تروّج الأنظمة العربية دائماً إلى أنه "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، فيما يتعلق بالرعاية الصحية من اجتياح كورونا للعالم، وتتذرّع دائماً بأن العالم الأول يعاني من الجائحة، ويتمّ تسليط الضوء على ظروف وفياتهم، لتهدئة الناس ونزع فتيل أي غضب محتمل.
ولكن العديد من وسائل الإعلام العربية و"العالمية" تجاهلت ما فعلته كوبا، التي قدمت نموذجاً طبياً إنسانياً شاملاً، استطاع أن يتغلّب على انتشار كورونا، وتمكّن من حفر تجربته في هذه المرحلة من التاريخ الطبي، خاصة بعد المساعدات التي قدمتها لإيطاليا في مواجهة تفشي كورونا.
انتهت كوبا لتوّها من إنتاج اللقاح الأول ضمن أربعة لقاحات مفترض طرحها لمجابهة فيروس كورونا المستجدّ، ما لفت الأنظار إلى الجزيرة الكاريبية المعزولة، والواقعة تحت حصار اقتصادي منذ أكثر من نصف قرن، وبرغم ذلك استطاعت تحقيق هذا الإنجاز في وقت قياسي مقارنة بإمكانياتها المحدودة.
العدالة الصحيّة
بلغت أعداد المصابين بفيروس كورونا مطلع آب/أغسطس من عام 2020 في كوبا، 2726 مصاباً، إلى جانب 8 وفيّات فقط.
لفتت قلّة الأعداد في كوبا أنظار دول العالم الأول، لا سيّما الولايات المتحدّة؛ أول المتضررين من الوباء بعد الهند والبرازيل، لكنّ الإجابات الإعلامية غالباً ما تمحورت حول النظام الديكتاتوري لكوبا، ونجاحه كأي دولة شمولية، في مواجهة الأوبئة والظروف الاستثنائية، والتي تحمل شيئاً من الصحة، ولكن دون التطرّق لـ"لأسس الأخلاقية" التي قام عليها النظام الصحي الكوبي، منذ انتصار "الثورة" عام 1959، وهي ما تميزه دوناً عن الأنظمة الشمولية الأخرى.
بدأ زعيم كوبا الراحل فيديل كاسترو مسيرة إصلاحه "الثوري"، بالرعاية الصحيّة المجانية، وإتاحتها للجميع، وبمعيّة رفيق دربه، تشي جيفارا، عملا على إتاحة العلاج لجميع أبناء كوبا، الذين عاش أغلبهم ومات دون أن يرى طبيباً في حياته، أو تسنح له الفرصة لتلقي أي علاج.
"لن نجد مشرداً واحداً، أو أطفال شوارع، الجميع يحصلون على حصص غذائية تقدمها الدولة، تشمل السيجار والخمور المحليّة، والجميع يذهب إلى المشفى، للحصول على الرعاية الصحية وكل الفحوصات اللازمة والدواء دون مقابل"
يعكس النظام الصحي القائم في كوبا؛ الإيمان العميق لقيادات "الثورة"، بأهمية التعليم والصحة، واستثمار الدولة في المجال الصحّي بما يتجاوز 10% من الموازنة العامة للجزيرة، التي لا يتجاوز عدد سكانها 12 مليون نسمة، إلّا أنّ ما حققه النظام الصحي من إنجازات على مدى نصف قرن، يستحق الالتفات.
منذ انتصار الثورة، انخفض معدل وفيات الرضع في كوبا من 37.3 إلى 4.3 لكل 1000 مولود حي، وهو معدل يماثل نظيره في أستراليا، وأقلّ من الولايات المتحدة (5.8).
وفي المدة بين عامي 1970 و2016، ارتفع متوسط العمر المتوقع من 70.04 إلى 78.7 عاماً، مقترباً من المتوسط المتوقع في الولايات المتحدة (79.8).
تتجاوز استثمارات كوبا في مجال الرعاية الصحية الخدمات المباشرة، ما يعكس إيمان كاسترو الواضح بالصحة والعلوم الطبيّة بشكل عام، واعتبارها دعامة وقيمة علمية واقتصادية تقدمها كوبا كمعادل للتصدير.
تقوم الدولة بتدريب الفائض لديها من الأطباء والأطقم الصحيّة؛ وتبتعث ما يزيد عن 50 ألف مهني صحي، نصفهم من الأطباء؛ إلى الخارج سنوياً لتوفير الرعاية الصحيّة في البلدان النامية، لكن في الآونة الأخيرة بدأت فرض رسوم على هذه الخدمة بعدما أصبحت تتمتّع بميزة تنافسية لا نظير لها، لتصبح قيمة اقتصادية تدر دخلاً للموازنة العامة.
عدالة اجتماعية في الصحة
يعمل المخرج المصري باسل رمسيس محاضراً في المدرسة الدولية للسينما في كوبا منذ عام 2008، ويسافر إليها مرتين في العام، تتراوح مدة إقامته فيها ما بين أسبوعين إلى شهرين أو أكثر.
زار عدّة مشافٍ؛ عبر سنوات مختلفة. برغم ما لاحظ من ضعف الإمكانيات، لكن أهم ما يميّز الوضع الصحي، على حد قوله، هو كثرة أعداد الأطقم الطبية، وتوافر أسرّة لكل مريض، إضافة للتفاني والبراعة في الأداء الصحي للأطباء.
يتابع رمسيس لرصيف22: "بنت الثورة الكوبية دولتها الجديدة على فكرة العدالة بين المواطنين، ونجحت في ذلك بشكل كبير، فلن نجد مشرداً واحداً، أو أطفال شوارع، الجميع يحصلون على حصص غذائية تقدمها الدولة، تشمل السيجار والخمور المحليّة، والجميع يذهب إلى المشفى، للحصول على الرعاية الصحية وكل الفحوصات اللازمة والدواء دون مقابل".
" خلال أيام قليلة تنتهي كوبا من تطعيم كل سكانها بلقاح محلّي الابتكار والصنع".
"أيضاً خلال أيام قليلة تنتهي كوبا من تطعيم كل سكانها بلقاح محلّي الابتكار والصنع، وهي سابقة لم تحدث في أي مكان بالعالم، ويرجع ذلك إلى امتلاك الدولة الكوبيّة خبرة طويلة وقدرة على تنظيم المجتمع بشكل جيّد، وهو ما تفتقره الأنظمة الديموقراطية".
يؤكد رمسيس في معرض حديثه؛ على ركيزة العدالة الاجتماعية التي رسختها الثورة الكوبية في مجال الصحة بشكل خاص؛ وكانت الدرع الواقي للشعب من أزمات وكوارث عديدة، أجادت الدولة إدارتها ببراعة لم تستطع الإدارة الأمريكية نفسها مضاهاتها، برغم الحصار المفروض وصعوبة وصول الموارد الطبية من أجهزة ومعدّات.
"المبهر في التجربة، هو الإنجاز الكبير بإمكانيات متناهية الضعف"، يقول رمسيس.
الإنجاز الكبير بأقّل القليل
كان لسفر أسطورة كرة القدم الراحل دييغو مارادونا إلى كوبا عام 2000، لتعافيه من الإدمان، أثراً كبيراً في صورة كوبا كدولة لديها ميزة تنافسية عالية في تقديم الرعاية الصحية، وبأسعار تقل عن الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 80%، لتصبح بعدها واحدة من دول قليلة، جاذبة للسياحة العلاجية، ليس للاستمتاع بهوائها أو مواردها الطبيعية، ولكن للحصول على خدمة طبيّة مميزة، وتشخيص وعلاج جيد لأكثر الأمراض خطورة، مثل سرطان الرئة المتقدم، بعدما ابتكر الأطباء الكوبيون لقاحاً فعالاً له.
أمضى الطبيب الأمريكي ريتش وارنر 7 سنوات من التدريب الطبي والدراسة في كوبا، ودوّن ملاحظاته على النموذج الصحي الكوبي، عبر مقال نشره على موقع "ذي كونفرسيشن The Conversation"، يعبّر عن مدى إعجابه بقدرة الكوبيين على الإنجاز بالقليل، بالرغم من حصولهم على رواتب زهيدة للغاية، فالراتب الشهري للطبيب الكوبي لا يتعدّى 52 جنيهاً استرلينياً، يعملون فوق طاقتهم في كثير من الأحيان، بسبب ابتعاث آلاف من زملائهم لمساعدة فقراء في دول أخرى، بالإضافة إلى ذلك، يقومون بفحوصات دقيقة دون الوصول إلى أحدث تقنيات التشخيص، وربما يضطرون إلى الانتظار أسابيع حتى تصل المعدات الأساسية إلى المستشفيات لإجراء فحوصات أكثر دقّة، حتى في بعض الأحيان بدون كهرباء أو مياه جارية، ومع ذلك لا يزالون يجدون القوة للتغلب على كل هذه العقبات والتحديات لتقديم خدمة جديرة بالثناء.
بدأ فيديل كاسترو مسيرة إصلاحه بالرعاية الصحيّة المجانية، وإتاحتها للجميع، وبمعيّة رفيق دربه، تشي جيفارا، عملا على إتاحة العلاج لجميع أبناء كوبا، الذين عاش أغلبهم ومات دون أن يرى طبيباً واحداً، ليتحول حلمهما إلى واقع
يقوم النظام الصحي الكوبي على ركيزة أخرى؛ وهي أولوية الوقاية من الأمراض، بدأ العمل عليها بعد تأميم كافة المستشفيات في أنحاء البلاد، فقد خصصّت وزارة الصحّة فرقاً طبية لتدريب الناس على وقاية أنفسهم خلال العيش في بيئات ملوثة. وخلال منتصف ثمانينيات القرن الماضي، افتتحت كوبا برنامج طبيب الأسرة الذي يوفّر للأفراد وعائلاتهم فرقاً طبية متخصصّة ومدرَّبة لدراسة الأمراض، بناءً على المشاكل الصحية المشتركة في مناطق تجمع المياه الملوثّة، ويجمع هذا البرنامج بين الطب الوقائي ومبادئ الصحّة العامة، والطب السريري في آن واحد.
لقاح "عبدالله"
عبر مسيرة حافلة من الإنجازات الطبية، تتوّج كوبا مسيرتها الاستثنائية، بالإعلان عن فعالية أول لقاح مبتكر ومنتج محلياً "عبدالله"، والمسمى تيمناً باسم بطل مسرحيّة الشاعر الكوبي و"رسول الاستقلال" كما يلقب، خوسيه مارتي، وتحكي عن بطل نوبي مصري ساعد الكوبيين في استقلالهم.
أثبت اللقاح فاعلية وصلت 92.28%، ويستكمل على ثلاث جرعات، بحسب ما نشره الإعلام المحلي، وتداولته وكالات إعلامية.
بدأت كوبا اختبار لقاحات كورونا، في آذار/مارس 2021، وذلك بتلقيح عشرات الآلاف من العاملين في مجال الرعاية الصحية، على الرغم من عدم اكتمال التجارب السريرية في ذلك الوقت.
بعد نجاح التطعيم الأول، بدأت كوبا خلال نفس الشهر في تطعيم 150 ألف عامل في الرعاية الصحيّة، وخلال أيام قليلة انتهت من تلقيح كل الأطقم الطبيّة لديها.
وضع "عبدالله"، بعد إثبات فعاليته كوبا في منافسة مع دول العالم الأول، لا سيّما بعدما رفضت الدولة الكوبية استيراد أي لقاح من الخارج، وعقدها العزم على ابتكار لقاحها الخاص وتصنيعه.
وفي أيار/مايو 2021، بدأت السلطات الصحية حملة تلقيح واسعة النطاق في هافانا قبل الانتهاء من تجارب المرحلة الثالثة، والتي تقيّم فعالية اللقاح وسلامته.
ولا تخلو التجربة الصحية في كوبا برغم نجاحها، من نواقص تكمن في الضعف الشديد لرواتب الأطباء، ما دفعهم إلى طلب الالتحاق بالبعثات الخارجية، ليتمكنّوا من رفع رواتبهم ولو قليلاً، إذ لا يتعدّى راتب الطبيب الكوبي حاليًا 210 دولار، بعد الزيادة الأخيرة مطلع عام 2021، وكانت أجورهم قد ارتفعت عام 2014 من 28 دولار إلى 70 دولار، وظلت بنفس المستوى حتى بدأت التأثيرات الاقتصادية لفيروس كورونا، ما أجبر الدولة على رفع الرواتب، حتى يتمكّن الناس من الصمود في وجه الأزمة.
وبرغم التقدم الذي تحرزه كوبا في المجال الصحي والتعليمي، إلّا أنّ سجلها في حقل الديموقراطية وحقوق الإنسان، ربما لا يكون على نفس الكفاءة، فوفقاً لتقرير منظمة العفو الدولة عام 2018، فإنّ فرض القيود واستمرار أشكال الاحتجاز التعسفي في كوبا ما زال مستمراً، فضلاً عن مطاردة النشطاء السياسيين، واحتجاز الأفراد ممن يشتبه في انتقادهم للسلطة دون سند قانوني، إلى جانب فرض قيود على شبكات الإنترنت بهدف السيطرة على الشعب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع