يرافق إعلان اسم الفائز بجائزة نوبل للأدب كل سنة، موجات متفاوتة من الاعتراض والجدل بشأن استحقاقه، وتتعدّى الحجج منجزه الأدبي إلى مواقفه السياسية وزلّات ماضيه، كأن الأمر يتعلق بقرار بابويّ بإعلان قداسة أحدهم!
فيما يلي نحاول الإشارة إلى أهم الأعمال المترجمة إلى اللغة العربية للكاتب النمساوي بيتر هاندكه (1942)، الفائز بجائزة نوبل للأدب للعام 2019.
شاءت الصدف السعيدة أن تكون خمس من رواياته ومسرحية واحدة قد ترجمت قبل نيله الجائزة، عبر فترات متباعدة، إلى لغتنا، بدءاً من مطلع التسعينيات وحتى ما قبل فوزه بسنتين، تبعتها ترجمات أكثر عدداً بعد فوزه بنوبل، كما هي العادة.
تميل روايات هاندكه المترجمة إلى القصر والتنويع، مع شيء من الغموض في أحداثها، ما لا يشدّ القارئ فحسب، بل يجعله يشترك في التأليف إن صحّ التعبير، في محاولة لإكمال النقص المتعمّد في الأحداث، والذي لا يَعِد تقدم القراءة بكشفه. مع الإشارة إلى أن هذا الأمر يتطلب من القارئ أن يتمتع بنفس طويل لتجاوز التفاصيل الكثيرة التي يُغرق فيها هاندكه أبطاله القلقين.
نعيٌ أدبيّ للأم
الحدث المحرك المركزي، الواضح والقوي والباعث على التذكر والكتابة، يرد للكاتب المقيم في باريس، حيث يعمل على رواية من مسقط رأسه في النمسا. يتلقى هاندكه نبأ انتحار أمه، ليبدأ بعد أسابيع قليلة بتنفيذ رغبته الملحّة بالكتابة عنها كطريقة للتعبير عن حزنه عليها ورثائه لها. هكذا ولدت في شهرين "الشقاء العادي، 1972" التي ترجمها بسام حجار، وصدرت عن دار الفارابي (صدرت ترجمة لاحقة لها في مصر بعنوان "محنة" بتوقيع هبة شريف).
تميل روايات الكاتب النمساوي بيتر هاندكه المترجمة إلى القصر والتنويع، مع شيء من الغموض في أحداثها، ما لا يشدّ القارئ فحسب، بل يجعله يشترك في التأليف إن صحّ التعبير، في محاولة لإكمال النقص المتعمّد في الأحداث
يكتب بيتر الابن لأنه يعرف عن أمه وعن سبب موتها أكثر من الصحفيين المتطفّلين، ولأنه يريد أن يكتب كأنما ليثبت مرور أمه في الحياة، وليستقي من موتها عبرة ينقلها للآخرين. ربما كان متسرعاً في الوصول إلى إنهاء كتابته، كما يوضح في السطر الأخير منها، كمن يسارع إلى إيفاء دين مستحَق تأخّر عن سداده.
لا يبدأ كتابته بشكل اعتيادي، أي كيفية تلقيه الخبر ورحلته إليها وما فعله بعدها. إنه يريد أن يكسب تعاطف القارئ ويحتفظ به، كما يصرّح. يهتم هاندكه بشكل كتابته أكثر من اهتمامه بالكتابة ذاتها، ويعترف بصعوبة هذا الأمر. يكتب بلغة عمومية بعيدة عن المباشرة، تتصف بكونها أيضاً شاعرية وتجريدية، أبطأت من حركة كتابته كما يقرّ، ومن سرعة قراءتنا بالتالي.
يحكي أولاً عن مشاعره، عن ذهوله وصدمته ورغبته الآنية بالكتابة، وعن تعامله مع الآخرين الذين تجرأوا على كسر خصوصية الحدث بالنسبة له، بالحديث عنه وإظهار تعاطفهم، قبل أن يعود للسرد الاعتيادي الذي لا بد منه، بالحكي عن حياة أمه، بدءاً من أجدادها ووالديها.
يصوّر حياة البنات عامة في ذلك الجيل (المولودات في عشرينيات القرن الماضي وما قبلها) على نحو مأساوي، فهن محكومات بالموت. لا مستقبل لهن سوى البيت الزوجي، الإنجاب، المرض ثم الموت. أرادت أمه (التي تبقى بلا اسم) كسر ذلك من خلال إصرارها على متابعة تعليمها، الأمر الذي كان استثناء حينها، وجُوبه بالتقاليد الصارمة، فصارت هذه المرأة المتمردة عابثة فيما بعد؛ تدخّن بصورة علنية وتشتري لنفسها صداراً من الأموال التي بالكاد تكفي للطعام وتأمين دفء الشتاء، وتجهض نفسها عدة مرات.
نرى أن الأم عاشت فقراً مدقعاً وظروفاً قاهرة، خاصة في برلين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث لحقت بزوجها صف الضابط الذي قبلت به فقط كي لا يبقى ابنها (الكاتب) بلا أب، لأن أباه الحقيقي هو موظف ألماني متزوج. مع ذلك لا شيء استثنائياً، إنه "شقاء عادي" في سنوات الحرب الكبرى تلك.
في برلين، تحاول أن تعيش حياة جديدة، حياة المرأة المدينية المختلفة عن حياة الفلّاحة السابقة، مع ما يلزم ذلك من تصنّع، فنظافة الأولاد الدائمة تغطي على جوعهم. وعندما يرحل ابنها ليعيش في الخارج، تظلّ تكتب له شاكية وحدتها ومصرّحة برغبتها بالموت، خاصة في فترة انهيارها العصبي الأخيرة، هو الذي يعترف بنسيانه لها مع أنها الفرد الوحيد في عائلته، فالزوج السكّير والمتبطل الذي يضرب أمه على مرأى من أولادها لا يعنيه، والبقية هم "أولادها" كما يكرّر، لا أخوته.
لم يكن موتها سوى اختياراً بعد طول مرض ومعاناة، رتبته بدقة ووضوح. ذهبت إلى مزين الشعر في اليوم السابق، اشترت حبوب المنوّم، أرسلت لابنها رسالة بالبريد السريع تحدد فيها ما تريده في مراسم دفنها، كانت تمزح على العشاء، أدخلت الأولاد في فراشهم، بدّلت ثيابها ولبست المنامة، ابتلعت الحبوب واستلقت في وضعية جثة.
محاولة فاشلة لفهم المرأة
الحدث المركزي في حياة العائلة الصغيرة في هذه الرواية القصيرة، "المرأة العسراء، 1976"، الصادرة عن دار الآداب بترجمة ماري طوق، يبدو غير مفهوم وبلا أسباب واضحة، عكس الرواية السابقة، واللافت أنه يظل كذلك مع تقدّم الأحداث. فبعد عودة الزوج برونو من جولة عمل في الدول الاسكندنافية، يصطحب زوجته إلى العشاء في الفندق القريب ويبيتان ليلتهما في غرفة ضمنه، فقد أعاد اكتشاف حبه وشوقه وحاجته لزوجته هناك، في تلك البلاد النائية والأكثر برودة.
يتلقى هاندكه نبأ انتحار أمه، ليبدأ بعد أسابيع قليلة بتنفيذ رغبته الملحّة بالكتابة عنها كطريقة للتعبير عن حزنه عليها ورثائه لها. هكذا ولدت في شهرين "الشقاء العادي، 1972" التي ترجمها بسام حجار، وصدرت عن دار الفارابي
في طريق عودتهما صباحاً إلى البيت تفاجئه ماريان (والتي يظل الكاتب يشير لها بكلمة "المرأة" بطلبها: "خطر لي فجأة إلهام ـ هذه الكلمة أيضاً جعلتها تضحك ـ أن تذهب عني وتتركني وحدي". يجاري الزوج طلبها الغريب هذا معتقداً أنها تلهو، ثم مع مضيها في خيارها يعتبرها مريضة تحتاج لعلاج بالصدمات الكهربائية.
صديقتها ومعلمة ابنها في المدرسة، فرانشيسكا، تعتبرها متصوفة تريد أن تعيش لذاتها فقط. عدم وضوح أسباب طلب "المرأة"، خاصة مع عدم وجود رجل آخر في حياتها، وإن تدافع أكثر من واحد منهم بمجرد أن صارت وحيدة، يجعل القارئ يشترك في لعبة التخمينات، وبالتالي في "التأليف": قد يكون عامل المناخ الجامد والثقيل هو السبب، حيث رؤية الغيوم تتحرك في السماء هو الدليل على مرور الأيام، والطقس عامل فعّال، أثّر في برونو خلال سفره الأخير، فقد كان عواء الذئاب هو مؤنسه الوحيد في لياليه الفنلندية، ولأن "المشاعر الأنثوية ترتبط ارتباطا شديداً بالطقس"، كما يقول هاندكه نفسه في موضع آخر.
يمكن أن نضيف أيضاً طبيعة المكان ذي المساكن الصناعية المتشابهة التي تتكرر فيها المشاهد ذاتها. هذا الروتين القاتل الذي يدفع المرء لكسره بأية طريقة، حتى لو كانت ستتسبب بتشابهه مع حشد الشخصيات التي تخنقها الوحدة في الرواية: فرانشيسكا، البائعة، الناشر الذي كانت تعمل عنده قبل زواجها، وعادت للترجمة لصالحه، كاتبه البائس الذي يظل يزوره ليقنعه بعدم الانتحار، والد ماريان وهو كاتب أيضاً... وقد قام بعضهم بتحذيرها من مستقبل تحتلّه هذه الوحدة، خاصة والدها الذي سافر لمقابلتها تحديداً لهذا الغرض.
يؤثر الانفصال على أفراد العائلة الصغيرة. ابنهما البالغ ثماني سنوات يزداد شقاوة وتصعب تربيته عليها، رغم أنها تزيد اهتمامها به في محاولة لتعويض غياب الأب، لكنها تفقد صبرها سريعاً وتصير عنيفة معه. برونو بدوره يزداد عصبية وعدائية تجاهها، ليصل إلى حد التفكير بقتلها. من جهة أخرى، كان الانفصال في صالحها لناحية تركيزها على حياتها الخاصة وعلى جسدها وجمالها، وعودتها إلى العمل من أجل ضمان استقلاليتها التامة.
يوزف بلوخ: الميكروفون والرادار
تتضح تجريبية هاندكه في رواية "خوف حارس مرمى عند ضربة الجزاء، 1970" ، تحديداً في رسم شخصية يوزف بلوخ، حارس المرمى المعتزل، وعالمه الداخلي القلق وشديد الاضطراب
تُفتتح "خوف حارس مرمى عند ضربة الجزاء، 1970" الصادرة مرتين عن منشورات الجمل، بترجمة عن الألمانية لأحمد فاروق ومراجعة خالد طوبار، ثم بترجمة عن الفرنسية لصالح الأشمر، بطرد يوزف بلوخ، حارس المرمى المعتزل، من عمله. يقبض يوزف ماله، يجمع أغراضه وينطلق متشرداً. يتحوّل تشرده سريعاً إلى هروب ومحاولة للخروج من البلاد تسللاً، لأنه اقترف بدم بارد جريمة قتل غير مفهومة الدوافع، كما في طلب "المرأة" الانفصال عن زوجها، فقد لاحق بلوخ الفتاة التي تعمل محصّلة في السينما، إلى أن بات ليلته عندها ثم خنقها.
تتضح تجريبية هاندكه في هذه الرواية، تحديداً في رسم شخصية يوزف بلوخ وعالمه الداخلي القلق وشديد الاضطراب، يقوم بذلك من خلال منظور ثنائي يتناوب بين الداخل والخارج: فهو أولاً ينقل لنا ما يراه وما يسمعه بلوخ، أي حواسه الداخلية المستنفرة تجاه العالم الخارجي، إلى درجة أنه يظن بمعرفته بوقوع الأحداث قبل لحظة من وقوعها، وكل ذلك دون اهتمام بأي تحليل نفسي أو محاولة تفسير لهذه النظرة، والتي تكون دائماً مُضخّمة ومبالغ فيها، فالهمسة لها وقع الصرخة داخل نفس بلوخ الجزعة، وأبسط حركة خالية من المعنى تأخذ معاني لا حصر لها عنده.
فهاندكه لا يريد أن يقول لنا شيئاً معيناً إنما يريد أن يوصلنا إليه، أن يجعلنا نحن من يدركه ويقوله. يصور لنا ثانياً التفاصيل الخارجية المتعلقة بحركات بلوخ وسلوكه، وكيف يراه من هم حوله، إذ نراه شخصاً شديد الارتباك، لا يلبث أن يهب واقفاً بعد الجلوس لثوانٍ، يخرج بعدها بسرعة ثم يعود ليدخل ويجلس بنفس السرعة.
"لاحظ أن وعيه بذاته كان شديداً جداً، حتى أنه شعر به كحاسة لمس على كامل جسده، وكأن الوعي، وكأن الأفكار، قد أصبحوا جميعاً ضده هو ذاته، يهاجمونه بالأيدي والشتائم". يتضح هنا استنفار حواسه المشحوذة تجاه كل ما يحيط به، ويتجلى عملياً في مثال جلوسه في المطعم الذي تستأجره صديقته قرب الحدود: فقد كان يقرأ جريدة اليوم، وتحديداً الخبر الذي يتحدث عن مستجدات التحقيق في مقتل محصلة السينما، ويستمع إلى ثرثرة صاحب المطعم التافهة والتي يظنها مشفرة ذات معانٍ عدة، وينظر إلى الشارع مراقباً ما يحدث عبره، ويتذكر بتأثير من هذا كله أشياء حدثت معه في الماضي.
عمل بلوخ السابق كحارس مرمى متعود على التأهب وتوقع الحركات التالية، يساعده على الهرب من الشرطة التي بدأت بملاحقته بعد أن حددت المنطقة التي لجأ إليها. خوفه هنا مضاعف عمّا يكونه خوف حارس المرمى لحظة تنفيذ الخصم لركلة الجزاء، لأنه هو نفسه من ارتكب الخطأ الذي أتت منه ضربة الجزاء.
طبيعة بلوخ شديدة الحذر، لا يسمح حتى لكلمة "هرب" بالتردد في رأسه لكيلا تنفضح نيته. يدرس طبيعة وجغرافية المنطقة الحدودية التي يتوجّه إليها، يراقب مواقع الحراس وتبدل نوباتهم ومواقع حقول الألغام، إلى أن يعي الصعوبة الكبيرة في تجاوز الحدود. يعلم من دردشة مع أحد الحراس إلى أي درجة يشبه عملهم عمله السابق، حيث يصدّ هؤلاء المتسللين ركضاً في محاولة تجاوز خط الحدود، ويلتقطونهم باليدين.
تنتهي الرواية بمحاكاة مصيرية تخص بلوخ المرهق الذهن والجسد. فأثناء مباراة كرة قدم محلية يشاهدها، يحصل أحد الفريقين على ضربة جزاء، اللاعب المرهق بدوره، الذي يتقدم لتسديدها، يرسلها إلى الأمام مباشرة، ليلتقطها بسهولة حارس المرمى الذي بقي في المنتصف.
ملاحقة صاخبة من أجل انفصال هادئ
تجري أحداث "رسالة قصيرة للوداع الطويل، 1972"، الصادرة عن منشورات الجمل بترجمة نيفين فائق، عبر عدة ولايات أميركية، وهي الرواية التي كان هاندكه يعمل عليها عندما تلقى خبر انتحار أمه.
"أنا في نيويورك. أرجوك لا تبحث عني، لن يكون خيراً أن تجدني..."
يبدو أن بيئتها المكانية منحتها صفات تلك البلاد وأدبها، فهي رواية أقرب إلى رواية مغامرات ومطاردة، خاصة مع الملاحقة المزدوجة التي تتم عبر صفحاتها، دون أن تتخلى عن التفاصيل الدقيقة التي تجعل بطلها نموذجاً مصغراً عن يوزف بلوخ، غير قادر على وصف الأشياء وصفاً عاماً شاملاً إنما فقط من خلال تفاصيلها الدقيقة، مع وجود مشكلة نشأت وكبرت معه، تتمثل في طبعه المراقب غير المتفاعل مع ما يمر من أحداث في حياته، وهو الأمر الذي يبرره بعيشه في مدرسة داخلية كثيرة المحظورات، اضطر معها إلى عيش الأشياء وإتمامها في خياله، وهذا ما ساهم أيضاً في أن يصبح كاتباً.
تبدأ الرواية بملاحقة الزوج لزوجته الهاربة من عنفه وحياتهما الجحيمية معاً، تعلم هي بذلك، فترسل رسالتها القصيرة إلى أول فندق من بين الفنادق الكثيرة التي ينزل فيها: "أنا في نيويورك. أرجوك لا تبحث عني، لن يكون خيراً أن تجدني".
لكنه يستمر بالشيء الوحيد الذي أتى للقيام به، والذي جعل حتى رؤيته لأخيه المهاجر قليلة الأهمية، إذ اكتفى بالاطمئنان عليه بإلقاء نظرة من بعيد، إلى حين وصوله إلى سانت لويس، حيث تعيش كلير، المرأة التي جمعته بها علاقة في زيارة سابقة، وكان قد أنهك في ذلك الحين، وتعب من الملاحقة ومن أفكاره التي لا تدع احتمالاً إلا وتطرحه أمامه، مهما كان بعيد الحدوث، ومن حواسّه التي تظل تلتقط التفاصيل وتحشدها في رأسه، فكان بحاجة إلى من يُنسيه ذاته وما هو فيه، وهنا تنقلب الملاحقة وتصير يوديت هي من يلاحقه، كأنها عرفت بصحبته الجديدة.
يرحل مع كلير وطفلتها البالغة عامين في رحلة طويلة إلى صديقين لها، وهنا يبدأ في تلقي الهدايا المشفرة من يوديت التي تهدده من خلالها بالقتل، وتجنّد عصابة من الأولاد تقوم بالاعتداء عليه وسرقة ماله، وكان آخر هداياها، خريطة حددت عليها موقعاً بقلم الحبر، يلتقيان فيه، ويتفقان بعدها على الانفصال بهدوء.
الرحّالة العاشق
رحلة من نوع آخر وتجريب جديد، نطالعهما في "دون جوان يحكي عن نفسه"، الصادرة مؤخراً عن داري "سرد" و"ممدوح عدوان"، بترجمة سمير جريس. ليست المرة الأولى التي يُستدعى فيها "ماجن أشبيلية" إلى عالم الأدب والفن، منذ أن أبرزه إلى الأضواء الشاعر الإسباني تيرسو دي مولينا، في القرن السابع عشر. يقدمه هاندكه في هذه الرواية وفق رؤيته الخاصة، المختلفة عن سواها وعن نسخته الأصلية.
يقتحم دون جوان فجوة السور، في بيت الراوي بالقرب من دير "بور رويال دي شون" في ضواحي باريس، هارباً كعادته من مطاردة. يختلط الأمر على الطاهي الذي هجر الزبائن مطعمه فصار يقضي أيامه في قراءة الروايات، إذ بدت تلك الشخصية الشهيرة خارجة من بين الصفحات. وعلى مدى أسبوع يحوله إلى مستمع يقصّ عليه أحداث أسبوعه المنصرم يوماً بيوم، الذي قضاه متنقلاً بين بلدان العالم: من جبال القوقاز في جورجيا، إلى دمشق القديمة، فسبتة بوابة أفريقيا على أوروبا، والنروج على شاطئ أحد ألسنتها المائية الكثيرة، وصولاً إلى هولندا خلف أحد سدودها التي تقي تلك الأراضي المنخفضة من اجتياح مياه البحر لها...
بيتر هاندكه كان واحداً من اكتشافات المترجم بسام حجار، وهذا ما يبرز أهمية دور المترجم وسعة ثقافته في انتقاء روايات لكتاب جدد على لغتنا العربية، المفتقرة للغاية إلى المزيد من الكتب المترجمة
تتشابه قصص الرحالة العاشق والأجواء التي تحدث فيها، ورغم ذلك يرويها الرجل ذو الكاريزما العالية بتدفق ونهم يعادلان تعطشه للحياة؛ فهو يوازن استكانته الظاهرية بنشاطه الداخلي، لذلك يضطرب سلوكه ويرتبك عندما ينتهي من سرده، ولا يكون أمامه سوى الهرب من جديد. سعيه المحموم للهرب يهدف إلى المغامرة والابتعاد عن خوفه الأكبر المتمثل بأن يصير رجلاً عادياً، يحتل حياته الروتين الشبيه بتكات ساعة تعدّ الوقت فحسب. كما أنه مُحَرَكٌ بحزنه الكبير الذي يتغلب عليه بكل صلابة، وهذا تحديداً ما يمنحه جاذبيته في عيون نسائه الفائقات الجمال، اللواتي يقدمن له أنفسهنَّ أينما حلّ.
خاتمة
كتب الروائي حسن داوود مرة، في معرض استذكاره لصديقه الشاعر الراحل بسام حجار، أن الأخير كان يحكي أحياناً عن ترجماته، وعندما يكون ما ينقله هو أوّلُ المعرَّب لكاتبه، يقول إنه اكتشف هذا الكاتب أثناء قراءته وإن القراء العرب سيكتشفونه أيضاً.
بيتر هاندكه كان واحداً من اكتشافات حجار وتقدماته لنا، وهذا ما يبرز أهمية دور المترجم وسعة ثقافته في انتقاء روايات لكتاب جدد على لغتنا العربية، المفتقرة للغاية إلى المزيد من الكتب المترجمة، نتيجة افتقارها عموماً لأفراد ومؤسسات يهتمون بهذا الجانب من الحياة الثقافية، واختيار العناوين بعد دراسة واطلاع، لينقلوا ما يستحق الترجمة لجودته وليس فقط للضجيج المصاحب لاسم مؤلفه، الذي لا يعكس بالضرورة جودة ما كتبه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...