شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
تخليت عن الله حين تخلّى عني

تخليت عن الله حين تخلّى عني

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 26 أغسطس 202201:33 م

كان شيخ مسجدنا، يجمعنا نحن أطفال الشارع بعد كل صلاة ليحدّثنا عن العذاب الذي ينتظر البعض منا، والنعيم الذي ينتظر الآخرين. كل المطلوب هو أن نصلّي وأن نقرأ القرآن والأذكار الصباحية والمسائية وأن نصوم الإثنين والخميس، وهذه من سمات الطفل الصالح.

مقايضة عادلة في رأيي: "أصلي وأقرأ القرآن وأصوم فقط، وأدخل الجنة إلى الأبد". وبما أننا في آخر الزمان، لن اضطر إلى أن أفعل ذلك كثيراً.

مهمة سهلة، إذاً سأقوم بها.

قوالب تكذب لا قلوب تخشع.

أصلّي وأصلّي وأقرأ القرآن ولا أفوّت مجلساً للعلم ولا أنسى أبداً أذكار الصباح والمساء، ومع الوقت يصير الأمر روتينياً.

ثم أسأل: "ما الجدوى؟"، فيتردد صوت شيخي في عقلي: "كي تدخل الجنة وتتفادى النار الأبدية".

في كل مرة أصاب بالملل، أذكّر نفسي بذلك، ولا بأس ببعض قصص العذاب الأليم كنوع من التحفيز: "قوم نوح وعاد والذين طغوا في البلاد".

لكنّي خائف. حتى أنني رأيت الله في أحد أحلامي على هيئة "أبو الغضب" (الشخصية الشريرة في المسلسل الكرتوني مازنجر). كان يطير على سجادة الساحرة الشريرة ومن حوله جبريل وميكائيل وإسرافيل. كانوا جميعاً مخيفين. لكني لم أخبر شيخي أبداً بذلك.

سيخبرني بأنني في النار لا محالة. لكن الحلم يباغتني كل فترة فأصاب بالذعر، ثم مع مرور الوقت أنسى.

ويموت شيخي.

لكنّي خائف. حتى أنني رأيت الله في أحد أحلامي على هيئة "أبو الغضب" (الشخصية الشريرة في المسلسل الكرتوني مازنجر). كان يطير على سجادة الساحرة الشريرة ومن حوله جبريل وميكائيل وإسرافيل. كانوا جميعاً مخيفين. لكني لم أخبر شيخي أبداً بذلك

أكبر قليلاً فيستقطبني الإسلاميون "الإخوان" في قريتي. وأول ما علّموني إياه هو الرشوة: إذا حضرت مجلسهم، أحصل على الحلوى اللذيذة والفاكهة. ثم علموني الكذب: طلبوا مني ألا أخبر أهلي بأنني أحضر مجالسهم، وإذا سألوني أين كنت أقول لهم: كنت أستذكر دروسي بصحبة صديقي.

لكنهم أيضاً حدثوني عن "الخشوع". بالخشوع يصير للعبادة معنى. فالله يريد قلوباً تخشع لا قوالب تخضع. كانت جميلةً تلك الفكرة. ربما تقضي على الملل والروتين.

لكن كيف؟ هل هناك طريقة ما؟ أراهم يتباكون ولا يبكون، فأحاول أن أفعل، لكن دون جدوى. لا شيء: فقط الملل وأيضاً الخوف من العذاب إن لم أعبد الله كما ينبغي.

تعبت ويوم القيامة لا يأتي أبداً: "ألسنا في آخر الزمان؟! ألم تظهر المنارة البيضاء في دمشق؟!". كنت خائفاً من أن أتوقف عن طقوس العبادات قبل أن تقوم القيامة. وأيضاً لأجل جارتنا التي كنت أكرهها وأتمنى أن تبقى في النار إلى الأبد.

وبعقلي هذا كنت أتطلع إلى الشمس يومياً عل وعسى تكون قد أشرقت من المغرب وننتهي.

لكنها أبداً لا تأتي، وأنا على الأقل صرت شيخاً.

لكنهم أيضاً حدثوني عن "الخشوع". بالخشوع يصير للعبادة معنى. فالله يريد قلوباً تخشع لا قوالب تخضع. كانت جميلةً تلك الفكرة. ربما تقضي على الملل والروتين. لكن كيف؟ هل هناك طريقة ما؟

القابض على الجمر

مع مرور الوقت، صرت معروفاً في شارعنا بأنني أكثرهم التزاماً، لذلك احترموني. بينما هم لا يعرفون ما في داخلي وما في عقلي.

أعجبتني الفكرة: صرت "الشيخ". دعوني لإمامة الناس في الصلاة وإقامة الأذان. كان حلم كل فتى في قريتي أن يمسك ميكروفون المسجد ليؤذّن، وهأنذا صرت الرابح.

"نم في سلام يا شيخي، الآن أنا على خطاك".

أصبحت متزمتاً. حتى أنني كنت أوبّخ والدتي لأنها تجلس مع نساء شارعنا، لأنها بالتأكيد مجالس نميمة وواجبي "أن أغيّر المنكر"، كما علّمني الإسلاميون. وصرت أطفئ التلفاز لإخوتي، فهو حرام، وأوبّخ شقيقتي التي تستمع إلى "أم كلثوم".

كانوا يرونني غريباً. وكنت أرى نفسي أيضاً غريباً. أشعر بأن هناك شيئاً ما خطأ أو ناقص، غير أنني لست أدري ما هو.

أكبر قليلاً، وأسأل ثانيةً: "ما الجدوى؟!". لم تعد الإجابة القديمة "الجنة والنار" ترضي عقلي. ماذا لو لم تكن هناك جنة أو نار.

أستغفر الله. هذا هو الشيطان الذي حدّثني عنه شيخي.

لكنها فكرة تأبى الرحيل. ماذا لو لم تكن هناك جنة أو نار. ماذا لو لم يكن هناك الله من الأساس.

أستغفر الله، هذا "إبليس" كبير الشياطين.

لكنها فكرة تزداد أكثر فأكثر، ولا تذهب بمجرد الاستعاذة بالله من الشيطان. ماذا أفعل؟!

أحاول التيقن من أن الله موجود بأي طريقة. كتب المسجد لا تتحدث سوى عن الله وعن التوحيد ورياض الصالحين وأحكام الطهارة. أما الشيوخ الذين أفضّلهم وأستمع إليهم، أي "محمد حسان ومحمد يعقوب وأبا اسحق الحويني"، فلا أحد منهم يجيب.

لكن "الشيخ محمود المصري" كاد أن يفعل.

أصبحت متزمتاً. حتى أنني كنت أوبّخ والدتي لأنها تجلس مع نساء شارعنا، لأنها بالتأكيد مجالس نميمة وواجبي "أن أغيّر المنكر"، كما علّمني الإسلاميون. وصرت أطفئ التلفاز لإخوتي، فهو حرام، وأوبّخ شقيقتي التي تستمع إلى "أم كلثوم"

قال الشيخ، سألني يهودي: "طالما الشياطين تُسلسل في رمضان، فلماذا نسمع صوت نهيق الحمار؟!".

سؤال اليهودي كان منطقياً بالنسبة لي. طالما "نهيق الحمار" يحدث كلما رأى الشيطان حماراً، كما ورد في "صحيح البخاري"، وطالما تُسلسل الشياطين في رمضان كما ورد في "صحيح مسلم"، فلماذا إذاً نسمع صوت نهيق الحمير؟

وانتظرت إجابة الشيخ التي يجب أن تكون منطقيةً وبناءً عليها هذا الدين فعلاً صحيح. وانتظرت إجابة الشيخ التي ستضع في قلبي بعض اليقين، لكنه قال: "أجبته: ينهق الحمار لأنه رآك يا يهودي".

شتمت الشيخ وأغلقت التلفاز. وكانت تلك المرة الأولى التي أسبّ فيها شيخاً.

كنت كمن يبحث عن اليقين في منطقة اللا يقين.

شتمت الشيخ وأغلقت التلفاز. وكانت تلك المرة الأولى التي أسبّ فيها شيخاً.

تكبر الفكرة ويصير خوفي أكبر، وشكي أكثر. تنتابني حالة هيستريا. أصعد إلى سطح بيتنا ليلاً وأنادي الله بأن يعطيني أي إشارة، لكنه لا يفعل. أبكي خوفاً وغضباً، لكنه أيضاً لا يفعل. أتجرأ أكثر: "أنت الذي تتحمل ذنب ما يحدث"، لكنه لا يجيب.

أشكو لصديقي فيحدّثني عن الإيمان.

لكن كيف أؤمن بك يا الله، وأنت لم تدلّني عليك حتى؟

لم أتلقَّ إجابةً. ارتدت الجامعة ومع مرور الوقت صرت أتناسى تساؤلاتي، وبحكم العادة والتكرار ما زلت محافظاً على عاداتي؛ الصلاة والصيام وقراءة القرآن وأذكار الصباح والمساء. كنت كما الآلة.

أُصبت بالضجر من كثرة شعوري بالضيق، وبدأت ألتفت إلى أشياء أخرى.

الحذاء الملعون وفتوى مديري

كنت طوال الوقت في قريتي، أرتدي "الشبشب". لم يكن أمر أن أخلع الشبشب كي أتوضأ، معضلةً. لكن الآن بات الأمر يمثّل مشكلةً. أقضي معظم وقتي خارج قريتي في الجامعة، وكنت أرتدي الحذاء طوال الوقت. بدأت أدرك أنها مسألة صعبة أن أخلع حذائي في كل مرة كي أتوضأ وأصلّي.

لكني ما زلت أفعل.

ركزت مع الحذاء، وصرت أصاب بالضيق في كل مرة اضطر فيها إلى خلع الحذاء. ثم توصلت إلى فكرة مفادها أن أجمع بين صلاتين أو ثلاث، كي لا أضطر إلى خلع الحذاء 5 مرات.

ثم انتقلت إلى القاهرة، وهالني ما سمعته من زميلي في العمل الذي حكي لي كيف أن "أحدهم توفي بينما كان يمارس الجنس مع إحداهن". بالتأكيد هو في النار الآن، خالد فيها مُخلّد، أقول في سرّي.

ثم انتقلت إلى القاهرة، وهالني ما سمعته من زميلي في العمل الذي حكي لي كيف أن "أحدهم توفي بينما كان يمارس الجنس مع إحداهن". بالتأكيد هو في النار الآن، خالد فيها مُخلّد، أقول في سرّي

لكني ما زلت محافظاً على عاداتي؛ "الصلاة والصوم وقراءة القرآن وأذكار الصباح والمساء"، بينما من حولي لا يبدو أنهم يهتمون بما أفعل. وحينما أدعو أحدهم كي يذهب معي لصلاة الجمعة يقول لي ساخراً: "أنا صلّيت الجمعة اللي فاتت، ادعيلي معاك دعوتين يا شيخ".

شعرت بأنني أفضل منهم. على الأقل لو كان هناك إله، فلن يعذبني مثلهم. كنت أشعر بالفوقية، بالرغم من أنني فارغ من الداخل بينما هم لا.

وكانوا سعيدين بينما أنا لا.

ومع الوقت أدرك بأن هناك حياةً تفوتني. الآن أريد أن أكون مثلهم. لكني ما زلت خائفاً. لكن أتوصل إلى حل طالما أن من يفتي فتوى يكون المسؤول عنها.

سفر الخروج

كنا في رمضان 2011، حين طلبت من مديري، وكان رئيس تحرير حينها، أن يجيز لي أن أفطر ويتحمل هو العاقبة أمام الله، كونه هو من أفتى ولست أنا. كان الأمر بالنسبة له مثيراً للاهتمام وللسخرية، وكان يفعل، بينما أنا كنت جاداً للغاية. ثم أطلب منه أن يجيز لي أن أتخلى عن أحد الفروض فيفعل وأتخلى. كانت الصفقة جيدةً بالنسبة لي. تتحمّل أنت العواقب بينما أرتاح أنا.

ومع مرور الوقت، وبحكم المحيط، أنسى شيخي وأنسى تساؤلاتي ولا أهتم لا بصلاة ولا بصيام ولا بقراءة قرآن ولا بأي شيء. صرت لا مبالياً، حتى عام 2014، عندما قررت أن أعدّ نفسي "لا أدري". شعرت بأنني لست مجبراً على خلع الحذاء في كل مرة أريد أن أتوضأ فيها، وشعرت بأنني لست مجبراً على البحث عن أي إجابة.

باتت الإجابات تأتيني حين توقفت عن البحث.

أعجبتني فلسفة الشيطان في "أرِني الله" لتوفيق الحكيم. وصُدمت حينما عرفت حقيقة الشخصيات المقدسة في "قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية"، للكاتب خليل عبد الكريم، وتماهيت مع القصص الواقعية البعيدة عن الأساطير في "الدين في شبه الجزيرة العربية"، للكاتبة اليمنية أبكار السقاف، وصرت ناقداً بـ"المرشد في التفكير الناقد" لستيورات م. كيلي ونيل براون. وكانت تلك أولى محاولاتي للبحث في الدين خارج سياق الكتب الدينية.

والأهم: شعرت للمرة الأولى بأنني حر ولست خائفاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image