شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
تقول لي أمّي إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه... أحب أن أصدقها

تقول لي أمّي إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه... أحب أن أصدقها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن وحرية التعبير

الاثنين 31 أكتوبر 202202:35 م

تعلمنا في المدرسة الابتدائية أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين، منها، الْوَدُود، والرحيم والغفور، وشديد العقاب. تعلمنا أن الله في البلاد العربية بمنزلة والدينا، يراقبنا دوماً، يعتني بنا، لكنه أيضاً يتصيد أخطاءنا، ويعاقبنا عندما لا نحسن التصرف. 

علاقتي بالله كانت معقدة منذ الطفولة، كنت دوماً أتخيله ضوءاً أبيض ناصعاً، وفي وسطه كلمة الله بالخط العربي المزخرف. تربيت أن أشعر بأن هذا الضوء هو شمسي والدفء الذي يبدد ثلج وحدتي. لقد كبرت وأنا أتأثر بالخطب الدينية وأحفظها عن ظهر قلب، وبخاصة خطب علي بن أبي طالب التي كانت غاية في البلاغة والجمال. كنت أشعر أن الأدب الديني واللغة العربية طريق من طرق التقرب من الله. وعليه، حفظت ما وقعت عيني عليه من أشعار وآيات، سابحاً في بحر لاهوتٍ أحطت نفسي به.

علاقتي بالله كانت معقدة منذ الطفولة، كنت دوماً أتخيله ضوءاً أبيض ناصعاً، وفي وسطه كلمة الله بالخط العربي المزخرف.

"العدل" اسم من أسماء الله الحسنى لطالما أثّر فيّ، ولطالما كنت ألجأ إليه هرباً من تنمر الآخرين في المدرسة. كان الله أبي في السماء. أبي الذي أشكو له حزني وضعف حيلتي، وأناجيه باسمه "العدل" كي ينصف جسدي الهزيل من قوة وبطش فتيان المدرسة الأشرار. لطالما قال لي والداي إن الله "أعدل العادلين"، وإنه "لا يضيع أجر من أحسن عملاً"، فيطمئن قلبي إلا من بذرة شكٍ وحزن مما أراه حولي من ألم. 

الطفل الملقى على الطريق أمام مشفى الأطفال، والسيدة التي تبيع علب المحارم في أشدّ الحر، والمرأة التي أبكتني وهي تصيح بأعلى صوت طالبة النقود من سكان المنازل. لمَ كل هذا؟ "ما الغاية من كل هذا الألم؟"، كنت أسأل الله الغفور الرحيم في رسائل خاصة. 

في دراسة معمقة نشرت في المكتبة الوطنية للطب National library of medicine بعنوان "عوامل دينية وروحية للاكتئاب"، وجَدت أن غالبية المشاركين في الدراسة أظهروا علاقة عكسية بين التدين والروحانية والاكتئاب والميول الانتحارية. أو بعبارة أخرى، وجدوا أن العلاقة الروحية والدينية بكيان أعلى قللت من كآبة الأشخاص وسرّعت مدة تعافيهم من نوبة كآبة سابقة. 

الطفل الملقى على الطريق أمام مشفى الأطفال، والسيدة التي تبيع علب المحارم في أشدّ الحر... لمَ كل هذا؟ "ما الغاية من كل هذا الألم؟"، كنت أسأل الله الغفور الرحيم في رسائل خاصة

وعلى النقيض من ذلك، فقد تضمنت الدراسة جانباً آخر تماماً، وهو أن الإيمان أدى لزيادة معدل الاكتئاب والميول الانتحارية لدى الأشخاص الذين عانوا في حياتهم من مشاكل أسرية، وظلم، ومشاكل زوجية، وإساءة. فعند إجراء الدراسة على 219 زوجاً ممن عانوا من فقدان أحد أبنائهم، وجدوا أن أولئك الذين أبدوا تديناً أكبر عانوا من أعراض كآبة أكثر. 

وفي ضوء هذه الدراسات، تم الفصل بين اعتقادات دينية إيجابية واعتقادات دينية سلبية، ككون الله يعاقبنا أو ينتقم منا، وقد أسفرت عن مشاعر سلبية كثيرة. 

في بلدي سوريا، لطالما تساءلت هل كنا نستطيع الفصل بين اسم الله الغفور، واسمه المنتقم. في بقعة يتآكلها الحزن من كل حدب وصوب، في بقعة نلتمس فيها بصيصاً للأمل بين الحين والآخر، كنت أتساءل لمَ كل هذا الحزن يا الله؟ ماذا فعلنا لنستحق هذا الألم؟ 

كطفل كبر يحمل الله على كتفيه وصور وصوت القذائف في مخيلته، كانت هذه الأسئلة تسحقني. لماذا نحن من بين كل الناس؟ ما الذنب الذي اقترفناه كي نولد في ظل كل هذه الفوضى؟ إيماني بالله جعلني ضمنياً أستنتج أن الله يكرهنا، أن الله تخلى عنا منذ زمن. كل من بحت له بهذه الأفكار أدانني بقلة الإيمان. لكن، ماذا يعني الإيمان في ظل هذه الظروف القاهرة؟ ما ذنبنا إن لم نخلق أنبياء أو زاهدين كي نتحمل قسوة الواقع؟ كل هذه الأسئلة كانت تجرحني وتمنعني من النوم.

في بلدي سوريا، لطالما تساءلت هل كنا نستطيع الفصل بين اسم الله الغفور، واسمه المنتقم

فلسفياً، هذه التساؤلات مبررة جداً، فقد حيرت الفلاسفة والربويين والملحدين وخلقت جدلاً واسعاً. فمعظم الربويين يؤمنون بإله كلي المعرفة وكلي القدرة وكلي الرحمة، ووجود الشر في العالم يتعارض مع هذه الصفات السابقة، فإما على الربوبين أن يتخلوا عن إيمانهم بفكرة الإله أو أن يتخلوا عن إحدى تلك الصفات الثلاث. 

هذا النقاش يفسح المجال لفرع عميق جداً من الفلسفة يدعى بالـ theodicy، أي تفسير السبب الذي يجعل خالقاً كلي المعرفة والقدرة والخير يسمح بوجود الشر. الـ theodicy تميز بين نوعين من الشر، الأول يدعى بالشر الأخلاقي أو Moral evil، وهو الشر المرتكب من قبل البشر، والشر الطبيعي أو Natural evil، وهو الشر الناتج عن الكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات. فأما الشر الأخلاقي فيذهب الفلاسفة إلى تبرير وجوده بأنه لا يمكن أن توجد إرادة حرة دون الشر وارتكاب الأخطاء. والعالم بلا إرادة حرة ليس عالماً مثالياً أبداً. لذا، فالإله خلق الشر ليعطي البشر إرادة حرة ويخلق عالماً أفضل أو the best possible world. إلا أن هذا التفسير لا يبرر الشر الطبيعي، أو شر الكوارث والأوبئة، شر أن يولد طفل بريء بإعاقة دائمة، أو أن يولد أطفال في فقر مدقع وآخرون في نعيم. 

أحب أن أتخيل دوماً أن غداً يومٌ أفضل وأن الله أو القدر يحملان في جعبتهما ما هو أفضل لي،  أؤمن أن كل شخص يؤمن بما يجلب له الراحة

”لقد كان من السهلِ تعليل الشرِ في المعتقدات الثنويّة التعدديّة بأنّه نتاج تناقضِ أهواءِ الآلهة ومقاصدها أو أنّه نتيجة طبيعيّة لوجود آلهة طيبة وأخرى شريرة. أما في معتقد التوحيد الذي يترافق مع تصوّر الإله على أنّه كلي القدرة والمعرفة، فإن تعليل الشرِ يغدو بمثابة المهمةِ الأولى والملحة أمام المعتقد التوحيدي". هكذا يفتتحُ الكاتب السوري فراس السواح كتابه "الرحمن والشيطان". كتاب من أفضل الكتب التي تناقش مسألة وجود الشر في العالم.  وفي هذا المقال، أحاول من جديد أن أجد النظرية التي تناسبني، فكل تلك النظريات تبقى نظريات فلسفية يمكن الأخذ بها أو عدمه، كما يمكن الإيمان بوجود إله أو عدمه.

أمي تخبرني أن المصائب اختبار للبشر. تقول لي إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه. أحب أن أصدقها، أحب أن أتخيل دوماً أن غداً يومٌ أفضل وأن الله أو القدر يحملان في جعبتهما ما هو أفضل لي،  أؤمن أن كل شخص يؤمن بما يجلب له الراحة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

معيارنا الوحيد: الحقيقة

الاحتكام إلى المنطق الرجعيّ أو "الآمن"، هو جلّ ما تُريده وسائل الإعلام التقليدية. فمصلحتها تكمن في "لململة الفضيحة"، لتحصين قوى الأمر الواقع. هذا يُنافي الهدف الجوهريّ للصحافة والإعلام في تزويد الناس بالحقائق لاتخاذ القرارات والمواقف الصحيحة.

وهنا يأتي دورنا في أن نولّد أفكاراً خلّاقةً ونقديّةً ووجهات نظرٍ متباينةً، تُمهّد لبناء مجتمعٍ تكون فيه الحقيقة المعيار الوحيد.

Website by WhiteBeard