لم أكن أبداً أتخيل عندما بدأت رحلتي من القاهرة التي بلغت أكثر من 24 ساعة حتى أصل إلى الأرجنتين جنوب أمريكا اللاتينية، أنني قد أجد تشابهاً بينها وبين بلدي، سواءً في الطقس أو الذوق العام والطباع أو حتى لون الأرض والسماء.
عندما وصلت لأول مرة إلى بوينس آيرس، ازداد فضولي تدريجياً مع توغل السيارة أعمق فأعمق> ومع دخولنا وسط المدينة، زادت دهشتي حتى بلغت ذروتها، وتساءلتُ: كيف يمكن أن أرى القاهرة القديمة داخل تلك الدولة التي تبعد عنا قاراتٍ ومحيطاتٍ وبحاراً؟ كيف يمكن أن تكون الشوارع، والمباني، وحتى روائح الأرض متشابهةً إلى هذه الدرجة؟
قررت أن أتعمق أكثر داخل تلك المدينة، ولكن ليس بصفتي صحافية جاءت لتفتش عن أشياء جديرة بالظهور على المنصات الإعلامية، بل باعتباري مصريةً تتحرى عن هوية مدينة أشبه بمدينتها، التي حفظت شوارعَها وتراثَها عن ظهر قلب.
وسط البلد
بدأت جولتي من وسط المدينة، التي تشابهت إلى حدّ كبير مع قاهرة الخمسينيات؛ فالشوارع والمباني وطراز المعمار، وحتى الخطوط البيضاء التي تكسو الأرض، وتربط ما بين الأرصفة، تشبه تلك الموجودةَ داخل دائرة وسط البلد، وشوارع التحرير، وطلعت حرب، وقصر النيل إلى ميدان عابدين، الذي يتواجد به قصر الحكم الملكي، والمشابه لهذا الميدان، الذي يتواجد به القصر الأرجنتيني الجمهوري "القصر الوردي أو القرنفلي".
الاختلاف الوحيد الذي رأيته ولمسته هو النظام. رغم ما يشاع عن الشعب الأرجنتيني في أوروبا، وحتى وسط جيرانه من دول أمريكا اللاتينية بأنه شعب لا يجيد النظام في حياته إلا أن ما رأيته كان شيئاً مختلفاً، أو ربما لأن معيار النظام لدى الأوروبيين مختلف عن معيارنا في دول نامية في الشرق الأوسط؛ فإشارة المرور لدى الشعب الأرجنتيني مقدسة، كذلك الالتزام بالسّير على الخطوط المخصصة، كما كان يحدث سابقاً في مصر حسب روايات آبائنا وأجدادنا.
بالإضافة إلى النظام، والمحافظة على نظافة الشارع ورونقه، هناك كثير من أوجه التشابه التي تُعتبر أغربها وأطرفها الباعةُ الجائلون ما بين السيارات، وعلى الرغم من أنهم تحدثوا لي بلغة البلد الإسبانية أثناء عرضهم لبضائعهم، فإن الأسلوب والطريقة التي تحدثوا بها معي أضحكتني كثيراً، فكأنني أرى نفسي أمام بائع مصري، يتحدث فقط بلغة أخرى.
تحدث معنا الباعة الجائلون أثناء وقوفنا عند إشارة مرور، ضحكت كثيراً؛ شعرت أنني أمام بائع مصري. وحمل بعض المتسولين باقات زهور، استمعت إليهم وبداخلي يقين أن تلك الكلمات معناها: "إديني حاجة لله ربنا يخلي لك البيه"
ولم يكن الباعة الجائلون فقط هم أبطال إشارة المرور، ولكن أيضاً بعض المتسولين الذين يحملون باقات زهور، ويتحدثون بنفس الطريقة المعروفة لدى كلِّ واحد منا مرّ بموقف مشابه مع متسول مصري التقى به عند إشارة مرور. كنت أستمع إليهم وبداخلي يقين أن تلك الكلمات معناها بالعامية المصرية: "إديني حاجة لله ربنا يخليلك البيه"، حتى ولو كان هذا "البيه" ما هو إلا دليل الرحلة، ويكبرني بعشرين عاماً.
بعيداً عن الشوارع الرئيسية، دخلنا إلى الأزقة، متجولين بين أشباه الشوارع لنجد نموذجاً لشارع 26 يوليو، والشوارع المحيطة به، محلات ملابس وبضائع مختلفة على صفي الطريق، يقف أمامهم بائعون، اتخذوا الأرصفة محلاتٍ لهم، لنرى مشهداً ليس بغريب، خاصة مع وجود أكثر من مبنى سكني، يحمل نفس طراز عمارات مصرية شهيرة، مثل عمارة "جروبي" أو "يعقوبيان". تذكرت جملة الفنان عادل إمام في الفيلم الذي يحمل نفس الاسم "عمارة يعقوبيان"، وهو يؤكد أن مصر كانت أفضل من دول أوروبا في الموضة والمعمار.
التياترو
لم ير أحد من الأجيال الحديثة التياترو القديم سوى في أفلام الأبيض والأسود، فقد كان جزءاً لا يتجزّأ من الفن المصري في زمن الفن الجميل، ومن لا يعرف التياترو، فهو مكان أشبه بمطعم، تقام فيه سهرات مع برنامج منوعات، يضم غناءً واستعراضاً واسكِتشات كوميدية، وأحياناً دراما وتراجيديا. وعلى الرغم من اختفائه، وحلول أشياء كثيرة محلَّه، مثل الملاهي الليلية وغيرها، فإن التياترو بشكله المصري القديم، كما شاهدناه مئات المرات في الأفلام القديمة، ما زال موجوداً في الأرجنتين، ليس فقط كاسم، ولكن في طراز وشكل المضيفين "الغارسونات"، والبرنامج الذي يضمّ رقصات التانغو، مصحوباً بغناء، واسكِتشات.
رأيت فنانين يرتدون ملابس تشبه أزياء الخمسينيات، حتى تكتمل الصورة لتلك الحقبة الزمنية، وهذه الفنون التي مازالت موجودة رغم مضي أكثر من 50 عاماً على بدء تلاشيها.
كنت أرتدي فستاناً أسود، يجعلني "فاتنة" بصوت دكتور رفعت إسماعيل في رائعته "ما وراء الطبيعة"، وبما أنني لم أنوِ لمس المشروبات الكحولية، إلا أنني سارعت بطلب عصير عنب يشبه في لونه النبيذَ حتى تكتمل الصورةَ مع تلك الأجواء، ويكتمل شعوري بأني أصبحت نجمة في زمن الفن الجميل، مثل شادية أو هند رستم.
أما النوع الثاني من المسارح، توجهتُ له عقب انتهاء البرنامج الخاص بتياترو، وهو "بياسيو تانغو"، ويقع في شارع فلوريدا، شبيه شارع عماد الدين، وهو مسرح "كاني"، ولا يقدم برنامجاً، بل يكتفي بفتحِ صالة الرقص لكلّ عشاق التانغو، لأجد شباباً وحتى كبار السن يرقصون بحرفية بارعة، وإحساس طاغٍ، يجعلنا نرغب في مشاركتهم تلك الرقصات، ولو كنت رأيت أنور وجدي فجأة يقترب مني ليقول لي بابتسامته المعهودة: "تسمحيلي بالرقصة دي"، لم أكن لأندهش، فكلّ الأجواء من حولي تشير إلى أنني ركبت آلةَ الزمن، ودخلت بشكلٍ ما إلى أحد أفلام أنور وجدي وليلى مراد.
ميدان التحرير
كل ما رأيته، رغم أنه أصابني بدهشة، فإنه كان منطقياً نوعاً ما، ولكن ما استفزّ خيالي هو أنني وجدت صورةً حية لميدان التحرير، مع وجود خيمات للمتظاهرين في قلبه. في ميدان "مايو" تُنصب بعض الخيمات، يتواجد بها بعض المتظاهرين الرافضين لسياسات الحكومة أو بعض قرارتها، وقد شهد هذا الميدان كبري تظاهرات الشعب الأرجنتيني، والتي تعتبر أشهرها تظاهرات "أمّهات مايو"، التي اندلعت في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، اعتراضاً على مصير بعض الأطفال الذين شاركوا في حرب الأرجنتين، الملقبة بـ"الحرب القذرة"، واختفوا منذ ذلك الحين، وحتى يومنا هذا يتم إحياء ذكرى تلك التظاهرات في هذا الميدان، كما يحدث في مصر مع ثورتي 25 يناير و 30 يونيو.
لو كنت رأيت أنور وجدي فجأة يقترب مني ليقول لي بابتسامته المعهودة: "تسمحيلي بالرقصة دي"، لم أكن لأندهش، فكلّ الأجواء من حولي في عاصمة الأرجنتين تشير إلى أنني ركبت آلةَ الزمن، ودخلتُ الزّمن الجميل
الكورنيش
هو لا يشبه كورنيش القاهرة كثيراً بقدر كورنيش الإسكندرية، فالطراز الذي تمّ تصميمه به ليكون ناحية اليمين والسيارات في الوسط، بينما المحالّ أو المنازل أو المكتبات العامة على اليسار، كذلك هو الكورنيش في بوينس آيرس، وإذا ما غضضنا الطرف عن لون المياه القريب من الحمرة بسبب انعكاس الشمس، يمكننا رؤية ما يشبه كورنيش الإسكندرية، وليس مكاناً أرجنتينياً يبعد عنا آلاف الأميال، ويفصلنا عنه بحار، ومحيطات، وأنهار، ودول، وقارات.
ميسي ومارادونا
عشق كرة القدم، تلك اللعبة هي بوابتي الأولى في بلاط صاحبة الجلالة. كانت بدايتي الصحافية في القسم الرياضي حسنت من فهمي العميق لها. لذلك أشعر دوماً بسخط عندما أرى بعض الفتيات تتابع الكرة من أجل الترند أو لإعجابهن "بتسريحة" شَعر حارس مرمى المنتخب.
لذا، فقد بدا إستاد "بوكا جونيور" ليس فقط زيارةً لا بدّ منها، بما أنني في بلد مارادونا وميسي، وإنما أيضاً لأنني كنت أتابع هذا الفريق، فهو مثل "الزمالك" لدينا في مصر، والتعصب الكروي والولع لدى الجماهير متشابه جداً، حتى الإستاد يشبه إستاد نادي "الترسانة" في مصر، خاصة مع تمازج اللونين الأبيض والأزرق، ووجود تمثال الأسطورة "مارادونا".
هذا الشعب لم يغير في معالم أي شيء تخص الإستاد، بل إن سحره يكمُن في أننا قد نتوقع ظهور مارادونا في أيّ وقت داخل الإستاد بأجواء العصر الذهبي لأشهر أسطورة كروية في العالم.
لم يختف سِحر ميسي كذلك من تلك الأجواء، فتمثاله له حضور لا يقلّ أهمية، وكأن الأرجنتين تؤكد على أن الكرة، خاصة ميسي ومارادونا، هما فخر أمريكا اللاتينية بالكامل.
ليست تلك الأشياء فقط هي أوجه الشبه بين بوينس آيرس وقاهرة الزمن الجميل، كما حُكي لي وتخيلتها، وإنما هناك العديد من التشابهات، مثل الرقي والتحضر في المعاملة، فعندما تطلبون المساعدة من أيّ شخص أرجنتيني في الشارع لا يتردد في مدّ يد العون لكم، ولكن دون فضول أو تخطّ للحدود، كذلك نلمسها في الذوق العام، سواءً في الفنون والموسيقى الكلاسيكية أو حتى في الملابس، خاصة لسيدات ورجال الأجيال القديمة، التي لا تخلو من لمحةٍ تشبه مصر في زمنها الجميل.
الهواء والأرض والسماء، كلهم يعلنون أن بوينس آيرس هي القاهرة القديمة، التي عادت إلى حياة أخرى، مرتدية ثوب مدينة لاتينية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 15 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...