إلى أين يذهب كل هذا الحبر المُراق؟
سأل الكاتب الكبير نفسه.
مُلك سليمان الهائل، مُلك سليمان الموعود الذي طوى عليه كفّه لم يكن سوى قبضة ريح، تلك التي لم تقل شيئاً بالذات.
الزمن محدود والعمر قصير. الزمن شاسع، تحت مظلته العارية هو محض طفل وحيد ضائع. والناس عطشى لإيجاد كاتب كبير، ومنحِه ألفَ ولام التعريف. الألف في استقامتها رمح مغروس في الأرض، وباطن الَّلام تقويسة عرش شاغر. كلُّ فرقة لها مَلكُها المتوج تؤمن أنه الوحيد، أنه الأخير. تعجُّلُهم دائماً غير حقيقي، تعجّلٌ لفرحهم الخاص. أما من أجلسوه على لام العرش وغرسوا رمحَ الألف باسمه فلا يكترثون لأمره. ما يهم الجماهير حقاً هو المواكب.
من أين تأتي صفة الكاتب الكبير؟ قطعاً ليس من تهليل الجماهير، لأن تلك الصفة تحديداً عليها أن تكون نابعة من الداخل، تعكس وجهاً مشعاً بالثقة والطمأنينة بلا تكلف، لأن مردّها الإيمان؛ لا ما تمّ تحطيمه واستُبدل بإنكار هائل وغضب مكبوت.
كل ما يحتاجه أي شخص ليصير واحداً منا هو إبرام عقد جديد مع الحياة، خال من الصراخ، أكذوبة الحقيقة، الذنوب. يصيغ بنفسه كلّ بنوده، هو طرفه الأول والثاني، وشاهده المؤتمن؛ عقد بإمكانه دائماً خرق بنوده
يعلم الكاتب الكبير أن السير بجسد واحد في اتجاهين متعاكسين -نرجسية الزاهد والتواضع المزيف لطماع يتربص، أو الاقتناص الشهواني لكل ما تعرضه اللحظة والأمل في الخلود- لا ينتج عنه إلا أحد خيارين:
1- مزق إلى نصفين ينشطران بدورهما إلى أنصاف، ثم إلى أجزاء أصغر فأصغر، ثم إلى غبار يتلاشى.
2- الوقوف في المكان بقناع الكاتب الكبير، بعينين حكميتين. أما قلبه، فقداحة لا تكف عن إطلاق الشرر.
ذلك القناع يعني محاكاةً بدوام كامل، عبئاً لا سبيل له بتحمله، يرزح تحته، يتوسل الانهيار، لن ترصده عيناك إلا سريعاً في لمحة مستغيثة، تبغي أخيراً لو تحررت من هذا الدور، من كاريكاتير الجدية والحكمة واليقين؛ السمو فوق الصغائر؛ هوس منح النصيحة؛ الاستهانة والكبرياء.
الكبرياء ليس وجهه، بل قناع كلسه الزمن، في مقايضة مع الشيطان يطرد بها الشياطين، ويرهب السفهاء وينذر المتجبرين. يجبرهم على احترام ما يفعل، يوحي لهم بجملة أفعال متوعدة لا يستطيع الإتيان بها في الحقيقة، فيلزمهم الحدود، فلا يخترقون هشاشته أو يربكون اعتزازه بذاته أو شكه بها.
التهم القناع الوجه والروح والمخيلة، نذرهم للجحيم، وأعلن نفسه وجهاً وروحاً ومخيلة.
إيماءة واحدة تنفلت. تصبح كعود ثقاب يضيء لك كنهَ تلك العتمة، لتكتشف الروح الغارقة في وحل يأسها العميق.
في تلك اللحظة العابرة، إذا ما انتبهنا، يمكن لنا أن نلمح كاتباً كبيراً حقاً، تمّ وأده تحت قناع الكاتب الكبير.
**
الاسم هو الفخ الذي ننصبه لأنفسنا كي نظن أن الخلود حق.
الاسم هو الفخ الذي ننصبه لأنفسنا كي نظن أن الخلود حق
من أجل أن يبقيه مشتعلاً في الذاكرة ارتكب كلَّ حماقة ممكنة، وكي يحميه من النسيان لم يتوان عن ربطه بالقدرة على الكي، بالعنف، بالجروح التي نشبتها أظافره في أجساد الآخرين وأرواحهم. لم يفرق في ذلك بين أحبائه وأعدائه، خلود قام على الأذى، الدم، مشيد من ألف كذبة.
لكن ما الحقيقة سوى تراكمات صغيرة من الأكاذيب، حصون وحوائط عالية من نسيج عنكبوت تصلبت كفولاذ سجن، لذا فالسبيل الوحيد للطمأنينة هو أن نرعى خوفاً أبدياً، أن نحميه بأنفسنا من الانكشاف والتبدد. ألا يجد المرء عزاءه في مجموع أوهامه؟
وما الكذب سوى الطريقة الوحيدة التي امتلكها كي يخترق سياجَ الاحتمال الوحيد المفروض. عبره اتسعت المسافة وامتلك الأمل. سوء السمعة الملتصق بالكذب جاء من استعمال الجبناء الجائر له، يكذبون بألسنة مشنوقة بذنب الصدق، تأكلهم الحيرة، وتفضحهم أعينهم عندما تزيغ عن المواجهة.
الشجعان فقط، سادة مصائرهم، هم من يحملونه إلى آفاق جديدة، يعيدون اكتشاف جوهره، وينحتون به أصناماً أخرى للحقيقة، ليعبدها الجبناء، يتقاتلون أسفل أقدامها الرخامية، يقسمون أنها القول الأخير، الفصل، الصادق، الذي من أجله سينحرون الكذابين بأريحية ويقين المطمئن، وللمفارقة، حينها فقط يتمكن الجبناء من ارتداء أثواب الشجاعة، كملوك عراة.
يقول الكاتب الكبير: نحن الكذبة الحق، صنعنا ما يوجد عليه العالم.
نفعلها بلسان لا يرتعش وعين ثابتة، ووجه ينطق بالحياة. كذبتنا هي الحقيقة الوحيدة، وإن لم تكن، فهي ما يرغب بها الناس، فهي المفضلة لديهم، لقد انتزعناها من محياهم المكشوف، من أعمق رغباتهم، شكلناها من ذعرهم ولهفتهم على ألا يلتهمهم حريق الحقيقة، لأننا ببساطة وعلى عكسهم، لا نخشى الحرائق.
كل ما يحتاجه أي شخص ليصير واحداً منا هو إبرام عقد جديد مع الحياة، خال من الصراخ، أكذوبة الحقيقة، الذنوب. يصيغ بنفسه كلّ بنوده، هو طرفه الأول والثاني، وشاهده المؤتمن؛ عقد بإمكانه دائماً خرق بنوده.
السبيل الوحيد لكاتب كي يلقى الشهرة هو أن يُسلع، أن يصير ماركة، براند، شارة تسمح للجاهل أن يضعها كعلامة ثقافة، فما المفر؟
**
السبيل الوحيد لكاتب كي يلقى الشهرة هو أن يُسلع، أن يصير ماركة، براند، شارة تسمح للجاهل أن يضعها كعلامة ثقافة، فما المف
كُرس نجيب محفوظ مثلاً عبر تحويله إلى جحا، صاحب العظة، النكتة، النادرة، الحكمة، إجابات كل الأسئلة، حامل كلِّ العبارات التي قالها ولم يقلها. نصائح للكتاب القابعين بين سطوة الدونية والعظمة المتخيلة لطريق آخره نوبل. بجمعه بين النقيضين، بدمجه مع الكلام المبتذل، رفعة الأدب وكتاب أفضل مئة جملة غرام.
خلود يتكرس بالعظمة والمهزلة.
**
الذي أغمض عينيه لدقائق، ليعض على صورة شبحية للمستقبل، شاحذاً طاقته وتركيزه كصراط مستقيم لخنجر، الذي لون عالمه -بعد عشرين، ثلاثين، أربعين عاماً- وكدسه بتفاصيل دقيقة، للمحبة، بالأوسمة، التصفيق، الثراء، ربما الخلود، الحق في الكسل، جسد رياضي، عمر طويل، أو أحفاد رائعين، إجازة شيخوخة في جزيرة. هو كأي شخص حالم، مشروعيته البراءة.
هؤلاء، حين تنفتح أعينهم –عنوة- على الهوة بين المثال والممكن، لن يدفعوا ثمن ذلك أبداً، بل نحن. هؤلاء الحالمون، البريئون، شديدو اللطف والكبرياء، المسممون بالأمل... خطيرون جداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...