شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"يشمّون فمَكِ خشيةَ أن تكوني قلتِ: أحبّك".... تاريخ الرقابة في إيران

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 4 سبتمبر 202202:42 م

"يشمّون فمَكِ خشيةَ أن تكوني قلتِ: أحبّك... إنه زمن غريب يا عزيزتي!" (الشاعر الإيراني أحمد شاملو)


الکلمات تصبّ من القلم. شعور غریب، ولکنه مألوف یُشلّ أصابعي ویمنعها ‏من الکتابة، یتراجع القلم وتبقی الأوراق ناصعة البیاض. یتراجع جیش الکلمات ‏وینحبس في فراغ ضبابي.

خوف ما یرافق الکتاب والصحافیين في إیران، یتغلغل في ‏قوة تفکیر الکتاب والشعراء والصحافيين بسبب عبء التعتیم, هذا الدیکتاتور المدمر ‏للفکر، والذي یفرض علی الکتّاب الرقابة الذاتیة بوعي أو دون وعي, لأن الکتّاب ‏منذ شروعهم في الكتابة یفکرون بالرخصة التي یأملون الحصول علیها ، عارفين جیداً أنه لا ‏یمکنهم کتابة کل ما یرون، وکل ما یریدون، وکل ما یدور في مخیلتهم، وکل ما یتمنون، ‏فقبل البدء یبدأون بالتساؤل: أي کلمة أستخدم وأي صورة أعرض؟ ولکن ماذا عن ‏الفکر؟ هل یمکن تطبیعه کالکلمات؟

أمل یمتد لأکثر من 150 عاماً

هل یعقل أن طباعة کتاب في العام 2022 لا یزال بحاجة إلی ترخیص؟ نعم. ‏لا یزال الأمر کذلك في الدولة المصنفة 178 من حیث حریة الإعلام من أصل ‏‏180 دولة.‏

"إنما أخشی الموت في بلاد تزید فیها أجرة الدفان علی ثمن حریة البشر"... الشاعر الإيراني أحمد شاملو

تردي مرتبة الدولة لم یحصل بين لیلة وضحاها، بل له تأریخ امتد لـ150 عاماً، ‏‏فـ"میهَن" هي أول جریدة حُظر نشرها بعد أول عدد صدر منها في التاسع من محرم ‏‏1293هـ، بسبب مخالفتها لرؤیة الملک ناصرالدین شاه القاجاري.

وفي عام 1884م، قرر الملك القاجاري ‏ناصرالدین شاه تأسیس "دائرة الرقابة" ضمن وزارة "الانطباعات" (المسئولة ‏عن النشر والصحافة) وذلك بعد قراءته لکتاب تضمن إساءة لرجال الحکم فی ‏إیران.‏

بعد انتصار الثورة الدستورية في إيران (الثورة المطالبة بنظام الملکیة الدستوریة) في ‏‏1906، أضاف أعضاء الهیئة الدستوریة وکان ضمنهم صحفیون سابقون ‏المادة الـ13 للدستور الذي ضمنت حریة التعبیر والکتابة وحریة الصحافة في ‏الدولة، وبهذا التأسیس الجدید بدأ ربیع الصحافة فی إیران.‏

لم یستمر الربیع کثیراً، حیث تم تغییر القانون بعد تولي محمد علي شاه القاجاري ‏لسدة الحکم، وبدأ تشدید الرقابة علی الصحافة وحظر بعض الجرائد بذریعة ‏الإساءة لنظام السلطنة أو الکشف عن المشاریع العسکریة أو تهدید الأمن العام.‏

وبعد سقوط النظام القاجاری ومسك الأسرة البهلویة بسدة الحکم فی إیران شهد ‏قطاع الصحافة مزیداً من التشدید والرقابة، حیث تم في الثالث من تموز/یولیو 1924 ‏إعدام الشاعر والصحفی الشهیر میرْزاده عشقي علی ید دائرة الأمن التابعة ‏للشرطة.‏

وقامت حکومة رضا شاه البهلوی بسلسلة قمعٍ واسع للجرائد وحبس الصحافیین ثم ‏قتلهم في السجن.‏

هل یعقل أن طباعة کتاب في العام 2022 لا یزال بحاجة إلی ترخیص؟ نعم. ‏لایزال الأمر کذلك في إيران، الدولة المصنفة 178 من حیث حریة الإعلام من أصل ‏‏180 دولة

بعد عزل رضا شاه أثناء الحرب العالمیة الثانیة، وتولي نجله محمد رضا شاه ‏البهلوی للعرش بدأ الکفاح السیاسي یأتي بثماره في مجال الصحافة والجرائد ‏وکسب مکانة للصحافیین. وتمیزت الساحة الإیرانیة في العقد الثانی من القرن العشرين بالتعددیة الفکریة والسیاسیة والاجتماعیة التي أصبحت تسود المناخ ‏الصحافي علی مستوی الدولة، کما أنشئت في الفترة نفسها مؤسسات وجمعیات في ‏هذا المجال، وفي تموز/یولیو 1946 تم تأسیس أول مؤتمر للکتاب الإیرانیین الذي کان ‏یعتبر القمع والرقابة سببین رئیسیین في کبت الأدب والصحافة فی إیران.‏

بعد انقلاب 1953 اشتدت الرقابة وتعتیم الصحافة حتی وضع 1955 قانون ‏الصحافة الجدید الذي أعطی صلاحیة الإشراف علی الصحف إلی وزارة الدولة ‏ولجنة الصحافة.‏

وشهد العام نفسه تأسیس الـ"سافاك" (منظمة استخبارات وأمن الدولة) حیث ‏تحولت إلیه صلاحیة الرقابة علی الصحف حیث تم حظر استخدام بعض المفردات ‏منها "لاله" (نوع من الأزهار وترمز إلی الشهداء)، و"اللیل" و"الشتاء" و"الوردة ‏الحمراء" و"البولیس" و"الرفیق".‏

علی الرغم من انضمام نقابة الصحافیین التي تأسست عام 1968 إلی الثورة الإسلامية (1979)، والذي ‏لعب دوراً مهماً فی انتصارها، إلا أن کابوس الرقابة لم ينته بعد ‏انتصار الثورة

وعلی الرغم من انضمام نقابة الصحافیین التي تأسست عام 1968 إلی الثورة الإسلامية (1979)، والذي ‏لعب دوراً مهماً فی انتصارها، إلا أن کابوس الرقابة لم ينته بعد ‏انتصار الثورة.‏

حظر دستور الجمهوریة الإسلامیة الرقابةَ في صیف 1979 أي ‏في العام الذي انتصرت فیه الثورة الإسلامیة، بينما تم حظر 41 جریدة وصحیفة، كما تم ‏هدم المکتبات، ثم بدأ إغلاق الجامعات، ووقف عملها، وتصفیة أساتذتها بحجة ما ‏سمّي بـ"الثورة الثقافیة". وعقب ذلك هاجر معظم الکتّاب والفنانین المعارضین إلى خارج إيران، ومن لم یهاجر ‏ألقي في السجن، حیث تم إعدام البعض منهم، ومن ضمنهم الشاعر وکاتب ‏السیناریو خُسرو گُلسُرخي الذي لم تحصل کتاباته علی ترخیص في عهد ‏الشاه. أيضاً.

بعد فوز الرئیس الإصلاحي محمد خاتَمي في 1997، بدأت ملامح الانفتاح تظهر في ‏الساحة الإیرانیة، ولکن القتل الممنهج للکتّاب والمترجمین الذي اشتهر بظاهرة "القتل المتسلسل" قضی علی ما کان مأمولاً من حکومة تیار ‏الإصلاحات.‏

وفي 2012 بمناسبة الیوم العالمي لمکافحة الرقابة أصدرت نقابة الکتاّب ‏الإیرانیین بیاناً طالبت فیه بالإلغاء الفوري والسریع لإجراءات ترخیص الکتب ‏وطباعتها مؤکدة:  "في الحقیقة هذا النهج یعني حبس حریة التعبیر والإبداع، فمعیشة الکتّاب رهینة من أجل فرض الحکومة توجهاتِها علی الکتّاب، وإنه سلاح ‏الحکومة للتمییز بین الکتّاب وفرض الرقابة الذاتیة علیهم، كما أنه أداة لتدخل ‏الحکومة في مجال الأدب والفن والفکر".‏

ولم تتفوه الحکومة بردّ علی البیان، إلا أنها صاعدت في فرض القیود علی الشعراء ‏والکتّاب، وسجنهم بتُهم واهیة، وکان آخر ضحایا هذا النهج الشاعر والمخرج بَکتاش آبتین، أحد ‏أعضاء نقابة الکتّاب الذي لم یمرّ علی وفاته في السجن عام واحد.‏

من يحذّر جرسُ الإنذار؟

لایوجد نص قانونی یحدد الرقابة، ولذلك يبقى الکتّاب الإیرانیون يعانون دائماً من تدخل ‏الأغراض الشخصیة في تقییم أعماله. قام الباحث الاجتماعي أحمد ‏رجب زاده عام 1996 بدراسة ألف و 400 وثیقة وکتاب مما لم تحصل علی ترخیص من ‏مؤسسات الرقابة، ونشر البحث في کتاب بعنوان "تقییم الکتب". جاء في هذا الكتاب: "من ‏المفردات التي لم تتجاوز حصن الرقابة هي: عاشق، فاتنة، قُبلة، نبيذ، ‏فقر، أفیون، نظرة نقدیة تجاه الوضع الموجود، الشؤون الجنسیة، العلاقة بین ‏الطبیب والمریض".‏

لم یبق أمام الکتّاب الإیرانيين سوی الحلول التالیة لیستطیعوا طباعة کتبهم في الداخل: أن یراقبوا نصوصهم من الألف إلی الیاء شخصیاً، أو ألا یکترثوا للمخاوف، أو أن یعملوا علی التعاقد مع دور نشر ‏خارج إيران، أو أن یغضوا النظر عن الکتابة نهائياً

ولدی دراسته الکتب التي تناولها في بحثه یقول رجب زاده إن المراقب قد طلب من طبیب ‏مؤلف لکتاب في الطب أن یسجل شریانیین للقلب ولیس أربعة! ويذكر رجب زاده‏‏: "بحسب التقاریر والملاحظات التي سجلها المفتشون، والأمور التي کانت في حیز ‏اهتمامهم، بدوا أنهم یفتقرون لمستوی علمي ودراسي وأکادیمی یؤهلهم لتقییم ‏الأعمال والکتابات التي تشکل إرثاً ثقافیاً".‏

ونشر أحد المترجمین مدخلاً کان ینوی نشره في کتابه إلا أنه الرقيب علق عليه:" نأمل أن تؤدي ترجمة الکتاب إلى التعریف بتعالیم الفکر النسوي للباحثین، ‏والتمهید لنقد هذا التوجه الفلسفي الخاطئ"، فرد المترجم في تغریدة: "آمال ‏المترجمين أیضاً بحاجة إلی إصلاح".‏

التحليق فوق عش الحمامة

لم یبقی أمام الکاتب الإیرانی سوی الحلول التالیة لیستطیع طباعة کتابه في الداخل، ‏وهي أن یراقب نصه من الألف إلی الیاء شخصیاً، أو لا یکترث لمخاوفه ‏ویکتب دون قلق، وفي هذه الحالة علیه أن ینتظر تدخل وزارة الثقافة والإرشاد ‏الإسلامیین فی نصه وتنقیته، ثم یقرر ما إذا کان یرید إصداره بصيغته الجدیدة، أو ‏نشره عبر الإنترنت وغض النظر عن الإیرادات المالیة.

والسبیل الثالث هو أن ‏یغض النظر عن إصدار کتابه في الداخل وأن یعمل علی التعاقد مع دار نشر في ‏خارج إيران، أي أن یقوم بإصدار کتابه خارج إطار الدولة، وفي هذه الحالة سیکون مصیره ‏مجهولاً بین الموت والأجهزة الأمنیة، وهذا ما حصل للكاتب ستّار بِهِشتي، الشاب الذي ‏کانت لدیه مدونة إلکترونیة، وقُتل تحت التعذیب في شباط/نوفمبر 2012.‏

السبیل الآخر هو أن ي/تخرج الكاتب/ة بکتاباته/ا إلی الخارج، وفي مثل هذه الحالة إما سیصبحون ‏منسیين أو أنهم سیجدون أنفسهم محطمي القلب والمشاعر، وأما السبیل الأخیر والذي یبدو ‏غایة الحکومة، فهو أن یغضوا النظر عن الکتابة وأن یخرجوا من ساحة الکتابة ‏بخوف یهیمن علی أفكارهم وتلّ من الکلمات المجهضة.‏


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image