تندرج المادة ضمن ملف "الانتظار... رنينُ هاتفٍ في صحراء"، إعداد وتحرير تمّام هنيدي.
".. يبدو أنَّني انتظرتُ طويلاً جداً
حتى أنَّ الرطوبةَ التي في الركنِ
انتقلتْ كلُّها -ببطءٍ وقورٍ- إلى جسمي
لفَّتْني تماماً
ثم أنبتتْ طحالبَ خضراءَ من مسام الجلدِ
الرطوبة
التي كانت المُعزِّي الوحيد
في جنازتي".
(أشباح جرَّحتها الإضاءة، 1998)
هل تعرفُ بَكَرَةَ الخيطِ؟!
يشبُه الأمرُ الآن كما لو كنتُ أُمسكُ بلفَّةٍ من الخيطِ الأسودِ الملفوفِ حولَ واحدةٍ من هذه البَكَرَات، تلك التي كنتُ أتفنَّنُ في سرقتِها من خيَّاطات أمِّي حين كنتُ صغيراً. أدقِّقُ في اللفَّةِ السَّوداء الآن وأنا أبحثُ بعينيَّ المتفحِّصتينِ عن طرْفِ الخيطِ دون فائدة، فأبدأُ في تحريك أصابعي بعصبيَّةٍ حول اللفَّةِ، علَّ طرْف الخيطِ يظهرْ، وكلَّما أسرعت في البحث بأصابعي، كلَّما غاص الطّرف أعمق في جديلة الخيط. هذا بالضَّبطِ ما أشْعرُ به الآن، وأنا أحاولُ أن أشرح ما أنا بصدد شرحه، فلا أجدُ مَدْخلاً، ولا أعثرُ على عتبة.
"... صباح الخير
يا الـ(مرَّة الأخيرة)
صباح وحدتنا التي آمنَّا بها فجأةً
وصباح العزلة التي نَمَتْ بداخلنا
كساعة الرَّمل...".
(تقاعد زير نساء عجوز، 2002)
لديَّ صورة وأنا في الرّابعة من عمري، أرتدي بيجاما جديدة وفي يدي ساعة أورينت كبيرة، خلعها أبي وصوّرني وهي تحيط بمعصمي. أبدو مبتسماً في الصورة على غير عادتي، وأفكّر أنّ وراء ابتسامتي كلمةً ما قالها أبي الواقف خلف الكاميرا ليجعلني أضحك، وحين فعلتُ: تِك، كانت الصورة.
ربّاني أبي على محبّة الساعات الأنيقة، وكان يكافئني بعد كلّ عام دراسي بساعة جديدة مقابل نجاحي، إلى أن انقلبت الصورة، فصرتُ أنا من يُهدي إليه الساعات. أنهيتُ هذه الجُملة وأنا أقول في نفسي: هذا معنى الزمن حرفيّاً
ربّاني أبي على محبّة الساعات الأنيقة، وكان يكافئني بعد كلّ عام دراسي بساعة جديدة مقابل نجاحي، إلى أن انقلبت الصورة، فصرتُ أنا من يُهدي إليه الساعات. أنهيتُ هذه الجُملة وأنا أقول في نفسي: "هذا معنى الزمن حرفيّاً".
"... لم تؤكِّدي لي موعدك
لكنّني جئتُ
وباستماتةِ مُحاربٍ
كان عليَّ قتلُ كلّ الدّقائق التي تمرُّ بطيئةً
من ساعةِ الرّجُل الذي يجلس هادئاً
خلفي...".
(بكدمة زرقاء من عضّة النّدم، 2005)
انقسمتْ الحياةُ أمام عيني منذ البداية على مكانين: الرّيف والمدينة. لكلٍّ إيقاعه ومواعيده؛ شهور الصيف إلى القرية وشهور الشتاء في المدينة. في الأولى لا وقت يشبه الثانية، والعكس صحيح، الاستيقاظ مبكّراً في صباحات الشتاء والذهاب إلى المدرسة، صار استيقاظاً في الفجر للذهاب مع خالتي إلى الغيط وهي تحلب البهائم. كانت تمدّ لي كوباً من اللبن الساخن وتدفعني إلى شربه سريعاً قبل أن يبرد، فيما تمنحني أمّي الكوب ذاته كلّ صباح وهي تحذّرني من التأخّر عن طابور الصباح. إيقاعان مختلفان درّبا روحي منذ البداية على التّأقلم سريعاً مع التغيّر، والتسامح الحذِر مع مرور الزّمن.
"... مغفَّلةٌ
لو انتظرَتْ قليلاً
لشعرَتْ بقذفِهِ القويِّ فوق صدرِها المرفوعْ
لكنَّها سحبتْ كتْفيها إلى مسندِ كرسيِّها العتيق
حين أحسَّتْ بروحِها تنسابُ كقبضةٍ من مياهٍ بين وركيها
وتشنجتْ أصابعُها الخمسةُ
على حافةِ الإفريز".
(حرير، 2007)
لا أحبّ مراقبة الوقت، أملُّ سريعاً من مجرّد فكرة الانتظار، لأنّه تعويلٌ على ما لا يُدْرَك، وأفضِّلُ استخدام كلمة أخرى أكثر عمقاً هي "الصبر"
لا أحبّ مراقبة الوقت، أملُّ سريعاً من مجرّد فكرة الانتظار، لأنّه تعويلٌ على ما لا يُدْرَك، وأفضِّلُ استخدام كلمة أخرى أكثر عمقاً هي "الصبر"؛ كلمة حادّة وسنّها مشحوذ على الدّوام، تنغرس سريعاً لتبقى طويلاً، كما لو كانت سهماً غادرَ قوسَه ليستقرّ في مكانه إلى الأبد.
حين نكون على سفر ولدينا وقت لانتظارِ قطار أو طائرة، يسألني ابناي كلَّ خمس دقائق: كم تبقّى من الوقت؟ هذا السؤال لوحده كفيل بجعلي أستعيد نظرة أبي حين كنت أكرّر عليه أسئلتي. كان يكتفي بالصمت وهو يحدق فيَّ بقوّة، فأُنزل عينيّ في الأرض مخافة العقاب. لكنّني لا أنظر إليهما إلا مبتسماً، رافعاً الساعة أمام أعينهما. نعم، الصّبر الذي تعلّمته صبيّاً حين كنتُ أذهب مع خالي إلى النهر حاملاً صنارتين للصّيد، وهناك، تحت ظلّ شجرة كافور في يوم مشمس، كنّا نجلس صامتَينِ بالساعات.
"أمتعُ من صيدِ السَّمكةِ
رعشتُها وهْي تخرجُ من المياهِ لتلمعَ تحتَ شمسِ النَّهارِ
الرّعشةُ التي كنتُ أقبضُ بقوَّةٍ على غابِ صنَّارتِي
كي تصِلَنِي كاملةً
غيرَ منقوصةٍ
ولا أفقدُ منها شيئاً
الرّعشةُ التي علَّمتني معنى أن أكونَ قنّاصاً
ومعنى أن أكونَ مُرغماً على القنصِ
الرّعشةُ التي عشت عمري أطاردُها
مذ كنتُ صبيّاً صغيراً
أذهبُ كلَّ ظهيرةٍ مع خالي إلى ضفَّةِ النَّهرِ
كي نجلبَ غداءَ عائلةٍ كاملةٍ
من الجوعى".
(عشر طُرق للتّنكيل بجثّة، 2010)
تخيَّلوا معي طفلاً في السابعة من عمره يأخذه والده إلى عمله، فيجد نفسه يجلس في إحدى صالات استقبال المسافرين بالمطار، كان صغيراً ولم يفهم ماذا تعني كلمة "مطار"، لكن أباه لم يبخل عليه حتى فهم. وحتى يومنا هذا، لم يجد هذا الطفل، الذي كنتُه ذات يوم، في المطارات إلا مساحات من الفراغ يملؤها الانتظار؛ أناسٌ إمّا يصلون وهناك من يستقبلهم، أو ينتظرون سفرهم وهناك من يودّعهم. حين رأيت الدموع في العيون المُستقْبِلَة كما في العيون المودِّعةِ، كرهتُ المطارات، واعتبرتها محطّاتٍ باردةً للدّموع.
"في آخر اللَّيل
تتحوَّل صالات السَّفر
إلى جثثِ عائلةٍ من الأبقار
تنقضُّ النسور من الأعالي
وتنْهش...".
(تلك لغة الفرائس المحظوظة، 2019)
لو خيَّرتني بين "الانتظار" و"الصّبر"، فسوف أختار الثانية. في الأولى قلقٌ لا طائل من خلفه، وفي الثانية تَحمُّل محمودٌ، قدرةٌ على المواصلة والسّعي في صمت، دون ضجيج
لو خيَّرتني بين "الانتظار" و"الصّبر"، فسوف أختار الثانية. في الأولى قلقٌ لا طائل من خلفه، وفي الثانية تَحمُّل محمودٌ، قدرةٌ على المواصلة والسّعي في صمت، دون ضجيج، أو افتعالٍ لمعارك غير مجدية. قانون الغابة نفسه يحتّم علينا الصّبر أحياناً كي نفوز. أحبّ أن أتخيّل الفهد الذي يربض لفريسته وسط الأدغال "صابراً" وليس "مُنتظراً"، متأهّباً نعم، لكنّه لا يملّ سريعاً. ولأنّ الكون كلّه مبنيٌّ على فكرة الزمن، فلكم أن تتخيّلوا كم تحتاج البذرة في الأرض من وقت كي تصبح ثمرة، وكم تحتاج الحياة لتكمل دورتها بالنسبة لكائن ما، أيّ كائن.
"حين أينعت النَّبتةُ بُرْعماً في السَّاق
أكَلتْه الدُّودة
وحين انتفخت الدُّودة
أكَلَها العنكبوت.
انتهى العنكبوت من بناء بيته
فدخلت الخادمةُ
وأزالت الخيوط الحريريَّة
بضربة منْفضة.
في الصَّباح
أينعت النَّبتةُ بُرْعماً جديداً
كانت دودة أخرى
تصعد السَّاق ببطء
والخادمة تستيقظ للتوِّ من نومها
فيما العنكبوت
في مخبئه
ينتظر".
(تلك لغة الفرائس المحظوظة، 2019)
لا أحبّ الانتظار، لذا اكتفيت بشاشة هاتفي وتحرّرت من ثقل الساعات الأنيقة. الانتظار يعني أن تتوقّع شيئاً، أن تتأهّب وعينك على الوقت الذي يمرّ، وهو ما جرّبته من قبل كثيراً ولم تعد لي طاقة عليه. لم أعد مهتمّاً اليوم بمراقبة هذا الغول الذي يسمّونه الوقت، بل صرت أملك طقوساً عديدة للهرب منه، أوّلها الاختفاء، أن توقف الوقت عن تقدّمه، وتهرب من الدوران في فلكه، هو أن تختفي.
"كففت عن الأسئلة منذ زمن، ولم أعد أنتظر إجابة من أحد. أحاول أن أعيش دون نتوءات مدبّبة تنتشر على جلدي الخارجيّ اسمها الأسئلة، تمنعني عن احتضان المحيطين بي، عن التقرّب منهم، وإليهم، كي أحاول رؤيتهم عن قرب، أحاول أن أعيش يومي بلا ماضٍ يؤرِّقني، ويقلق منامي، بلا مستقبل أنشغل به عن يومي، ويسرق منِّي متعة اللحظة التي تمرّ بي، وهي تلوِّح مودِّعة، قبل أن تختفي إلى الأبد.
الحياة...
الحياة هنا، والآن... في هذه اللحظة بالذّات... لا قبل ولا بعد... وأنا أستمتع بهذا السّكون والسّلام ينتشران في روحي، فألقي برأسي إلى الخلف، منتشياً...
وناظراً في الفراغ".
(الحالة صفر، 2015).
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم