تندرج المادة ضمن ملف "الانتظار... رنينُ هاتفٍ في صحراء"، إعداد وتحرير تمّام هنيدي.
لا أعرف أحداً لم يلعب لعبة "الغميضة" في طفولته؛ يغمض أحد الأطفال عينيه ويُعدّ ليصل إلى رقم متفق عليه، ريثما يختبئ الآخرون، ليحاول إيجادهم بعد انتهاء العد.
كان عقاباً لي أن أغمض عيني في انتظار الأولاد الآخرين ليختبئوا. فضّلت دائماً أن أكون أحد المختبئين. لم يُغرني شعور المغمِض بالنصر حين يجد بقية الأطفال، ولم يُخِفني احتمالُ أن يفتح عينيه وينهي العدّ قبل أن أجد مخبأً مناسباً. المهم ألا أجلس وأعُدّ، وأن أبقى في حركة دائمة.
هذه علاقتي مع الانتظار، التي لم أكن أفهمها تماماً؛ أستشيط غضباً حين يتأخر صديق أو حبيب عن الموعد ولو لعشر دقائق. لا أستطيع الوقوف أمام المايكروويف وهو يأخذ فنجان القهوة في رحلة تبدو لا نهائية من الدوران، عليّ أن أوقفه ثم أعيد تشغيله عدة مرات، حتى وإن جعله هذا يستغرق وقتاً أطول كي يسخن. لا يهم، المهم أن أقطع دورة الانتظار هذه بحركة ما.
يبتكر العقل البشري أحياناً طرقاً غريبة للتعامل مع العالم الخارجي، كأنْ يخترع الوقتَ ثم يراقب مرورَه متململاً.
لكي يمرّ الوقت، على شيء ما أن يحدث، أن تعبر قطة الشارع أمامك، أن يحرك أحدٌ الهواء بشهيقه وزفيره، أو أن يصل الفرج في أفضل الأحوال. أما الانتظار فهو ألا يحدث شيء أبداً
ينطوي تعريف الوقت على مرورِه، وحركتُه شرطٌ لوجوده. نحن نقيس الزّمن بناء على إحداثياتنا المتغيرة باستمرار على رقعته. ولكي يمرّ الوقت، على شيء ما أن يحدث، أن تعبر قطة الشارع أمامك، أن يحرك أحد الهواء بشهيقه وزفيره، أو أن يصل الفرج في أفضل الأحوال. أما الانتظار فهو ألا يحدث شيء أبداً.
يرى الكثيرون أن الانتظار استراحةٌ لا بدّ منها، كما أنه يضيف حميمية إلى يومياتنا. ينوّع إيقاعات حياتنا لنقدّر لحظات الحركة بعد السكون والسكون بعد الحركة، وهكذا. لقاء الحبيبين أجمل حين يأتي بعد طول انتظار،
ثقافة "ماذا تنتظر؟"
أذكر أنني في فترة مراهقتي وحتى بداية الشباب، كنت فتاةً عجولة، نشيطة، طموحة، كثيرة الحركة والكلام، لا أطيق البقاء دون أن أفعل شيئاً. رأسي مزدحم بأفكار وأحلام عليّ اختبارها ومشاركتها طوال الوقت.
في عام 2019 وأثناء استعدادي لمغادرة سوريا وبدء حياة جديدة في مكان آخر، تلقيت خبراً يخشى كثيرون في أوطاننا الحبيبة سماعه: "ممنوعة من السفر"
جعلني هذا أقفز من فكرة إلى فكرة ومن مشروع إلى آخر. سنواتٌ أمضيتها في العمل التطوعي والمجتمعي، قدّمَت لي الكثير من المعارف والخبرات والمغامرات والعلاقات دون استراحات تُذكر. كنت ككرة الجليد المتدحرجة من أعلى منحدر، كلما تحرّكَت صارت أكبر وأقوى وأكثر قدرة على التأثير حتى يكاد يستحيل إيقافها.
لم أشأ أن "أضيّع وقتي"، فالانتظار عدوّ الطموح وعدو النجاح بالضرورة، خصوصاً في عالمنا اليوم، حيث لا يُطبِق "الإنفلونسرز" أفواهَهم للحظة وهم "يحفّزونك" على السفر والعمل، وتحصيل الشهادات، التعرف إلى ثقافات أخرى وتعلم لغة جديدة، الحصول على وظيفة أفضل، بل وبدء مشروعك الخاص، تحت شعار "ماذا تنتظر؟".
حسناً، أخشى ألا يكون لدى صديقي "الإنفلونسر" الوقتُ الكافي لأخبرَه ما الذي ينتظره معظمُ الناس هنا في هذه البقعة من العالم، قبل أن يُقبلوا على تحقيق ذواتهم وطموحاتهم بابتسامة عريضة.
كرة الجليد على إشارة المرور
في عام 2019 وأثناء استعدادي لمغادرة سوريا وبدء حياة جديدة في مكان آخر، تلقيت خبراً يخشى كثيرون في أوطاننا الحبيبة سماعه: "ممنوعة من السفر".
ومنذ تلك اللحظة سلّمني القدر لِما كنت أخشاه دائماً؛ سلّمني للانتظار، وأعطاني العدّة الكاملة لمواجهته: دورات كاملة من الأمل واليأس، نوبات من الغضب والنقمة والشعور باللا جدوى والخوف من المجهول، قدرة غريبة على التمسك بالوعود الكاذبة، تأرجح بين القلق والاكتئاب وبين الواقعية المفرطة وأحلام اليقظة، وأسئلة لا نهائية دون إجابات: كم سأنتظر حتى تتغير مخططات القدر لي؟ والأسوأ: إلى متى ستنتظرني الحياة؟ شعور ثقيل أن تكون المنتظِرَ والمنتظَرَ معاً.
مضى أكثرُ من عام قبل أن "يأتي الفرج"، وبما أن الانتظار كان الشيء الوحيد الذي استطعتُ فعله، قررت أن أجعله المكوّن السحري لكل وصفاتي. الحب: انتظار، العمل: انتظار، السفر، الدراسة ،الأحلام، كله انتظار.
حاولت التأقلم مع الحالة الجديدة؛ جرّبت كل الطرق بما فيها الاستسلام، ولم أستطع أن أزيح عني شبح الوقت الذي بدأ يترسّب حملاً ثقيلاً فوق ظهري. كنت أنكمشُ تحت وطأته وأذوي. كرةُ جليدٍ واقفةٌ على إشارة مرور غير متوقعة.
صرت أعرف وأفهم الآن كيف على الانتظار أن يمزق ذاكرتنا ليتمكن من رفو ثقوبها وكيف يدمر المخيلة ليعيد ترميمها، وكيف يلتقط أنفاسنا ويناولنا إياها كي نتمكن من المضي قدماً إلى الحياة، حيث كل شيء ممكن الحدوث، وحيث من الجميل، أحياناً، ألا يحدث أيّ شيء أبداً
بدأت أفهم حينها سبب عجلَتي، ولماذا لم أطق الانتظار يوماً، وأخاف السكون والصمت المطلقين.
كان مزيجاً مربكاً من الحرج والكبرياء والذعر، فضوء إشارة المرور لا يتبدّل ورغم أن الأهل والأصدقاء لم يتوقفوا عن مساندتي لحظة واحدة، إلا أنني كنت أشعر أن الجميع بدأ يلحظ تشكّل َبقعة الماء حولي، وخفت مع استمرار انكشافي أمامهم ألا يجدوا شيئاً تحت طبقات الثلج.
وهمُ ألّا ننتظر
في إحدى أغنياته يقول المغني الإيرلندي "دامين رايس" Damien Rice مخاطباً حبيبته:
إذا كنتِ فقط تريدين البقاء بمفردك، أستطيع الانتظار دون انتظار.
تكشف هذه الجملة وهمَ ألا ينتظر المرء شيئاً، فنحن في أفضل الأحوال ننتظر الوقت الذي لن نعود فيه بحاجة إلى الانتظار.
إذاً كان كلُّ ما أفعله مجرّدَ حيلة! اعتقدتُ أنني بتعبئة الوقت بشكل فائض سأجعله يتسع أكثر وسأقنعُ نفسي أنني لست بحاجة لانتظار شيء أو أحد. لكنني في الحقيقة كنت أعيش انتظاراً كبيراً، لكنه خفيّ، يحرّكني الخوفُ منه دون أن أراه. كنت أنتظر الانتظار إلى أن انقضّ عليّ دفعة واحدة.
لا أظنني ممتنة لقسوة التجربة، ولن أدّعي أنني صرت أكثر استرخاء ومرونة، فلا زلت أقاطع دوران فنجان القهوة في "المايكروويف"، لكنني صرت أعرف وأفهم الآن كيف على الانتظار أن يمزق ذاكرتنا ليتمكن من رفو ثقوبها، وكيف يدمّر المخيلة ليعيد ترميمها، وكيف يلتقط أنفاسنا ويناولنا إياها كي نتمكن من المضي قدماً إلى الحياة، حيث كل شيء ممكن الحدوث، وحيث من الجميل، أحياناً، ألا يحدث أيّ شيء أبداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون