"لن أنتظر أكثر... الحرامي هرب"؛ صرخ سائق الحافلة على خط المزّة ليحسم جلبة أحدثها رجل نُشِل هاتفُه المحمول من جيبه أثناء خوضِه معركةَ التعلّق بالحافلة. حاول البعض ممن تعاطف مع الرجل المنكوب، إقناعَ السائق بإغلاق الحافلة وتفتيش الركاب، لكنّه رفض: "الناس وراءها مصالح ولن أدعهم ينتظرون".
أحدهم قال إنها الحادثة الرابعة من نوعها في هذا اليوم. آخرُ أدلى بتحليلِ أسباب النشل: أزمة المواصلات تسبب التدافع، النشّالون ينشطون في الأماكن المزدحمة. ثم وجّه كلامه إلى جهة ما"«مبنية للمجهول": "حلّوا أزمة المواصلات يختفي النشل!".
من جانبه لفتَ شخصٌ ثالث إلى معاناةٍ أخرى، غير السرقة، تنجم عن ازدحام المواصلات العامة: "التّدافش المذل جريمة ضد الإنسانية".
قبل أيامٍ وفي غمرة البؤس المُعمّم أجهضتْ امرأةٌ وسط الباص، وسالت دماؤها تحت أقدام الركاب، وكان بينهم أطفال أصيبوا بالذعر.
مشاهد سوريالية
مشهدٌ سوريٌ يوميّ سورياليٌّ لا يقلُّ بترويعِه عن مشهد اشتباكِ شابّ وصبية بالسِّلاح الأبيض نهاراً جهاراً وسط الشارع وعلى مرأى من الجميع. الطبيبُ المسعف في المشفى الحكومي أنّبَ نشطاءَ التواصل الاجتماعي لبثّهم شائعاتٍ حولَ غرابة الجريمة، وأنّ الفتاة توفّيتْ وألقي القبضُ على الشاب في المشفى؛ كلُّ ذلك شائعات. جراحهما غير مميتة، وباقي التفاصيل لدى الجهات المختصة.
إذاً، المُشين في الحادثةِ، ليس الواقعة، وإنما ما أحاط بها بسبب عدم تريث نشطاء التواصل الاجتماعي في إطلاق الشائعات ريثما تُعلَنُ مخرجات حوار السكاكين في الشارع العام.
يوميات "اعتيادية" تُكثّفُ ببلاغةٍ شديدةِ القسوةِ افتقادَ الحياة للمعنى على وقع حربٍ ما فتأت تلوكُ نهاياتها حتى أعمق درجات الاستنقاع والتفسخ، كحالِ المؤنِ المودَعةِ في ثلاجاتٍ تنتظرُ طويلاً مجيء الكهرباء.
مشاهدُ يتصل ويتواصل فيها الخواء، من النّفس إلى الجيوب، وحتى الأمعاء، في مهب "تسونامي التعتير"، وهو يلفُّ البلاد بغبار رمادي دبق، يكسو المنظر العام: جدران، نوافذ، واجهات، سيارات، وجوه، نفوس، وكل ما يُرى وما لا يُرى في شوارعَ يتمطّى فيها السأمُ بخمولِ المستيقظ من قيلولةِ يومٍ قائظٍ انعدمتْ فيهِ وسائلُ التبريد؛ عرقٌ متصببٌ وآلام مبهَمة، وتركيزٌ مُشوّش.
غالباً ما تكون الأهداف الآنية مكافآتٍ تتحايلُ على خسائر العجز عن تحقيق أهدافٍ وجوديةٍ مثل "العيش الكريم" أو والعياذ بالله، التنعُّم بـ"حرية التعبير"
واقعٌ عام لا ينجو منه أيّ كائنٍ من الرابضين في غرفةِ الانتظارِ القسريّ، حتى تلك القطة الصغيرة المولودة في أزقة الشام الراقية، تبدو وقد فقدتْ شغَفَها الغريزيّ، فلا يُقلق غفوتها مشروعُ فريسةٍ؛ مثلاَ: عصفورٌ عاثرُ الحظ أو فأرٌ تائه. تراها تتمطّى، تتثاءبُ بكسل الشيخوخةِ، تُمرِّن مخالبَها الطريةَ بإسفنجِ كرسيٍّ مُهترئ بدلًا عن جذع شجرة، يقلب المللُ حرماتِ جسدها الصغير في انتظارِ خروجِ أشاوسِ القطط للبحث عن طعامٍ في الحاوية، حتى تتبعها لعلّها تُفلح بخطفِ ما يسقط من غنائمها سهواً، حالمةً بحركةٍ سريعةٍ تشُدُّ رخاوة الوقت.
الأهدافُ الضئيلةُ الممكنة هي أيضاً وسيلةٌ لتخفيف أعراضِ التأمل في الفراغ، وما يرافقه من تداعٍ موجع للذكريات تُلهب دمل الكآبة، فلا تحدّ منه استعانةٌ إسعافيةٌ بالصلاة والدعاء، ولا محاولات الهروب إلى ترتيب الأفكار للقفز من "هنا الآن" إلى "التالي هنا أو هناك".
غالباً ما تكون الأهداف الآنية مكافآتٍ تتحايل على خسائر العجز عن تحقيق أهدافٍ وجوديةٍ مثل "العيش الكريم" أو، والعياذ بالله، التنعُّم بـ"حرية التعبير". ولا نقول جديداً بأن تعطيلَ العقل والانكفاءَ عن النشاط الفكريّ المُعادل لوجود الذات جرّاء الحجر على حق التعبير، هو كبتٌ إرادي لشغفٍ غريزيٍ بتحقيق الذات، من قبيل اعتزال الإنتاج الإبداعي الحرّ، وتعويضه بمتابعة ما يُنتجه آخرون وإظهار الجرأة بوضع "أعجبني"، أو على نحو أكثر جرأة تدبيج تعليق مُبهَم، لكن وبالمحصلة هو محض خطف فرائس مسبقةِ الصيد، قد تمن بشعور ترضيةٍ زائفةٍ سرعان ما تتبددُ في وحشةِ الانكفاء.
في ذروة الانتظارِ القسريّ تترنحُ الأجنّةُ مستعجلةً السقوطَ من الأرحامِ إلى الحتفِ الأخير، حين يُفتقد الشغفُ بعيش اختبارات الذاتِ والحياة. وبكثيرٍ من الكآبة نتهاوى في الفراغ، نحصدُ اللاشيء بلا أسفٍ، بينما يتجبّرُ العبثُ في غيّهِ ويواصل الأملُ تلاشيه
شعورٌ يُشبه، على نحو ما، بهجةَ الفوز التافه، مثل: تسجيلِ دور استخراج جواز سفر، الحصول على مخصصات تموينية ومحروقات بالسّعر المدعوم، التحايل على برنامج تقنين الكهرباء، الهروب من دفع رشوةٍ مجانية، والعكس عرض رشوةٍ مجزيةٍ لدفع بلاء أعظم، إلى آخره من إنجازات تلطف وطأةَ العيش. شيءٌ أشبه برّشة رضا زائف، أو عطر رديء يزكمُ فضاءَ المكانِ المُغلَق، ولوهلةٍ مخادعةٍ يضاهي بهجة الإنجاز الإبداعي.
انتظارات متفرقة
لاشكّ في أنّ الانتظاراتِ المُتفرّقةِ السّخيفةِ طريقةٌ ناجعةٌ في قهرِ الانتظار القسريّ العام، فمن أَدركَهُ اليأسُ من لحاق أمّته المنكوبة بركب الحضارة، لن يُدركه اليأس من إعادة محاولة الاتصال عبر شبكةٍ متهالكةٍ متقطعة، والسلوى، كلّ السلوى، في مراقبة دائرة ضوئية تلفُّ كالرّحى وهي تطحنُ الدقائق وتعيدُ وتكرّرُ إشعار "لا يمكن الاتصال"!
في مواجهة الموارد المُستنزَفة، والسّباق المحموم إلى المكتسبات الشحيحةِ حدّ الاقتتال على طوابير المواد المُفتقدة، لا طائل من تلاحُم الاجساد وتطاوُلِ الأعناق والتأفف، سوى انعدام الحيلة أمام عتاةِ جبايةِ المعلوم والاستسلام للانتظار المهين. وهو لفرط استطالته في الزمن أكسبَ البشرَ مهاراتٍ خارقةً وخبرةً طويلة في التحايل حتى أصبح التحايلُ أسلوب عيش، من أدنى مستوى معيشيّ حتى أعلاه، بدءاً من سدّ جوع خمسة أفواهٍ بوجبةٍ تكفي شخصاً واحداً، إلى افتتاحِ منتجعاتِ الرفاهيّةِ وفنادق خمس وعشر نجوم في محيطٍ من الفقر المدقع على كلِّ المستويات.
في ذروة الانتظارِ القسريّ تترنحُ الأجنّةُ مستعجلةً السقوطَ من الأرحامِ إلى الحتفِ الأخير، حين يُفتقد الشغفُ بعيش اختبارات الذاتِ والحياة. وبكثيرٍ من الكآبة نتهاوى في الفراغ، نحصدُ اللاشيء بلا أسفٍ، بينما يتجبّرُ العبثُ في غيّهِ ويواصل الأملُ تلاشيه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون