نتساءل باستمرار عما نريد وما يريده المجتمع منا، أحياناً يتجسد المجتمع من خلال الأهل أو بيئة العمل، أو في تغيرات السوق من حولنا، أو في الغرب، أو الشرق، أو السياسة، أو الحكومة، في مواجهة هذا "المجتمع" نقع تحت وطأة التوقعات التي قد لا تتفق مع انحيازاتنا ومبادئنا، مثلاً حين يحثنا بوق النيوليبرالية المهيمنة على تسويق أنفسنا وأفكارنا باستمرار سعياً لكسب الرزق والسمعة المستحسنة.
الانسحاق تحت قيم النيوليبرالية
تقول أستاذة علم الاجتماع في جامعة برينستون، وندي براون، إن قيم النيوليبرالية تحولت إلى ثقافة عامة ولم تعد حكراً على حركة السوق والمال فقط، وإن هذا التصور يسحقنا تدريجياً، فهو يضعنا كلنا في سياق الطوفان من حولنا بشكل فردي مبني على المحو الممنهج لقيم الحرية والعدل والمساواة (لأنها لا تليق بطموحات السوق والمال مع صعود اليمين المتطرف سياسياً).
هذه التوليفة من الإلحاح على خيارات الأشخاص الفردية تقوم على ترك كل ما هو جمعي ونسيانه، وكأن الحوار الحقوقي العام أصبح في حد ذاته خرقاً للقانون يجرم أصحابه، تأتي همسات كهذه من حيث توجد سلطة متحققة، مثل همسات الآباء لأبنائهم بعدم الرد على كبير العائلة لتصحيح معلومة، وهمسات المدرس لإسكات اعتراض تلاميذه عند مساءلة سردية تاريخية ما، وهمسات الجهات السيادية بتوحيد رسائل الإعلام وإسكات المعارضين وتفكيك المد الحقوقي.
يقف خلف القضبان وينام في القبور كثيرون شهدوا الظلم بعيداً عن كل ما نعرف من أشكال الرفاهية، في سلب الحرية لن يطغى إلا العنف بأشكاله المختلفة
كل هذا يدفعنا لأن نكفر بتطوير الحياة في ظل المجموعات المهتمة بحقوق الجموع واعتبار الفردي جزءاً من الكل وتهميشه. هذا التدافع وإهمال الفردي يزجان بالكثيرين في وحدة مظلمة، أحياناً تتورم وتتفاقم دون دواء.
إلى أين نُطرد إذن؟
بالتأكيد نطرد بعيداً عن أدوات ومسارات الحوار العام الذي تكمن قوته في قدرته على التوسع الدائم لضمان تجدده، صمام أمان التجدد هو أن يحافظ عليه الجميع من خلال استيعاب أن مصادرة حرية الشخص في النقد والمقدرة على إحراز التقدم _الذي يخاطب مشاكل الجميع ويؤمن كرامة الفرد_ هو في حقيقة الأمر ما تنبعث منه كل القيم الحقوقية التي تنعم على المجتمعات بالعدل والمساواة.
هذ الفكرة ذاتها أشار إليها الفيلسوف الفرنسي، إتيان باليبار، في كتابه (السياسة والمشهد الآخر- Politics and the Other Scene)، عبرة عدم التخلي عن الجماعة خوفاً من الانسحاق تحت قوة السلطة كأفراد موجودة ومتواترة في الثقافة العربية في مقولة "أكُلت يوم أكُل الثور الأبيض".
أتأمل رسائل السجناء السياسيين باستمرار. كتبت ريحانة جباري لأمها قبل إعدامها في طهران سنة 2014: "لم يحبنا العالم يا أمي". هذا السطر الشهير انتشر وقتها في أنحاء البلاد، فكُتب على الجدران وفي شوارع عدد من المدن العربية وعلى الحوائط الإلكترونية، وصار صداه كلما سقط واحد منا، نحن الذين لا زالنا نؤمن بقيم الحرية والعدالة .
عبرة عدم التخلي عن الجماعة خوفاً من الانسحاق تحت قوة السلطة كأفراد موجودة في الثقافة العربية في مقولة "أكُلت يوم أكُل الثور الأبيض".
صدى هذه الجملة موجود في رسائل شادي حبش في مصر قبل موته، كان يرتعب من أن ينساه من هم خارج المعتقل إلى أن لقى حتفه في السجون المصرية في 1 أيار/ مايو 2020.
نفس الإقصاء نشهده في تضحية علاء عبد الفتاح في السجون المصرية بجسده من أجل العدالة في إضرابه عن الطعام الذي تعدى الـ200 يوم.
ونفس المعاناة موجودة في رسالة الصحافية المصرية وطالبة الأنثروبولوجيا، وداد أحمد، لزميلها دانيل أوكونيل في نهاية 2021 والتي نشرت على موقع مدى مصر بتاريخ 29 آذار/ مارس 2022 بعد أن أنهت وداد حياتها.
أوجه الإقصاء ومصادرة حرية الآخرين في الهم العام والحوار الجمعي ترمي بالفرد الذي لا يتماهى مع الصمت عن الانتهاكات الفردية والجمعية إلى الفناء، ليس فقط فناء الفرد، بل فناء مسارات الحرية والعدل والمساواة.
في أثر إيمان مرسال في أثر عنايات الزيات
تتبع إيمان مرسال مذكرات الكاتبة المصرية الراحلة عنايات الزيات في كتابها "في أثر عنايات الزيات"، الذي نشرت طبعته الأولى في 2019.
جمعت عنايات الزيات ونجمة السينما المصرية نادية لطفي صداقة طويلة بدأت في المدرسة، وفي كانون الثاني/ يناير 1963 أنهت الزيات حياتها. بين هاتين المرحلتين تقع الأجزاء التي اختارتها إيمان مرسال للنشر في كتابها من مذكرات عنايات الزيات، إذ نستشعر الشعور بالوحدة ونتبين ملامح كثير من الأشخاص الذين تسببوا بخيبة أمل الزيات، وما لهذا من علاقة بالحرية وبالاحتمالات والوعود التي تروي عطش المرء للانتماء لصدق رؤيته بشكل شخصي ضمن صدى جمعي.
أي وقت هو وقت مناسب لنتأمل فكرة مغلوطة يتم تداولها في بلادنا فحواها أن الحرية ما هي إلا مادة لأحاديث المرفهين
نصطدم بالشعور بالوحدة الذي يحوط الزيات، لا سيما في القمع السياسي في سياق قوانين الأحوال الشخصية الذي يبتلع الكثيرين، فنرى مخاوفها لفقد علاقتها بابنها الوحيد أثناء محاولتها الحصول على الطلاق. روت أخت عنايات الصغرى في سطور لإيمان مرسال: "الطلاق خد وقت طويل، كان من أسرة كبيرة"، لقد استحوذ إحساس عنايات بالتهديد بأن تفقد ابنها عليها، فكتبت في يومياتها:
"نحن لا نملك أحداً ولا يملكنا أحد
الحياة تتغير، والأشخاص، ولا شيء يبقى
حتى الأبناء...
حتى الذين تكونوا بداخلنا وتغذوا على دمائنا
ودفعنا ثمنهم آلام المخاض المروعة...
حتى هذا الذي ورث بعض صفاتي..
وملامحه ملامحي"
عندما يكون السياق العام مكاناً لا يرحب بأن نعمل ما نحب تهرب البنات _كما كتبت الزيات_ للزواج "دون حب...دون تفاهم...دون انسجام" فيكون الزواج هروباً من "المدرسة بكل تزمتها ومحدوديتها".
هنا محاولات الخلاص للبحث عن حياة جديدة تخيم عليها القوانين والأعراف المجحفة التي تؤثر على الحياة الشخصية، فتظهر المعارك الفردية: "يبدو أن محاكم الأحوال الشخصية كانت تبت في الأحكام بسرعة في تلك الأيام، فقد رُفِض طلب عنايات للطلاق في تشرين ثاني/ نوفمبر 1959، واستأنف الرفض في كانون ثاني /يناير 1960، وفي أواخر أيار/ مايو قبل إجازة عيد الأضحى مباشرة.
المعاناة الشخصية والاجتماعية الموصولة بالواقع السياسي لها انعكاساتها على الحياة العملية أيضاً، حماسة عنايات للكتابة وإمكانية نشر روايتها "الحب والصمت" التي نشرت لاحقاً عام 1967، وجمعها مواد عالم المصريات لودفيج كايمر لكتابة نص جديد لم ينقذها من شعورها بالانفصال عن المجتمع من حولها وعن كل ما عطله المجتمع في حياتها.
حماسة عنايات للكتابة وإمكانية نشر روايتها "الحب والصمت" لم ينقذها من شعورها بالانفصال عن المجتمع من حولها وعن كل ما عطله المجتمع في حياتها.
دونت إيمان مرسال مقاطع من مقال قصير كتبه محمود أمين العالِم في مجلة المصور في 21 نيسان /أبريل 1967. يشير العالِم إلى الحرية العامة التي لا تكتمل من دونها الحرية الفردية، يكتب: "الحرية لا تتحقق من خلال الذات وحدها، وإنما تتحقق من خلال الآخرين. وعندما يتنكر الآخرون تصبح حريتنا ندباً وفقداً ومأساة، لست أبرر انتحارها بل أفسره."
تأتي لحظات _رغم تجريم الانتحار في مجتمعاتنا وفي المخيلة الرسمية_ يتضح فيها من تحليل حياة أشخاص بعينهم أن الوعي بالمعاناة التي يفرضها المحيط العام على الأشخاص يفهمها المتلقي في معظم الأحيان بدلاً من أن يدينها.
يتصل الشعور بالأمل في تطور حياة عنايات الزيات بما هو أكبر وأعمق من حدود "الحياة اليومية "تترسخ برغبتي الأكيدة في العيش بعمق" كلمات في رسالة الصحافية وداد أحمد التي تعبر فيها عن حلمها بمد العون بين شخص وآخر لتأسيس تقليد جديد للعناية مبني على التواصل: "شغلني لفترة مدى لطف فكرة أن نبدأ تقليداً جديداً للعناية ببعضنا البعض من خلال تبادل رسائل عبر البريد الإلكتروني".
هل عشنا حقاً بعد 2011؟
يعد الفصل الزمني والإيديولوجي من حلم 2011 في حالة وداد حملاً ثقيلاً، حتمته الظروف القمعية التي أزاحت أطروحات الحرية وربطها بالعدل والمساواة. في بقية رسالتها كتبت: "يبدو أن الحدث (ثورة يناير 2011) طغى على كل إمكانية لأي تطور فردي في كل العلاقات مع العالم دون أن تكون تلك اللحظة هي الجزء المحوري فيه. يبدو أننا، في هذا الوقت، الأرواح الضائعة، بعد مرور عشر سنوات، وبعد سنة من تباطؤ العالم بسبب جائحة كورونا، تأتينا هذه الصحوة، نتساءل ما إذا كنا نستطيع أن نفهم أنفسنا بعيداً عن تلك اللحظة (ثورة يناير 2011) لكل من عاصروها، هل هناك حياة أو وجود في العالم لا تمسه روح أحداث 2011؟".
نتساءل ما إذا كنا نستطيع أن نفهم أنفسنا بعيداً عن تلك اللحظة (ثورة يناير 2011) لكل من عاصروها، هل هناك حياة أو وجود في العالم لا تمسه روح أحداث 2011؟
أي وقت هو وقت مناسب لنتأمل فكرة مغلوطة يتم تداولها في بلادنا فحواها أن الحرية ما هي إلا مادة لأحاديث المرفهين، الإفقار يجتاح حياة ملايين البشر وبالرغم من فجاجته لا يلقى ما يستحق من مجهود وإخلاص لحل معضلاته المتعددة، في المقابل تأتينا دائماً أبواق القوى من حولنا بأن نترك شعارات الحرية لأنها مقارنة بهموم المفقرين ما هي إلا كلمات للمرفهين، هذا على الرغم من أن المفقرين في العالم الذين يمتلكون أطروحات للاشتباك مع حلول مشكلتهم يُمنعون من حرية التعبير.
تأتينا قصة مثل قصة إعدام ريحانة جباري لنتأمل فيها ماذا يعني أن نرمي بالحرية وراء ظهورنا كجموع إنسانية وأن نجد أنفسنا في مواجهة واقع يقصي عدداً كبيراً من البشر عن الحق في الحياة.
يقف خلف القضبان وينام في القبور كثيرون شهدوا الظلم بعيداً عن كل ما نعرف من أشكال الرفاهية، في سلب الحرية لن يطغى إلا العنف بأشكاله المختلفة، ففي السخرية من الحرية نختار الاصطفاف مع العنف، كل مناحي حياتنا ذات صلة ببعضها البعض وواقعنا العام ليس استثناء، في غياب الحرية وتعميم العنف يتفاقم اليأس في دواخلنا ومن حولنا.
في رسائل شادي حبش في مصر قبل موته، كان يرتعب من أن ينساه من هم خارج المعتقل إلى أن لقى حتفه في السجون المصرية في 1 أيار/ مايو 2020
في جواب من علاء عبد الفتاح، كتبه من محبسه في وادي النطرون لعائلته بتاريخ 28 تموز/ يوليو2022 ونشرته أخته منى سيف على حسابها على فيسبوك، كتب: "أظن أننا غالباً بنهرب من حقيقة أن العنف الهيكلي لازماً ولا بد له أضرار وآثار دائمة لا يمكن علاجها."
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع