يمكن للمدن التي نولد فيها أن تقاوم جميع مظاهر الحداثة والمشاهد المثيرة للدهشة فيما نراه في مدن جديدة، من خلال ذاكرة عميقة تربطنا بتفاصيلها، لتبقى هي التي تحتل المرتبة الأولى في قلوبنا.
وهذا ما يجعل لدي إلى اليوم توقاً شديداً غير منقطع لتتبّع أخبار هذه المدينة وأحداثها، رغم غربتي عنها عشر سنوات.
على امتداد سنوات الحرب لم أشاهد إلا قلّة من الأعمال المرتبطة بالواقع والباعثة على الأمل في آن واحد، ولأن إيجاد الأمل في واقع كواقع سوريا يكاد يكون الإنجاز الأصعب في الحياة، فلا يمكن أن أغفِل الإنجاز الأخير للسوريين دون الحديث عنه.
حلب هي المدينة الأولى بالنسبة لي من حيث امتلاكي فيها جملة كبيرة من الذكريات والحب والأمان، والألم والغربة أيضاً.
معرض "كان يا ما كان… حلب" الذي يقام حالياً وحتى الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني في "ساحة الحطب" داخل مدينة حلب، يجمع أكثر من 28 عملاً فنّياً لفنانين/ات سوريين/ات، بإشراف بثينة علي، المدرّسة في كلية الفنون الجميلة في دمشق.
ولأنني لم أحظَ بخوض تجربة المرور بتلك الأعمال ومراقبتها عن كثب، فقد تابعت عن بعد ما تمت مشاركته حتّى الآن من صور وفيديوهات، ولا يمكنني إلّا أن أعجب بقدرة كل من شارك بإحداث هذا المعرض بالعمل على هذه الأرض رغم ما أصابها من دمار، وباللّغة التي يترجمون فيها مقاومتهم، لغة الفن.
يأتي هذا العمل ليثبت لي مرّة أخرى أن الوطن ليس أرضاً أو نظاماً حاكماً، إنّما الوطن هو الشعب الذي نتشارك وإيّاه المشاعر والذكريات والأحلام، وكل ما يرتبط بهم ويعبّر عنهم.
استعادت ذاكرتي أثناء متابعتي لتحضيرات هذا العمل عبارة للكاتب إبراهيم نصر الله: "في الغربة لا تستطيعين أن تدّعي امتلاكك لشيء ما، في الغربة أنتِ لا تملكين سوى حلمك"، واليوم يمكنني إدراك أن ما لا ولن نستطيع امتلاكه في الغربة هو الترابط بذكريات وأحلام الشعوب التي نعيش بينها، وأن شغفنا سيبقى معلّقاً بالأشكال المختلفة للوطن التي نحاول خلقها بصعوبة في غربتنا.
كثيراً ما أصادف أعمالاً فنّية في أوروبا تفوق هذه الأعمال من حيث الإمكانيّات الموظفة فيها، وربما الإبداع، لكنها لا تثير ما يذكر من المشاعر في داخلي.
"في الغربة لا تستطيعين أن تدّعي امتلاكك لشيء ما، في الغربة أنتِ لا تملكين سوى حلمك". إبراهيم نصر الله
أما كلّ ما صُنع في "كان يا ما كان… حلب" يحاكي قصتي وقصص الكثير من السوريين من أبناء جيلي، ويلامس آلامنا التي لم يلتفت إليها العالم إلّا لمصالح وأسباب سياسية.
لطالما كان الفن هو الوسيلة الأصدق في التعبير عن المشاعر، والسماء التي تعلو فوق جميع الفروق لتذكّرنا بإنسانيتنا المشتركة. لسنوات كنت أبحث قبل مشاهدتي لأيّ عمل عن الجهات المسؤولة عنه والمشاركة به، ويرتبط حكمي على العمل برأيي السياسي الفردي بوعي مني أو بدون وعي.
لطالما كان الفن هو الوسيلة الأصدق في التعبير عن المشاعر، والسماء التي تعلو فوق جميع الفروق لتذكّرنا بإنسانيتنا المشتركة.
ولكن للمرة الأولى لم أرغب بالتدقيق بالأسماء المذكورة أكثر من رغبتي بالتحديق في الوجوه والإصغاء للأصوات، رغبت برؤية الوطن كمحرّض للبحث باستمرار عن شبابيك للنجاة، وكباعث على الشغف بإعادة البناء.
إعادة إحياء الشوارع التي دمرتها الحرب، وإن كان من خلال أعمال تعكس آثار الحرب ذاتها، تفتح المجال لصناعة ذاكرة جديدة يتخلّلها الأمل، وإن تبعت لحظات الأمل هذه سلسلة من اللعنات على الواقع، تبقى لحظة الأمل تستحق المحاولة، ويستحق الشكر كلّ من كان له دور فيها. هذا النوع من الفن هو المساحة التي يحتاجها العديد من السوريين داخل سوريا، لتفريغ الألم وتخفيف أحمال الحرب، وما نحتاجه أنا وآخرون غيري في الغربة لإحياء الأمل بالعودة يوماً ما إلى هذه المدن، لنعيشه ولو في لحظة غياب عن الوعي بالواقع قبل إعادة إدراك الخراب الذي حلّ في مدننا.
خلال مشاهدتك لعمليات التحضير للمعرض ضمن الوثائقي "حدث ذات مرّة… حلب" إخراج الليث حجو وابراهيم ملحم، تجد سوريا مختلفة نابضة بالحياة وشباباً مصراً على النجاة من أنقاض الحرب. فهل ستمنح هذه البلاد فرصة لهذا الجيل بعيش الحياة التي يريدها، أم أن هذه الأرض لن تليق أبداً بحجم أحلامهم؟
كلّ ما يمكن أن نأمله اليوم، في ظل عجزنا أمام الواقع السياسي والاقتصادي، أن يجد السوريون لأنفسهم مساحات جديدة باستمرار للتعبير عن الألم، وأن يلقى هذا العمل وغيره ممّا يجتهد الشباب في صناعته الاهتمام الكافي والشكر.
إقامة هذا المعرض وتوثيقه ونقل ما فيه من مشاعر إنسانية، بعيداً عن توجهات وانتماءات أصحابه، إلى السوريين في الداخل والخارج هو بمثابة عناق طويل لمشاعر تصعب إثارتها بعد أن ردمنا ما استطعنا فوقها لنخفي أنينها.
علّمتني الغربة أن الوطن هو ما يسكن بداخلنا وما تستكين إليه أرواحنا لا ما تسكن فيه الأجساد.
كانت مدينتي حلب هي ما دفعني في بادئ الأمر للبحث والمتابعة، غير أن الغربة قد علّمتني أن الوطن هو ما يسكن بداخلنا وما تستكين إليه أرواحنا لا ما تسكن فيه الأجساد، وبهذا فإن تجارب من مرّوا فوق هذه الأرض وضمن حدودها هي ما يصنع الوطن، وقيمة هذا المعرض بعدد الأيادي التي شاركت في إنعاش الذاكرة، وبعمر كلّ حلبي/ة كانت ساحة الحطب أرضاً لذكرياتهم وأحلامهم.
قليلة هي اللحظات التي يجتمع فيها السوريون على رأي واحد، رغم ما حلّ على رؤوسهم من مصائب مشتركة. إلّا أن للفن دائماً القدرة على كتابة رسائل سلام تجمع السوريين، وخلق مساحات صغيرة للتعبير والأمل، ورسم ابتسامات صادقة على شبابيك منازلهم المشبّعة بالإخفاقات والعجز.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...