون جودة الترجمة آخر ما سيقع التفكير فيه. المهم أن تبدأ الليلة في الترجمة يا عزيزي، ولا يهم تترجمها عن الإنجليزية، عن الفارسية، عن الفرنسية، عن الإسبانية أو السويدية، المهم أن تسلم الكتاب سريعاً.
لا يهم إن قفزت صفحات أو أربكت جملاً، أو حتى ترجمت كتاباً آخر ووضعت اسم الفائز عليه. نريد فقط السرعة، فدكاكين النشر العربية تراهن على لحظة الذروة، وهي الأسابيع الأولى من إعلان الجائزة، بعدها لن يشتري كتابه أحد.
"ليس هناك أي فائدة في تقديم اسم كاتب عربي للجنة جائزة نوبل بدون توفر عدة أمثلة للنصوص، إما المكتوبة في اللغات الغربية أو المترجمة إليها. وإذا كان لتقييم جدارة المؤلف المعين على المستوى المحلي دورٌ مهم في بداية العملية، فكانت بداية فقط لعملية طويلة تعتمد، وإلى أبعد الحدود، على الترجمة"
هذه الصورة السوريالية لواقع النشر عندنا ليست كاريكاتورية، فكبريات دور النشر عرفت عن قرب كيف تشتغل: بعضها يعيد ترجمة الكتاب بتغيير تركيب الجملة عن ترجمة سابقة دون أن يلمس الكتاب الأصلي، وبعضها يوزع الكتاب على مترجمين، وبعض المترجمين يوزعون الكتاب على طلبتهم، وبعضهم يوزعها على العاطلين والمحتاجين من الكتّاب لكي يترجموا له ويضع اسمه في النهاية ويدفع لهم مقابل ما ستدفعه له الدار، وتبقى الدور المحترمة في التعامل مع الكتب وترجمتها نادرة عربياً، وهي تعرف نفسها وتعرف الطفيليين الذين صاروا بلا عدد.
وضع سوريالي
منذ سنوات طويلة حاورت الأكاديمي المترجم الأمريكي /الإنجليزي روجر آلان، رئيس قسم العربية في جامعة بنسلفانيا بأمريكا، والمتخصص في الأدب العربي الحديث، والذي يعتبر عرّاب جائزة نوبل التي تحصل عليها نجيب محفوظ، وبقي لسنوات قريباً من الجائزة وكواليسها، وسألته عن بعض حماقاتنا العربية:
"رشحت مجموعة من اللجان والمؤسسات المغاربية محمود المسعدي التونسي صاحب (حدّث أبو هريرة قال) و(السد) و(مولد النسيان)، قبل وفاته، لجائزة نوبل. هل قرأت للمسعدي و هل لك رأي في هذا الترشيح؟".
– أشرت أعلاه إلى أني على اتصال مستمر بلجنة نوبل في الأدب، ومن الواجب على مرشِّحي أي كاتب للجائزة أن يفهموا بعض الشروط المتعلقة بمشروع الترشيح. أولاً والأهم، لجنة نوبل تقرأ نصوص الكُتاب المرشَحين في بعض اللغات فقط (والعربية ليست من هذه اللغات) فبدون توفر نصوص مترجمة لأي كاتب عربي، ولعدّة أمثلة من مؤلفاته وفي أكثر من لغة أوروبية واحدة، ليست هناك أي فائدة في ترشيح كاتب عربي على أساس قيمة المؤلفات وتقييمها النقدي في السياق المحلي العربي فقط.
وكان فوز نجيب محفوظ بالجائزة مثلاً جيداً لما هو المقتضى، وهذا بعدد مؤلفاته المتوفرة في نصوص مترجمة إلى عدة لغات أوروبية (والسويدية واحدة منها!) وتنوعها وتمايزها فنياً".
متى سنتوقف عن هذا التيمّم السنوي مع نوبل للآداب، وننصرف إلى العمل الثقافي الجاد والبناء، عبر الانفتاح الثقافي وتطوير مشهد الإعلام الثقافي العربي؟
وعندما اعتقدت أنني أحرجته بالسؤال عن إبراهيم الكوني قائلاً:
"تربط بين الترشح لجائزة نوبل والترجمة. لماذا لم يقع ترشيح إبراهيم الكوني وهو مترجم إلى لغات عديدة؟ وما رأيك في إبداع هذا الكاتب الليبي؟
أجابني: "ليس هناك أي فائدة في تقديم اسم كاتب عربي للجنة جائزة نوبل بدون توفر عدة أمثلة للنصوص، إما المكتوبة في اللغات الغربية أو المترجمة إليها. وإذا كان لتقييم جدارة المؤلف المعين على المستوى المحلي دورٌ مهم في بداية العملية، فكانت بداية فقط لعملية طويلة تعتمد، وإلى أبعد الحدود، على الترجمة وعلى عدد الكتب المترجمة وامتياز الترجمة نفسها وتنوع النصوص المقدمة للتقييم".
نشرت الحوار النهري وقتها في مجلة عربية شهيرة "عمان الثقافية، العدد 129" والتي توزع مجاناً في المؤسسات الأكاديمية والثقافية، وتصل عدداً من الكتاب العرب، في محاولة مني لإضاءة شيء عن شروط الترشح للجائزة، بعد أن وصلنا أن بعض الكتّاب المساكين يشحنون كتبهم في كراتين ويرسلونها إلى عنوان إدارة الجائزة، ويعتقدون بذلك أنهم رشحوا أنفسهم.
وأعدت نشر الحوار في جريدة محلية لتعميم الفائدة، غير أن مؤسسة ثقافية رسمية "أكاديمية" عريقة في تونس رشحت مرة أخرى كاتباً تونسياً يكتب بالعامية، ولم يُترجم له نص وحيد للإنجليزية، لأنه عضو في لجنتها العلمية، وعندما سألته صحافية عن ذلك، ادّعى أن الجائزة أرسلت له هيئة لتراه في دولة عربية شقيقة، كما لو أن الجائزة ستشتري خروفاً لعيد الأضحى. هكذا وصلنا، إلى هذه السوريالية.
في الحوار الذي أشرت إليه مع روجر آلان، سألته متى سيتحصل العرب من جديد على نوبل للآداب، فقال لي وقتها ليس قبل عشرين سنة. رأيتها وقتها فترة طويلة جداً، لكنها يبدو أنها أوشكت على الانتهاء ولم يتحصل عليها عربي واحد بعد نجيب محفوظ، لا لأن الأدب العربي ليس فيه كتاب ومبدعون، بل لأن صوتهم خافت بسبب بقاء نصوصهم في العربية قبل كل شيء، وإن ترجمت فليست في دور نشر كبيرة، أو لأنها لم تحقق لا التراكم ولا التنوع الذي أشار إليه عراب نوبل روجر آلان.
فمتى سنتوقف عن هذا التيمّم السنوي مع نوبل للآداب، وننصرف إلى العمل الثقافي الجاد والبناء، عبر الانفتاح الثقافي وتطوير مشهد الإعلام الثقافي العربي؟
معذرة لم أكتب كلمة عن الكاتب التنزاني لأنني لم أقرأ له حرفًا، وكل ما قرأته عنه لا يشرع لي الحديث عنه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع