"بكرا بس نكبر بصير فينا نسهر لساعة اللي بدنا، وأهم شي ما عاد بكون عنّا مدرسة وامتحانات"، هذه عيّنة ممّا ردّده الجميع في طفولته.
جميعنا يذكر "سندويشة ما قبل النوم" التي أرغمونا على إنهائها للخلود إلى الفراش، وكانت كابوس يومنا.
هكذا كانت "متاعبنا"، ولطالما شكّلت هذه التفاصيل هواجسنا، لكننا سرعان ما نجد أننا حلمنا بالشيء وفقدنا مع الوقت شغفنا به، وأضعنا أحلامنا في هموم كانت مجرد تفاصيل صغيرة.
تبدّل الأولوليات
لطالما انتظر الطلاب/ات الانتهاء من مرحلة الثانوية والانتقال إلى الجامعة، ففي هذه المرحلة يعيشون/ن في استقلالية ويرسمون/ن من خلالها مسار حياتهم/نّ بأكملها، إلا أنّ لذة الوصول إلى الجامعة ترافقها هموم الانخراط في سوق العمل، وضغوط إيجاد الفرص النادرة في معظم بلادنا.
هكذا كانت "متاعبنا"، ولطالما شكّلت هذه التفاصيل هواجسنا، لكننا سرعان ما نجد أننا حلمنا بالشيء وفقدنا مع الوقت شغفنا به، وأضعنا أحلامنا في هموم كانت مجرد تفاصيل صغيرة
كل هذه الأولويات تبدّلت واختلفت أساليب الحياة وساعات النوم. أصبح معظم القاطنين/ات في محيطنا مرغمين/ات على السهر، بسبب ضغوط العمل والدراسة تارة والقلق تارة أخرى. الهواجس التي حسبها الإنسان عظيمة، لم يشعر يوماً بالانتصار بعد تحقيقها، أو على الأقل، لم يرضَ بها وانتقل لهموم أكبر.
"أتذرّع بأنني أحببت اختصاص الإعلام، اخترته بعد ضياعي في تحديد الاختصاص الذي يلائمني"، هذا ما قاله محمد (20 سنة) لرصيف22، وهو طالب إعلام سوف يتخرج في نهاية هذا الفصل.
منذ الصغر، اكتشف محمد شغفه بالإعلام، وسرعان ما تبخّر حلمه في أن يصبح مراسلاً تلفزيونياً: "مع تدهور الأوضاع الاقتصادية، باتت أولويتي تكمن في تأمين مصاريفي الأساسية"، وتابع بالقول: "أنا حقاً فقدت الشغف ولا أتطلّع اليوم لأن أصبح إعلامياً".
يعمل محمد في أحد المتاجر، وهو بانتظار أي فرصة للعمل في الخارج في أيّ مجالٍ كان.
قصة محمد هي مجرد حلقة ضمن سلسلة من التجارب والتقلبات التي يمرّ بها الإنسان في مراحل حياته. وهنا تختلف الإحباطات لديه، وكذلك اللذّة التي تنطلق من حصوله على حليب أمّه، إلى لعبته فالشهادة، ومن ثم الوظيفة، وبعيداً عن التنميط الذي يحكم مسيرة الإنسان، تطال هذه التقلّبات حياته العاطفية، فمنذ قطع حبل السرّة الذي يربط الطفل بوالدته، تتشكّل الصورة الذهنية لدى الطفل للحصول على رضا الوالدين.
تنمو هذه الروابط العاطفية فيبحث الشخص عن شريك حياته، وتتكرّر حالات القلق عندما يفشل في علاقة عاطفية أو لا يجد الشخص الذي يريده. الأمر ذاته يتكرّر بعد حالات الزواج الفاشلة، والخيبة الكبرى التي تصيب الإنسان في حال فشله أو "ملله" من الشريك/ة.
تعليقاً على هذه النقطة، قالت الإختصاصية في علم النفس العيادي، كوزيت معلوف، لرصيف22: "لا رأي لنا في الحاجة، وهي شيء بدائي كتناول الطعام والنوم، أما الرغبة فهي النقص الذي يشعر به الفرد وبالوصول إليها يصل للذة".
وأضافت بالقول: "عند الوصول إلى الحاجة، يشعر الإنسان بالملل، بحيث يصل لللذة التي سعى إليها، أما عندما يتحول الأمر إلى شغف فلا يمكن الشعور بالملل تجاهه، مثلاً إذا كان شغفي وهوايتي الرسم لا يمكن الشعور بالملل بعد إنهاء أول لوحة"، موضحة أن هذا الأمر ينطبق أيضاً على العلاقة الجنسية بين الزوجين، ففي السنة الأولى تختلف هذه العلاقة عن السنة الثانية من دون فقدانها أو فقدان الشغف فيها".
التأرجح بين ثقافة الحياة وثقافة الموت
منذ مراحل الطفولة الأولى، يعيش الإنسان تحت سلطة الوالدين ويكون غير قادر على الانتفاض على هذه السلطة. يمتصّ الجهاز العقلي هذه الترسّبات لتنتقل فيما بعد وتشكّل "ردّة فعل" على أي سلطة قد تواجهه.
واللافت أنّ الواقع الحياتي في معظم الدول العربية لا يفسح المجال للتعبير عن "راحة البال" الضائعة في خضم الأزمات التي ترافق الفرد من لحظة ولادته حتى وفاته.
منذ بداية الأزمة الاقتصادية، قلّل محمد من "ضهراته" التي اعتاد عليها في السابق: "تبدّلت رؤيتي للحياة، السعادة التي قد أشعر بها عند خروجي، تختفي بمجرد عودتي إلى منزلي".
أساس الإنسان هو محيطه والتشبيكات الاجتماعية، وهي لا تقل أهمية عن مراحله الطفولية والدراسية والجامعية والعملية. كل ذلك يترافق مع هذه المراحل التي تنهال على الفرد في ظل بيئة اجتماعية تحكمه وتقيّده وتُبدّل له معالِم حياته.
تنطلق هنا ثقافة الموت، وإن اعتبرها البعض محفّزاً للاستمرار ومقاومة الصعاب، إلا أنها تشكّل هاجساً مدمراً للفرد في الكثير من الأحيان، وقد تصل في بعض الأحيان حدّ "الإيجابية الوهمية"، تقابلها ثقافة الحياة، وهي تتجسّد في معرفة قيمة الوقت في قضاء الحياة وكيفية السير بها، وهو ما قد يتغير مع ضياع الأحلام التي رسّخها الفرد في ذهنه، لكنه لم يصل إليها.
الواقع الحياتي في معظم الدول العربية لا يفسح المجال للتعبير عن "راحة البال" الضائعة في خضم الأزمات التي ترافق الفرد من لحظة ولادته حتى وفاته
يتجلى انتكاس مفهوم ثقافة الحياة في قارب الموت الأخير الذي غرق قبالة شاطئ طرطوس في سوريا، في نموذج واضح لما قد تؤدي إليه الأزمات الحياتية التي تطال الشعوب. الأزمة التي عاشها هؤلاء الضحايا، حيث تخطّى عددهم المئة، هي ما أرغمتهم عنوةً على تقبّل ظروف قاهرة من دون الإصغاء إلى أنفاسهم. حالة من الضياع عاشها راكبو المركب الذين قرّروا مغادرة لبنان، ربما لظروف أفضل، وهم أنفسهم كانوا أطفالاً، كلٌّ منهم في عالمه الخاص، تائه ولا يعرف أي مستقبل وأي وظيفة تنتظره.
في المقابل، قد يشكّل معظم الذين زاروا عيادة نفسية نموذجاً لمفهوم ثقافة الحياة. هؤلاء قرّروا تفضيل الحياة على كل ما مرّوا فيه خلال مختلف مراحل الحياة. التحدّي الأكبر يكمن في انتصار هذه الثقافة على نقيضتها، خصوصاً في ظروف تعطي الأفضلية للموت على الحياة بأشواط وأشواط. وتبقى النطفة الاجتماعية، معرّضة لمصاعب متتالية من المهد إلى اللحد، والأهم هو أن يتخطّاها من دون الغرق في وهم التأقلم السلبي، إنّما التأقلم المرفّه.
باختصار، هكذا يعيش الإنسان حياته، تتبدّل أولوياته، لينكسر حيناً وينهض حيناً ساعياً خلف أولوية جديدة. تظل دورة الأولويات على هذا الشكل، غير ثابتة ضمن الواقع الذي يـعيشه. ثقافة الحياة، بما تعنيه، يلتمّ عليها الإنسان للحفاظ عليها وإشباعها، إنّما ما يعيشه من إحباطات تنهال على عاتقه، هو ما قد يحوّل هذه الثقافة إلى "الموت" أو منبثقاتها، لتتغيّر رغباته وأفكاره... وبالطّبع أولوياته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com