شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عامان على الانفجار الكبير في بيروت... محطات تُدرّس كيف يُعطَّل التحقيق وتُمنع العدالة

عامان على الانفجار الكبير في بيروت... محطات تُدرّس كيف يُعطَّل التحقيق وتُمنع العدالة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الثلاثاء 2 أغسطس 202201:58 م

مضى عامان على الانفجار المدمّر في بيروت، ولا تزال لائحة الضحايا والشهداء مفتوحةً تنتظر من يختمها، إذ ارتفع في غضون العام الأخير، عدد الضحايا إلى 232 ضحيةً، ولا تزال معاناة المئات مستمرّةً أيضاً، نتيجة الجروح والإصابات والإعاقات، بينما أعمال إعادة الإعمار لم تنتهِ بعد في الأحياء السكنية والتجارية.

الخارج من منطقة المرفأ، باتجاه وسط بيروت، يمكن أن يعاين آثار الأضرار التي لم تُمحَ بعد. مبانٍ بلا نوافذ، ورشات بناء متوقّفة، مكاتب فارغة، وجدران مشبّعة بشباك الحماية خوفاً من سقوط الأحجار والردم. بالمختصر، مدينة فقدت حياةً، ولن تستعيدها في أمد قريب، مهما بالغ بعض قاطني المدينة في استعادة أسطورة طائر الفينيق المنبعث من الرماد. جرح بيروت لم يندمل بعد، ولن يندمل، طالما أنّ لا جواب بعد على حقيقة ما حصل في مرفأ بيروت يوم 4 آب/ أغسطس 2020.

السؤال المستمرّ

انطلق البحث عن جواب لسؤال "ما الذي حصل؟"، في اللحظات الأولى لوقوع الانفجار. 6:07 مساءً كان الانفجار، و6:08 بدأ السؤال يتردّد في النفوس والعقول والقلوب، أقلّه من قبل من لم يُصَب أو يُقتَل. لا إمكانية للإجابة عن هذا السؤال، سوى من خلال التحقيق، المعطّل والمعرقل، الذي بعثرته أيادي السلطة السياسية الحاكمة التي جدّدت لنفسها في انتخابات أيار/ مايو الماضي. بقيت السلطة، وبقي معها السؤال مطروحاً: "شو صار"؟ بالعامية اللبنانية. لا جواب بعد، لذا يستمرّ أهالي الضحايا والمتضررين في التحرّك، في الرابع من كل شهر، وفي مناسبات أخرى للمطالبة بالحقيقة والعدالة والمحاسبة.

في الخامس من آب/ أغسطس 2020، أطلّ وزير الداخلية حينها محمد فهمي، على اللبنانيين وبشّرهم بأنّ التحقيق لن يتأخّر، وبأنه سيُنجَز خلال أيام معدودة

في الخامس من آب/ أغسطس 2020، وبينما كانت أشلاء الضحايا لا تزال تحت الركام، أطلّ وزير الداخلية حينها محمد فهمي، على اللبنانيين وبشّرهم بأنّ التحقيق لن يتأخّر، وبأنه سيُنجَز خلال أيام معدودة. مضت تلك الساعات ثقيلةً، وفيها تم تنظيم التشييع الشعبي للشهداء في وسط بيروت، وتخلّله مشهد اعتيادي في قمع السلطة للناس والانقضاض عليهم بالرصاص المطاطي وقنابل الخردق والغاز والاعتقالات والسحل في الشوارع. مضت الأيام الخمسة، واستقالت بعدها الحكومة، وظلّت المدينة تلملم جراحها بين زيارة رئيس فرنسي من هنا، وطائرة دعم أمريكية من هناك، وهبة صحية خليجية من مكان آخر.

المحقق العدلي 

بعد 10 أيام على التفجير، تمّ تعيين القاضي فادي صوّان محققاً عدلياً في جريمة انفجار مرفأ بيروت. تسلّم الملف، وتمّ الإعلان عن توقيف المسؤولين في المرفأ، في الجمارك والأجهزة الأمنية المعنية به، بالإضافة إلى صاحب ورشة التلحيم وعمّاله في العنبر رقم 12، وتوالت التحقيقات والتوقيفات إلى أن بلغ عدد الموقوفين 25 موقوفاً.

حمل القاضي صوّان مفاجأةً إلى اللبنانيين، إذ ادّعى يوم 10 كانون الأول/ ديسمبر 2020، على رئيس الحكومة المستقيلة حسّان دياب، والوزراء السابقين علي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس. وقبل انعقاد جلسات الاستجواب، بدأت الحملة السياسية عليه، وتمّ تقديم طلب نقل مقدَّم ضده من المدّعى عليهم، وهو إجراء قضائي يكفّ يد القاضي إلى حين البتّ فيه، فتوقّف التحقيق وتمّت تنحية القاضي صوّان يوم 18 شباط/ فبراير 2021.

غداة تنحية صوّان، تم تعيين القاضي طارق البيطار محققاً عدلياً في الملف. تسلّم القاضي الجديد المهمّة، وكانت المرحلة الأولى من تولّي البيطار التحقيق، تستوجب ترتيب الملف ووضع إطار له، وتقسيمه إلى مستويات مختلفة، ومنها: الشقّ المتعلّق بالموقوفين، وثانٍ متعلّق بالمدّعى عليهم غير الموقوفين، بالإضافة إلى شق ثالث مرتبط بالاستنابات الخارجية وتتبّع شحنة نيترات الأمونيوم التي فجّرت بيروت. وبعد أقل من شهرين من قراءة الملف وإعادة استجواب الموقوفين وتدوين إفادات الشهود، اتّخذ البيطار قراراً بإخلاء سبيل ستة موقوفين، وألحقه بآخر في تموز/ يوليو 2021، بإطلاق سراح موقوفَين آخرين.

ما إن أصدر المحقق العدلي لائحة ادعائه حتى بدأت الحملة المنظمة من قبل أحزاب سياسية في طليعتها الثنائي الشيعي، والتي تتهمه بتسييس الملف، ووصل الأمر إلى حد تهديده، كذلك تهديد "السلم الأهلي" لا سيما بعد أحداث الطيونة

وفي اليوم نفسه، في 2 تموز/ يوليو 2021، ثبّت البيطار قرار الادعاء على دياب والوزراء زعيتر وخليل وفنيانوس، وأضاف إليهم وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق، وخمسة من كبار ضباط الأجهزة الأمنية على رأسهم مدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم، وقائد الجيش السابق الجنرال جان قهوجي. وضمّت لائحة الادعاء الجديدة أيضاً مدير المخابرات السابق كميل ضاهر، والعميدين جودت عويدات وغسان غرز الدين. كان لادّعاء البيطار على هذه الأسماء معنى وحيد: الدولة والحكومة والأمن كانوا يعلمون بما ينتظر اللبنانيين من تفجير ودماء وأشلاء، ولم يحرّكوا ساكناً لحماية الناس والعاصمة.

انطلاق المواجهة

مع صدور لائحة الادعاء، بدأت الحملة على القاضي طارق البيطار، من خلال اتهامه من قبل حزب الله وحركة أمل وتيار المردة بأنه مسيّس واستنسابي ويعمل وفق أجندات سياسية خارجية. ومع هذه الأجواء، بدأ التمرّد السياسي على القضاء، قضاةً ومؤسسةً وسلطةً، من خلال مساعي تطويع العدالة وتكبيلها. وجاءت النتيجة الفعلية في تمنّع المدّعى عليهم عن المثول أمام القاضي البيطار، الذي سطّر مذكرتي إحضار بحق رئيس الحكومة حسان دياب، في 26 آب/ أغسطس 2021، و14 أيلول/ سبتمبر 2021، وأصدر مذكرة توقيف بحق فنيانوس في 16 أيلول/ سبتمبر 2021، فبدأت المرحلة الثانية من المعركة.

بين 22 أيلول/ سبتمبر 2021، و2 حزيران/ يونيو 2022، قدمت 34 دعوى وطلباً لإعاقة عمل المحقق العدلي وقضاة آخرين رفضوا الانصياع لرغبة المتّهمين في تنحية البيطار

في 21 أيلول/ سبتمبر 2021، أوصل حزب الله إلى القاضي البيطار، رسالةً واضحةً عن الرغبة في الإطاحة به. زار مسؤول لجنة الارتباط والتنسيق في الحزب وفيق صفا، قصر العدل في بيروت، حيث التقى رئيس النيابة العامة التمييزية القاضي غسان عويدات، ولدى خروجه من مكتب الأخير، التقى بإحدى الصحافيات وحمّلها رسالةً إلى البيطار: "واصلة معنا للمنخار، رح نمشي معك للآخر بالمسار القانوني وإذا ما مشي الحال رح نقبعك". لهجة واضحة، ونيّة أوضح ورغبة عارمة في التخلّص من القاضي وتحقيقه.

العرقلة والتعطيل

مع إصدار المذكرات، وبعد إصدار التهديد وعدم ارتداع البيطار، لمست السلطة السياسية إصرار القضاء على متابعة التحقيق، فبدأت معركة عرقلة التحقيق قضائياً، وانهالت الإجراءات القضائية ضد القاضي من قبل المدّعى عليهم السياسيين. فتم بين 22 أيلول/ سبتمبر 2021، و2 حزيران/ يونيو 2022، تقديم 34 دعوى وطلباً لإعاقة عمل المحقق العدلي وقضاة آخرين رفضوا الانصياع لرغبة المتّهمين في تنحية البيطار. وبدا واضحاً، بالنسبة لمنظومة الحكم المتضرّرة من التحقيق، بقيادة حزب الله وحركة أمل، أنّ الضغط على القضاء لا يأتي بالنفع، فتم اللجوء إلى الخيار الأصعب.

في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، أصدر البيطار مذكرة توقيف غيابيةً بحق الوزير علي حسن خليل، فحوّل ثنائي حزب الله وحركة أمل المواجهة إلى الشارع، فقاموا بعد يومين، أي في 14 تشرين الأول/ أكتوبر، بتنظيم وقفة احتجاجية أمام قصر العدل في بيروت، تحوّلت إلى يوم دامٍ أدى إلى سقوط 7 قتلى، منهم 4 مسلحّين من الحزب والحركة نتيجة اشتباكات في منطقة الطيّونة، المنطقة التي كانت خط تماس إبان الحرب الأهلية اللبنانية.

أراد الثنائي إيصال رسالة الدم والنار إلى القاضي، وإلى القضاء، وإلى السلطة السياسية، وإلى كل اللبنانيين. ثم خرج الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، ليؤكد على أنّ القاضي البيطار لا يمكن أن يستمرّ في تحقيقه، داعياً الحكومة ومجلس القضاء إلى التدخّل لحلّ الموضوع، من دون أن يفقه نصر الله شيئاً في القانون اللبناني، على اعتبار أن لا صلاحية للحكومة ولا لمجلس القضاء في تنحية المحقق العدلي عن عمله.

منع العدالة

أدّت كل هذه العرقلة والإجراءات إلى وقف عمل المحقق العدلي في مناسبات مختلفة. في المحصّلة، بلغ حجم التعطيل إلى أن تمّ كف يد البيطار، 258 يوماً من أصل 533 يوماً أمضاها في موقعه. وتوزّعت هذه الأيام بين 225 يوماً في موجة التعطيل الأخيرة المستمرّة منذ 23 كانون الأول/ ديسمبر 2021، وقبلها 26 يوماً بين تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، وكانون الأول/ ديسمبر 2021، و7 أيام بين أيلول/ سبتمبر 2021، وتشرين الأول/ أكتوبر من العام نفسه.

أوصلت السلطة السياسية، رسالةً واضحةً إلى اللبنانيين مفادها أنّ لا سلطة للقضاء، وأنّ عرقلة تطبيق القانون تتمّ بكلمة من وراء شاشة، أو من زيارة إلى قصر العدل، أو اشتباك مسلّح مفتعل على أبواب المدينة

أوصلت السلطة السياسية، وعلى رأسها ثنائي حزب الله وحركة أمل، من خلال عرقلة ملف انفجار مرفأ بيروت، رسالةً واضحةً إلى اللبنانيين مفادها أنّ لا سلطة للقضاء والأجهزة الأمنية على البلد، وأنّ عرقلة تطبيق القانون تتمّ بكلمة من وراء شاشة، أو من زيارة إلى قصر العدل، أو اشتباك مسلّح مفتعل على أبواب المدينة.

والرسالة الأهمّ، أنّ لا انفجار بحجم انفجار مرفأ بيروت، ولا مجزرة بحجم مجزرة 4 آب/ أغسطس، يمكن أن يهزّا هذه السلطة السياسية عن عرشها واستبدادها واستئثارها. بهذه البساطة وبهذا الوضوح، منظومة الحكم في لبنان قادرة على توجيه هذه الرسائل القاتلة والمحبطة إلى اللبنانيين. ومن خلال كل هذا المسار في العرقلة والتعطيل، في القضاء والأمن والضغوط والسياسة، محاولة إحباط وتيئيس للّبنانيين، علّ الملل يأكلهم وينسون ما تمّ ارتكابه في بيروت في آب/ أغسطس 2020. ونتيجة عمل السلطة وأدائها، يبقى السؤال الذي لن يجد له اللبنانيون جواباً في وقت قريب: ماذا حصل في ذلك المشؤوم؟

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image