في عمر التاسعة والثلاثين كتبت روايتها الأولى دون أن تدري، صحافية تشيلية في المنفى، علمت باحتضار جدّها، قررت أن تكتب إليه رسالة، فأصبحت الرسالة رسائل، وتحولت الرسائل إلى "بيت الأرواح"، الرواية الأولى للكاتبة التشيلية الأمريكية إيزابيل الليندي.
ولدت في الثاني من شهر آب/أغسطس عام 1942 في البيرو لأبوين تشيليين. حين بلغت الثالثة من عمرها، هجر والدها الأسرة، فوجدت نفسها مع أم ضعيفة وغير مستقلة تعيش في بيت أبويها في ظل مجتمع محافظ. كان ذلك عهدها الأول بأسئلة النسوية.
ارتباط والدتها بدبلوماسيٍّ جعلها تعيش حياة الترحال بين بلدان في أمريكا الجنوبية وفي الشرق الأوسط. عاشت في لبنان في خمسينيات القرن الماضي، وهناك قرأت "ألف ليلة وليلة"، فبدأ حبها للسّرد ورواية القصص.
ارتباط والدتها بدبلوماسيٍّ جعلها تعيش حياة الترحال بين بلدان في أمريكا الجنوبية وفي الشرق الأوسط. عاشت في لبنان في خمسينيات القرن الماضي، وهناك قرأت "ألف ليلة وليلة"، فبدأ حبها للسّرد ورواية القصص
تقول إنها كانت دائماً راويةَ قصص، تخترع حكايا وتتخيل شخصيات، إلا أنها لم تفكر في أن تكون كاتبةً قط. اشتغلت في مجال قريب من الكتابة، حيث عملت كصحافية في مجلات نسائية وفي قنوات تلفزيونية، مجال ساعد في بلورة وتطوير وعيها بمفهوم النسوية وحقوق النساء، وشكل فرصةً للقائها بالشاعر بابلو نيرودا الذي تأثرت به كما تأثرت به روايتُها "largo pétalode mar" أو "سفينة نيرودا" كما ترجمت إلى اللغة العربية.
المنفى... بداية الحكاية
كانت إيزابيل صحافية وأماً لولدين هما نيكولاس وباولا، حين انقلبت حياتها بحدوث الانقلاب العسكري في التشيلي عام 1973، الذي وقع ضدّ حكم اليساري سلفادور الليندي ابن عم والدها. بعد بضع سنوات من التشبّث بالوطنِ ورفضِ مغادرته، بل ومساعدة النشطاء السياسيين الذين يتربص بهم قادة البلاد الجدد في التخفي والهرب، وجدت إيزابيل نفسها مجبرة على الرحيل، فكانت وجهة المنفى فنزويلا.
هناك بدأت مسيرتها الأدبية، حيث كتبت روايتها الأولى "بيت الأرواح" وهي تشارف على سن الأربعين. تقول إيزابيل إنها لم تكن لتكون كاتبة لولا المنفى، فاحتضار جدّها في موطنها التشيلي، وعدم قدرتها على العودة لتوديعه، جعلها تكتب إليه رسائل، حولتها بعد ذلك إلى رواية نالت شهرةً واسعة ونجحت نجاحاً كبيراً.
"الجميع بإمكانه تأليف كتاب أول جيد، لأنهم يضعون فيه كلَّ ما في حوزتهم، ماضيهم وذكرياتهم وتوقعاتهم. الكاتب الحقيقي يثبت نفسه في الكتاب الثاني"
"الجميع بإمكانه تأليف كتاب أول جيد، لأنهم يضعون فيه كلَّ ما في حوزتهم، ماضيهم وذكرياتهم وتوقعاتهم. الكاتب الحقيقي يثبت نفسه في الكتاب الثاني". هذا ما سمعته إيزابيل من طرف وكيلتها الأدبية Carmen Balcells حين نجح عملها الأول. ولتثبت لها أن نجاح العمل لم يكن ضربةَ حظّ، بدأت في كتابة روايتها الثانية في 8 كانون الثاني/يناير من السنة الموالية، وهي العادة التي لا تزال تحافظ عليها؛ فهذا اليوم الذي كتبت فيه أول رسالةٍ إلى جدّها، هو يوم مقدس بالنسبة لها وتتفاءل به، لذلك تبدأ كتابة جميع رواياتها فيه.
ومنذ ذلك الحين خلقت إيزابيل الليندي لنفسها مكانةً بين أدباء أمريكا الجنوبية من الرجال المخضرمين أمثال غابرييل غارسيا ماركيز، حيث لم تكن الأضواء مسلطة على الأديبات النساء آنذاك.
تعتبر إيزابيل اليوم من أكثر الكتاب قراءةً في العالم، وهي من الأسماء التي تمّ ترشيحها لأكثر من مرة لنيل جائزة نوبل. كتبت إلى الآن 25 كتاباً، من بينها "باولا"، "العاشق الياباني" و"روح امرأة"، وآخر إصداراتها رواية بعنوان "فيوليتا". ترجمت أعمالها إلى 42 لغة عالمية، وباعت أكثر من 75 مليون نسخة، كما نالت أكثر من 60 جائزة في 15 دولة.
أجرى رصيف22 حواراً مع إيزابيل الليندي، تحدثت فيه عن النساء اللائي يلهمن قصصَها، عن روايتها الأخيرة، وعن الزواج بعد السبعين.
أتاح لك عملك الصحافي اللقاء بالشاعر الكبير بابلو نيرودا، وأثر فيك بشكل كبير. ما الذي يعنيه لك نيرودا؟
إنه يمثل جذوري في تشيلي، يصف بلدي وشعبي، يصف أحلامَنا وأحزاننا. لطالما كنت مغتربة، أولاً بصفتي ابنة دبلوماسيين، حيث كنا نتنقل بين البلدان باستمرار، ثانيا كمسافرة، وبعدها كمنفية سياسية وكمهاجرة. أينما ذهبتُ، تذهب كلمات نيرودا معي لتذكّرني بالماضي.
عشتِ حياة الترحال منذ طفولتك، ثم عشتِ تجربة المنفى وبعدها الهجرة. كيف أثر ذلك على أعمالك والقصص التي تروينها؟
أظن أن الترحال مكّنني من رؤية العالم بزاوية أكبر. في كتبي، الإحساس بالمكان مهم جداً. تحدث القصص التي أحكيها في بلدانٍ وقارات مختلفة، إلا أن حياة الناس تتشابه في كلِّ مكان. كلّنا نختبر الخوفَ، الحبَّ، الجشع، الولاء، والشجاعة، وغيرها من الأحاسيس، بالطريقة ذاتها تقريباً. لقد تعلمتُ أن أوجُهَ التشابه التي تجمع الناسَ هي أكثر بكثير من الاختلافات التي تفصلنا.
تعلمتُ أن أوجُهَ التشابه التي تجمع الناسَ هي أكثر بكثير من الاختلافات التي تفصلنا
كتبتِ حول حياتك كثيراً، ذكرتِ تفاصيلَ كثيرة لا يستطيع جميع الروائيين الخوض فيها في سيرهم الذاتية. كيف تنظرين إلى جعل حياتك الخاصة وحياة عائلتك وأصدقائك أيضاً حياة عامة؟
ليس لدي مشكلة في الكتابة عن نفسي وعن حياتي. لا أملك أسراراً شخصية. الأسرار الوحيدة التي أحرسها هي تلك التي أسرَّها لي الآخرون. عند كتابة مذكراتٍ، أحرص على عدم الإساءة إلى الأشخاص الذين أذكرهم في الكتاب. أعرض المخطوطة على كلِّ شخص ذكرت اسمَه وأطلب موافقته، وقد طلب مني ابني وزوجته عدمَ الكتابة عنهما بعد الآن، ويجب أن أحترم ذلك.
تتكرر قصص النساء القويات والمستقلات، وكذا مواضيع التاريخ والذاكرة في أعمالك. ما الذي تعنيه لك هذه التيمات؟
أنا نسوية؛ لقد عملت مع النساء ولأجل النساء طوال حياتي. لدي مؤسسة مهمتها الاستثمار في قوة النساء والفتيات. أعرف النساء جيداً، وأنا مستمعة جيدة. أسمع العديد من القصص من نساء كثيرات رائعات. الشخصيات في كتبي مستوحاة من أشخاص حقيقيين، ولست بحاجة إلى اختراعها، فأنا محاطة بأبطال صامتين.
تمثل أعمالك التجسيد الحقيقي لتأثير حياة الكاتب على القصص التي يرويها؛ فالقصص والشخصيات في رواياتك ترتبط بحياتك وحياة المحيطين بك. موت والدتك التي عاشت قرابة المائة سنة ألهمك لكتابة روايتك الأخيرة "فيوليتا" عن امرأة عاشت هي الأخرى مائة سنة. حدثينا أكثر عن هذه الرواية، وما الذي يربط "فيوليتا" بوالدتك؟ وهل هناك روابط بينك وبين بطلة الرواية؟
مثل فيوليتا، ولدت أمي عام 1920 وعاشت حياةً مديدة. كانت جميلة، ذكية، شغوفة، ساخرة، قوية، وذات رؤية، إلا أنها لم تكن يوماً مستقلة مادياً مثل فيوليتا. وحدّ هذا من اختياراتها في الحياة. أعطيتُ لفيوليتا بعضاً من تجاربي الخاصة، لأنني أردتُ لها أن تكون متحكمةً في حياتها كما كنتُ أنا.
"أعتقد أنه يمكن تجربة الحبِّ والفرح في أي عمر. لقد أتممت الثمانين، ولا زال لدي نفس القدر من الطاقة والفضول الذي كان لدي قبل ثلاثين سنة"... إيزابيل الليندي
من النساء من لا تتقبل فكرة الانفصال والطلاق، وخاصة في سن متقدمة. انفصلت عن زوجكِ الأول بعد أن تجاوزتِ الأربعين، وانفصلت عن زوجك الثاني بعد أن تجاوزت السبعين، مع أن الكثيرين استغربوا ذلك، ووصفوك بالمجنونة. وها أنت ذا في زواج جديد. ما مدى أهمية عدم ربط النساء الاستمتاعَ بالحياة والتجارب الجديدة بسنّ معينة، وعدم الاستمرار في زواج إن لم يكنّ سعيدات؟
لا يمكنني الحديث نيابةً عن نساء أخريات. تحتاج كلُّ واحدة منا إلى اتخاذ قراراتها الخاصة وفقاً لظروفها. كنتُ مستقلةً جداً منذ أن بدأت العمل حين بلغت سبع عشرة سنة. هذا منحني حريةَ اختيار شركائي وتطليقهم أيضاً حين تنتهي العلاقة بيننا. الاستمرار في زواج غير سعيد يتطلب شجاعةً أكثر من تلك التي يتطلبها اتخاذُ قرار الطلاق والبقاء بمفردك، ولكن للقيام بذلك يجب أن تكون المرأة قادرةً على إعالةِ نفسها.
بخصوص السن المتقدمة، أعتقد أن النسوية والمجتمع ككلّ قد تجاهلا حقيقة الشيخوخة؛ تصبح النساء المسنات غير مرئيات وبدون أهمية، ومع ذلك، تعيش النساء الآن سنواتٍ عديدةً أكثر من أمهاتهن، ومعظمهن لديهن التعليم والصحة، وبعضهن لديهن موارد مالية، يمكنهن المساهمة بشكل كبير في العالم. يمكن أن تكون النساء المسنات قوةً من أجل الخير، فهن الجدّات الحكيمات، لقد قدمن الكثير لأبنائهن وأحفادهن، وفي سنوات حياتهن المتقدمة يملكن الحقَّ في البحث عن السعادة والإشباع. وأعتقد أنه يمكن تجربة الحبّ والفرح في أي عمر. لقد أتممت الثمانين في بداية شهر آب/أغسطس الماضي، ولا زال لدي نفس القدر من الطاقة والفضول الذي كان لدي قبل ثلاثين سنة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 12 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 18 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com