شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
في انتظار موتٍ لا يجيء

في انتظار موتٍ لا يجيء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

الجمعة 28 أكتوبر 202202:54 م

تندرج المادة ضمن ملف "الانتظار... رنينُ هاتفٍ في صحراء"، إعداد وتحرير تمّام هنيدي.



رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب/تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ (زهير بن أبي سلمى).

أيُّها الزائرُ، أيُّها القابضُ. المجنّحُ باثني عشر جناحٍ من اللؤلؤ والعيون يا من تُلقي علينا سُؤالَ الغياب دون جواب. مَلَكُ الدّارِ التي لا رَجعةَ مِنها. سيّد الحسرات والراحةِ الأبديّةِ. ظلّنا في النهار القائظ، وعد الخريف المكتوب على أوراقِ الشجر. انتظرتُك طويلاً، تعال واجلس إلى جانبي. سأروي لكَ قِصة انتظارك الطويل. فلا تأتني خِلسةً كما يَفعلُ الجُبناء. تَعال بِهيئتك التي أنتَ عليها. لا تتنكر بوجه قاتلٍ، ولا بيد مرتزق. ولا تَعبس برونقِ وجهك ولا تزأر، وخلِّ مكاناً لعلاقتنا الطويلة، فقد عَرفتُ وجوهكَ المئة، وقرأتك في ألفِ كتابٍ، وركضتُ نحوكَ في ألفِ معركةٍ. تناولْ معي فنجان قهوة. ذُق طعمَ البُّن ومرارته. هل لي أن أُشبهكَ بالبُّن؟ ولندع وصفكَ المرعب للأطفال والجبناء. أنت مرارُ حياتنا الفانية، فما متعة الحياة إن كنا خالدين؟

قُلْ يَتَوَفَّىكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ. (السجدة – ١١).

قصص الجدات

روت لنا الجدات قصصاً عنك في أمسياتِ الشتاءِ الطويلة. كان يَكفي أن تَلفظنَ اسمك حتى يسري الفزع في أجسادنا. أطفالٌ ندفن وجوهنا تحتَ اللُحف، فنتخيلك بأكثر الأوصاف رُعباً: عَينانِ مُحمرتان ودماءٌ تَتقطرُ من عباءتكَ العظيمة. صولجانٌ بيُسراك ومنجلٌ في يُمناكَ تحصد بهما الأرواح في أرض المعركة. فَكم تمنيتُ ألا تأتي، ألا تقتربَ وأن يكفَّ الكِبارُ عنا صَولجانك.

هل كان علينا أن نستسلم للقتلة ونركع للملوك؟ هل كان علينا أن نرفعَ العروشَ على أكتافِنا ونسوقَ القرابين لهم لتعفوا عنا؟ هل عقدت اتفاقاً معهم؟ هل بعت أسلحتك لهم، وهل وعدوك بالمُلكِ وأنت الملك؟

وعندما كبرت، أدركت أنَّ مجالس العزاء سلواننا في الرحيل. كُنت أكثر رهبةً وأقلَ قسوة. فإن أتيت على هيئة مرضٍ كان لدينا وقتٌ للوداع. وإن أتيت بغتةً قلنا لعلها الراحةُ الأبديّة. أدركت أنك والحياة صنوان، وأن لك شيئاً من الرقة فتأتي، أحياناً، بخفةِ الوسن على الجفون. وإن أثقلنا الرحيل، سلّمنا للمكتوب. عقدنا معك اتفاقاً نبيلًا، فلا نحنُ نُبغضُك ولا أنت تُثخنُ فينا، فكيفَ خرقتَ اتفاق النبلاء بيننا وبينك؟

«على ماذا يبرؤنني، من دون أخي،

هل سيتحتّم عليّ أن أرقب أرواح الموتى، فأجلس عند باب الأرواح».

ملحمة جلجامش

اختلف كلٌّ شيء

منذ إحدى عشرة سنة اختلف كلٌّ شيء. شهرتَ جميع أسلحتكَ، فلماذا خلعتَ عنك وجهَكَ الاعتيادي الذي ألِفناه؟ كيفَ تركتَ للقتلةِ أن يَستخدموك؟ هَل طَوعوك؟ سرقوا صولجانكَ؟ هَددوك؟ رأيتك على حقيقتك للمرةِ الأولى في عينين حائرتين لشابٍ ثقبَ الرصاصُ صدرَه، فاضت الأسئلة والدهشةُ منهما، مازال الوقت مبكراً، فثمة الكثير من الضحك، والكثير من البكاء، وثمة فتاة تحبه وطفلٌ ينتظره، وثمة حلمٌ بالنصر على القتلة، فلماذا جئتَ قبل أوانك؟ ارتجفتْ شفتاه، وشحُبَ لونُه. وانسكبَ الدمُ غزيراً من جسده. التصقَ وجهُه بالإسفلت ودارت عيناه في كل مكان. ثم سقط شاب آخر، وصرخ من الألم ونادى (أمي) كما ينادي الولد الصغير أمَّهُ، فلماذا لاقيتهُ تحت سقف السماء ممزق الجسد؟

تشبثت بالأرض، ظننتُ أنني لن أنجو. سقط شاب آخر، ولم ترتجف حتى شفتاه. لم تكن بأجنحة كما وصفوك، ولم يكن لك صولجان. كنتَ كلَّ الرغبات التي حلمنا بالوصل إليها، فهل أنت سيّد الرغبات الغير مكتملة؟ انتظرتك لتخطف جسدي، فلماذا حرفتَ الرصاص عني؟ من يومها لم نعد خائفين منك. كنا نخرج كما لو أننا نتحداك. أنت بجبروتك، ونحن بضعفنا البشري. سرنا نحوك بأكفٍّ عاريةٍ وقلنا «الموت ولا المذلة»، فهل عرفت أنّ تجَنبك كان يعني لنا الذلَّ والخنوع. في كل مرة كنت تخطف أحداً منا كنا نجعل من غيابه عرساً. فلا دموعَ نَذرِفُها في حضورك، ولا خشوعَ نظهره لقوتك، وإن متنا فقد انتصرنا عليك، وفزنا بأبدية النصر في الأناشيد. فلماذا برأتني من دون أخوتي؟

هل كان علينا أن نستسلم للقتلة ونركع للملوك؟ هل كان علينا أن نرفعَ العروشَ على أكتافِنا ونسوقَ القرابين لهم لتعفوا عنا؟ هل عقدت اتفاقاً معهم؟ هل بعت أسلحتك لهم، وهل وعدوك بالمُلكِ وأنت الملك؟

من ساعدنا في حفر النفق 

نجمة تشرق من كوة السجن.

مظفر النواب

انتظرتك في ساعات التعذيب الطويلة، معلقاً على بابِ السجن، قلت لك تعال ولتكمل مهمتك. رأيتَ جنزير الدبابة ينتزع لحم ظهري، ونبضات الكهرباء تفجر شراييني. كنتُ أشعر بكفك تنغرز في روحي وتسحبها حتى تصل أوداجي، فلماذا تخليت عني؟ لماذا تمارس هذه اللعبة وما معنى اختبارك؟ هل هي المشيئة أم الإذعان؟ كنتَ مع اقترابك منا تعيد لنا ذكرى حياتنا التي مرت على عجل، طفولتنا العابثة، وشبابنا المشوش، ومشاوير التسكع في الحواري، وجلسات العائلة، وعشقًا لا يجيء وبقايا الكحول الرديء وأضواء المدينة، فهل كنت تشاهد ذكرياتنا مثل فيلم سينمائي؟ هل كنت تستمتع بمشاهدتها من زاويتك المظلمة؟ هل ضحكت أو بكيت؟ تسليت؟ هل فكرت بحبيباتنا اللواتي يضئن لنا عتمة الزنزانة كالنجوم؟

إِن يَقرُبُ المَوتُ مِنّي فَلَستُ أَكَرَهُ قُربَه

أبو العلاء المعري

عدتَ بأكثر الوجوه خداعاً

على خطوط الجبهات

على خطوط الجبهات، رأيتُ كيف تجعلُ من المقاتلين لعبة، فهل تمتعك المعارك، وبماذا تهمس في أذن المُحتربينَ حتى يقتتلوا على الرماد؟ كيف لا تميز بين الجاني والضحية عندما يشتدُّ الاشتباك؟ غرفة بغرفة، وطابقاً بطابق، ووجهاً لوجه، يرمي المقاتلون الرصاص مغمضي الأعين تارة، ومحبوسي الأنفاس تارةً أخرى. يقفزون من مكانٍ إلى مكان ويزحفون من أرض إلى أرض، يتشبثون بالبنادق كما لو أنهم يتشبثون بأجساد حبيباتهم فيكف أقنعتهم بفعل ذلك؟

روت لنا الجدات قصصاً عنك في أمسياتِ الشتاءِ الطويلة. كان يَكفي أن تَلفظنَ اسمك حتى يسري الفزع في أجسادنا. أطفالٌ ندفن وجوهنا تحتَ اللُحف، فنتخيلك بأكثر الأوصاف رُعباً: عَينانِ مُحمرتان ودماءٌ تَتقطرُ من عباءتكَ العظيمة

لا ينتصر أحدٌ في المعركة، لا الموتى ولا الأحياء، فهل تسعى لضياع المعنى؟ معنى تحررنا من خوفك؟ هل تجعل المقاتلين يوغلون في لعبتك حتى يتحوّلوا إلى مرتزقة، يقتلون من أجل القتل؟ سرقت أجمل من فينا وتركت لنا القتلةَ يرفعون الرايات باسمك. هل كنت تخشى منا عندما كانت أكفنا عارية؟ مررتُ على رؤوس مقطعة وأجساد محروقة وكنتُ أسأل نفسي كيف انطفئ الحلم في أعينهم، وأين توارت الفرحة في أجسادهم؟

كسوتَ مدنًا بالسواد والحزن، أظلمت الأرواح فيها واستسلمت للقنوط، طاردتَنا في البحار والغابات، فهل هذا مقدرٌ في لوحك المحفوظ، أم أنك كنت ترتجل؟

 في أحد الاحياء التي كنتَ تنقضُّ عليها بشكل يومي، وفي ساعات الليل المتأخر عندما تبلعنا الظلمة كالقبر، كنا ننتظرك، فما هو قصدك وما هي عبرتك؟ هل كان علينا أن نستسلم للقتلة ونركع للملوك؟ هل كان علينا أن نرفعَ العروشَ على أكتافِنا ونسوقَ القرابين لهم لتعفوا عنا؟ هل عقدت اتفاقاً معهم؟ هل بعت أسلحتك لهم، وهل وعدوك بالمُلكِ وأنت الملك؟

في منتصف طريق حياتي،

ألفيت نفسي في غابةٍ مظلمة، إذ ضلت سواء السبيل

الجحيم، دانتي

هل سخرت مني عندما علقتُ رقبتي على حبلٍ في سقف الغرفة، فتركتني معلقاً دون نهاية؟ هل مارست ألاعيبك عندما شددتُ نفسي نحو الأسف ولم أكن مكتئباً ولا حزيناً ولكنني أردت أن أريك أنني أمتلك خيار رحيلي وأني لن أدع لك فرصةً أخيرة؟ هل ضحكت وأنت تشاهدني أتألم دون نهاية؟ ألم تكن قصور الرؤساء والملوك أقرب إليك، ألم تفكر في زيارتهم فتنقضّ عليهم كما تنقضّ علينا فرادى وجماعات. هل أدركوا سرك فتحصنوا منك؟ هل لديك ثأر معنا؟ أرجلٌ واحدٌ بألف رجل؟

نزَف الحبيبُ شقائقَ النُّعْمانِ

أَرضُ الأرجوان تلألأتْ بجروحهِ

أُولى أَغانيها: دَمُ الحُبُّ الذي سفكته آلهةٌ

وآخرُها دمُ

محمود درويش

أيها الغامض، زرعت أرضنا بالشهداء، يشهد على ذلك زهر شقائق النعمان.

نُحبُّ الدحنون، يذكرنا بالأحبة، بالغائبين. اذهب إلى تلك الحقول، أمعن النظر في رهافة أوراقها، ألم تحب؟ ألم يخفق قلبك لعينين ناعستين أو لجسدٍ فتي؟ ألم ترغب بأن تمسّكَ فتاة فيرتعش جسدك، ويتورّد قلبك؟

علامَ الغضب؟ انظر إلى سماء الخريف الذهبية، راقب روعة النسيم وألقَ النهار. أنصت، لجمالِ تلك الوشوشات، شاهد معي أبّهةَ الغروب. هل لي أن أسألك عن الأحبة الراحلين؟ ففي الانتظار يذبحنا الشوق، والنسيان يقتلُ المعنى. فهل ينتهي عملك وتعلن انتصارك بالنسيان؟

اجلس أمامي، عدواً يحترم هدنة الشجعان،

وتذكر أن ثمة معركة أخيرة بيننا، جولة سنشهر فيها سلاحنا بوجهك، كلما أوغلت عتمة النسيان فينا كلما أضأنا جذوة الذكرى في وجهك.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard