لن يجد قارئ رسالة الغفران نصاً كتبه أبو العلاء المعري (973 - 1055) عن رحلة ما بعد الموت، لكنه سيجد في طبعة الكتبخان الصادرة أخيراً في القاهرة، رسالة أخرى كتبتها ناريمان الشاملي حول هذه المسألة.
كانت رسالة الغفران سباقة في تناول هذه الفكرة، شكل الحياة ما بعد الموت، والتجوّل بين الجنة والنار عن الكوميديا الإلهية Divine Comedy للإيطالي دانتي اليجيري (1265-1321) Dante Alighieri.
وجدت المترجمة والروائية المصرية صعوبات عند قراءة رسالة الشاعر والفيلسوف المولود في بلدة معرة النعمان بسوريا، عام 973. كلما همت بقراءة الكتاب، تركته من دون أن تفهمه، فكان قرارها بتحويله إلى نص مفهوم.
يفقد النص التاريخي في هذه الطبعة الكثير من زخمه وثقله اللغويين بعد صياغة الشاملي له، إذ قامت بتحويل نص أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان أبو علاء المعري القضاعي التنوخي، إلى حكاية تتسم بأسلوب مبسط جداً.
تؤكد صاحبة الكتاب أنها أرادت أن تقدم النص مترجماً إلى العامية المصرية الخاصة بـ"المتنورين". وتقول: "كلام الناس اللي مش متعلمين أوي، أو كلام الناس براحتها.. تحسوا حد من أهلكو بيحكلكو موقف حصل معاه، من غير أي تعقيد أو تكلف".
رحلة لغوية
تبدأ الأحداث حين يرسل الشيخ ابن القارح رسالة لأبي العلاء تضم رؤيته للشعر، والدين، والأخلاق، ورؤيته لحال الدنيا. يأتي رد المعري متخيلاً حياة هذا الشيخ كواحد من أهل الجنة. سيجد القارئ أن ما قدمته الشاملي يعد جهداً كبيراً، حتى أن وصفه بالترجمة قد لا يعطيه حقه. تكون الترجمة، عادةً، نقلاً من لغة إلى أخرى. الأولى لها نسقها، لغوياتها، نحوها، صرفها، مترادفاتها، زخمها المتحقق عبر نصوصها المكتوبة، وأساليب ضبطها، المتوارثة عبر مئات السنين من التدوين بحروفها في حالة العربية، إلى جانب الكثير من السبل كالمراجع والمعاجم، لتسهيل معرفتها، وفهم مقاصد الكلام بها وبلاغتها. بينما العامية المصرية ليست كذلك. فنحن نتحدث في الأساس عن طرق كتابة هذه اللغة/ اللهجة المنطوقة. تعتمد طرق كتابتها على التحرر من النسق والنحو والقداسة. وفي حال أردنا البحث عن مصادر لطرق تدوين وكتابة العامية المصرية نجد دواوين الشعر المكتوب بالمصرية المنطوقة، وكتباً محدودة صاغها مؤلفوها من أجل التحرر من ضوابط ولزوميات العربية مثل الناقد لويس عوض (1915-1990)، في نصه "مذكرات طالب بعثة"، ومصطفى مشرفة صاحب "قنطرة الذي كفر"، ورغم عنوانها الفصيح، فهي كانت أول رواية تكتب بالعامية. تعد العامية المكتوبة إرثاً غنياً، ساهم فيه المصريون بداية من كتابات بيرم التونسي (1893-1961)، وفؤاد حداد (1928-1985)، وصلاح جاهين (1930-1986) في ما بعد، وعبد الرحمن الأبنودي (1938-2015)، وأحمد فؤاد نجم (1929-2013). ما كتبه المصريون خلال السنوات الأخيرة عبر المدونات منذ عام 2004، ثم Faceook وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي، هو لغة شخصية تختلف من مبدع لآخر ومن مستخدم للعامية لآخر كذلك. كما يعد إنتاج نص عامي يشابه نص أبي العلاء مسألة معقدة. وظفت ناريمان خبرتها في نحت ألفاظ عامية، ومحاولة كتابة نص طويل يحمل الكثير من الأفكار المعقدة والجدلية. رغم هذا الجهد الكبير فقد أوردت كلمات مثل دكتور لوصف الطبيب أو "باشا"، من ألقاب الأثرياء ما قبل ثورة 1952، لوصف كبار القوم، لتحيل إلى العصر الحالي أكثر من كونها تخدم أجواء النص الأصلي.الرؤية بالشعر
يعتمد النص الأصلي على قوة الخيال، وجماليات الشعر. يلجأ أبو العلاء للتعبير عن الجمال عبر أبيات الشعر، نظراً لهوسه البلاغي كشاعر، ولكونه ضريراً يتذوق الدنيا عبر السمع لا النظر، حين يصف لقاء ابن القارح مع حبيبته، التي خرجت له من ثمرة شجرة في الجنة. يتحرك العاشقان بين جبال الجنة، التي تفوح منها روائح المسك والعنبر، ليصف المعري هذا المشهد، في النص الأصلي، مستشهداً بأبيات لامرئ القيس. بينما تكتب الشاملي الموقف نفسه من خلال سرده بلا ذكر للأبيات من الأساس. "شكلك عايز تقلد امرؤ القيس اللي وصف نفسه وحبيبته وهم ماشيين بيحبوا في بعض". كما تورد الشاملي رد ابن القارح هكذا: "يا بنت اللذين! عرفتي منين إن أنا فعلاً كنت عايز أعمل كدا؟". كما تحوّل "المترجمة" الشعر إلى كلام عامي، من دون ضبط الإيقاع، مكتفيةً بضبط قوافي الأبيات فحسب. قد يكون سرد معنى الرسالة أو تقديم ملخصها مسألة مقبولة لتكون مفهومة من الأجيال الأحدث، لكن ذلك في حالة الشعر كان تبسيطاً مخلاً. في النص الأصلي، يتأمل أبو العلاء ما كتبه شداد بن الأسود الليثي في رثاء قتلى قريش في غزوة بدر أمام قوات المسلمين: ألمت بالتحية أم بكر فحيوا أم بكر بالسلام وكائن بالطوى طوى بدر من الأحساب والقوم الكرام ألا يا أم بكر لا تكري على الكأس بعد أخي هشام بينما صاغت الشاملي هذه الأبيات: جت وسلمت علينا ردوا السلام على أم بكر كفاية كلام عن باشوات قريش اللي ماتوا في بدر ومش هشرب تاني خمرة بعد موت أخويا هشام معالجة مسألة الشعر مربكة، خصوصاً أن العمل قوامه الشعر. تتبع هذه الرسالة مصائر الشعراء، من يدخل الجنة ومن يعذب في الجحيم، بسبب بيت كتبه أو قصيدة نظمها. كما أن أبا العلاء نفسه كان ضريراً، تعرّف إلى الدنيا من خلال إيقاع الكلمات وسماعها، فكان جمال الشعر وأوصافه ما يعوض غياب بصره، لكن ذلك يغيب عن النسخة الأحدث من هذه الرسالة. كما يبدو أن جرأة الشاملي في ترجمة رسالة الغفران قاصرة على ما حوته من شعر، بينما لم تمس آيات القرآن، بل أوردتها في الكتاب من دون أدنى تدخل.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...