نضطر غالباً، خلال محاولة تسيير معاملاتنا الرسمية، إلى دفع الرشاوى أو بناء "علاقات" مع العاملين في مؤسسات القطاع العام، أو شراء طوابع من السوق السوداء. نغضّ الطرف عن التجاوزات اللا أخلاقية التي نسمح لأنفسنا بها، لامتلاك وثائق تثبت "انتماءنا". ومن أحدث متطلبات الدولة أن نضطر أيضاً إلى الالتزام بلباس معيّن لنثبت أحقيتنا بحمل بطاقة هوية، أو نُجبَر على تحمّل عبء توسّل أوراق قانونية إضافية لا يُلزَم بها سائر المواطنين.
قبل فترة، طلبت مني جارتي مرافقتها لتنجز هويةً لها ولابنيها. بعد معاناة مريرة من جباية الأوراق المطلوبة وإجراء فحوصات الدم وإنجاز الصور، وهي مستندات تُطلب من كل شخص يريد الحصول على هوية، تفاجأنا بطلب إضافي مطلوب حصراً من الدروز الملتزمين دينياً، الذين يريدون أن تحمل هوياتهم صورةً لهم بلباسهم الديني.
تبيّن أن الأوراق التي يجب الاستحصال عليها تتضمن ورقةً من "المجلس"، وهو مكان لدى الطائفة الدرزية مخصص للعبادة، تثبت أن جارتي، التي تلبس الزي الدرزي التقليدي، شيخة، كما يجب أن تقدّم صورةً شمسيةً إلى مشيخة العقل، وهي مؤسسة تمثل المرجع الديني الأعلى للطائفة، أو إلى أحد ممثليها في المنطقة ليختمها بختم خاص بالمؤسسة، فضلاً عن صورة أخرى لجارتي يختمها المختار، وكأن المؤسسة تقدّم نفسها ويُنظر إليها كالمختار أو الوصي الخاص على المشايخ.
المجلس قد يمتنع عن إعطاء الورقة لطالبها، إن لم يرضَ عنه سائس المجلس، وهو المسؤول الذي له صلاحية تسليم الدين لطالبه وحرمان المخطئ منه
المفارقة أن المجلس قد يمتنع عن إعطاء الورقة لطالبها، إن لم يرضَ عنه سائس المجلس، وهو المسؤول الذي له صلاحية تسليم الدين لطالبه وحرمان المخطئ منه. والمفارقة الأكبر هي غياب آلية تراقب عمل السائس وتمنعه من إعطاء هذه الورقة لغير الملتزمين، فتبقى آلية الطلب والعطاء سرّيةً بين الطالب والمانح.
صدر قانون في عام 2018، يقضي بالسماح للمشايخ بالحصول على هوية بصورتهم وهم بلباسهم الديني. ويفترض أن تكون هذه القوانين قد وُضعت قبل إجراء الانتخابات النيابية سنة 2018، ليتسنّى للمشايخ والشيخات التصويت. هكذا، أعطيت الشيخة شبه حق في ممارسة حقوقها السياسية المقتصرة على التصويت تحت شرط موافقة الزوج والسائس والممثل عن شيخ العقل في المنطقة التي تقطنها الشيخة، والذي قد لا يعرف صاحبة الهوية بسبب سياسات تمنع اختلاط الجنسين بالطائفة.
وفي حال غياب أي من هذه الأوراق، الحل بسيط بالنسبة إلى الموظف في مكتب إصدار الهويات: "احصلي على صور أخرى بلا منديل لتوضع على الهوية". قال الجملة الأخيرة كأنه يلقي علينا التحية. قالها كأنها أمر طبيعي. كأن خلع المنديل يساوي تغيير إسوارة، أو خلع قبعة béret من على الرأس. قالها كأن المنديل للشيخات كأي قطعة ثياب، وليس خياراً شخصياً بالتدين، وهو أيضاً في مجتمع مغلق كمجتمع الموحدين، معيار يقاس عليه الإيمان، أو لباس قد تتعرض النساء للتنمر والإقصاء إن خلعنه.
تصوروا شيخةً تُطلب منها هويتها، فتعطيها لطالبها فيراها بلا منديل. هذا بمثابة منع المحجبات من ارتداء الحجاب على بطاقة الهوية، علماً أن المحجبات لا تُطلب منهن أوراق إضافية ليتمكنّ من وضع صورتهن بحجاب على الهوية، كما أن رجال الدين، لا يطلبون إذناً ليتصوروا بلباسهم الديني، إذ يلبس رجال الدين الدروز قبعةً تُسمى "القلوسة"، وبعضهم يضع اللفة، وهذا بحسب درجاتهم الدينية.
إمضاء الأم على طلب هوية لأولادها لا ينفع، كما لا ينفع إمضاؤها على طلب هوية لها إن لم يرفَق بختم شيخ العقل. كأن سلطة الأب في العائلة هي امتداد لسلطة رجل الدين في المجتمع
قبل فرض هذه التدابير، كان ممنوعاً على الشيخات حمل بطاقة هوية لوجوب إظهار الوجه بأكمله في الصورة، كما هي المعايير الدولية المعمول بها. لكن الرجال حملوا هويات بصورهم بلا القبعة، لأن خلعها مقبول اجتماعياً، بعكس النساء. لذا، أُجبرت النساء على الاستعاضة عن الهوية بتذكرة أو إخراج قيد إفرادي ينتهي تاريخ صلاحيته بعد بضعة أشهر فقط، ويقيّد حاملته مقارنةً مع الهوية التي تطول مدة صلاحياتها، واستعمالاتها أوسع.
كان ممنوعاً على الشيخات حمل بطاقة هوية لوجوب إظهار الوجه بأكمله في الصورة، كما هي المعايير الدولية المعمول بها
مثلاً، لاستلام مبلغ من المال من أي شركة تحويل أموال على الأراضي اللبنانية، على المستلم أن يقدّم الهوية، لأن إخراج القيد لا يسعف في هذه الحالة، كذلك لمن يريد فتح حساب مصرفي، ما يؤدي إلى تبعية الشيخات الاقتصادية لأزواجهن. أما إخراج القيد، فيُستخدم في حالات معدودة لا سيما في الدوائر الرسمية والإدارات العامة.
بالعودة إلى نهاري مع جارتي في الدوائر الرسمية، وإبّان صفعة الرفض، أُجبرنا على جلب بقية الأوراق، بينما ننتظر صدور هويتين للأبناء القصّر ظناً منا أنه أمر مفروغ منه. ولمّا سألنا عن المدة التي تحتاجها كل هوية للصدور، أجابنا الموظف بالبلادة ذاتها: "أين الأب؟"، لنكتشف أن إمضاء الأم على طلب هوية لأولادها لا ينفع، كما لا ينفع إمضاؤها على طلب هوية لها إن لم يرفَق بختم شيخ العقل. كأن سلطة الأب في العائلة هي امتداد لسلطة رجل الدين في المجتمع.
الجدير بالذكر أن الدولة التي تضع النساء والرجال تحت رحمة السيّاس قد يستغلون مشكلات شخصية مع من يريدون التقديم على هوية ليمتنعوا عن إعطائهم الأوراق المطلوبة، أشرفت على إجراء انتخابات ليس في وسع أحد التصويت خلالها إلا إذا امتلك هويةً أو جواز سفر. لذا مُنعت النساء اللواتي لم يتمكنّ من استيفاء الأوراق المطلوبة من الانتخاب.
والأسوأ من كل ما سبق ذكره، هو التعتيم الإعلامي وغض النظر عن تحديات تواجه فئةً دون أخرى، وقوانين جائرة على مجموعة يُنظر إليها ككائن فضائي أُسقط على هذا المجتمع، وليست جزءاً منه. قلما نرى مشايخ، عدا شيخ العقل، على شاشة التلفزيون. قلما تعرف مكونات المجتمعات اللبنانية عن مشكلات تواجه الأقلية الدرزية.
هنا، يكمن حضور المناصرة إذا ما سنحت فرصة لنقل الصورة كما هي. وأقول نقل، لأنني أعي تقصير التمثيل السياسي بشقّيه الحزبي والديني، عن حل المشكلات، وأعي أيضاً تداعيات الظهور الإعلامي على العامة الذين يلبسون الزي الديني ويقررون الظهور به على شاشة التلفاز، أو حتى ارتداءه في مكان العمل، إن كان العمل في مؤسسة عامة، فيتلقى مرتدو الزي إنذاراً بالطرد قد يؤدي إلى خسارة الوظيفة.
لو قرر الأب ألا يحصل أطفاله على هويات لمُنعوا منها. ولو قرر السائس ألا تحصل جارتي الشيخة على هوية لمُنعت منها هي أيضاً. ما مشيخة العقل إلا صورة أخرى عن تسلل السلطة الدينية إلى كافة شؤوننا المدنية
هكذا، تضطر الشيخات، أكتب الكلمة مدركةً غرابة اللفظ، إلى تحمل عبء الانتظار في مبنى بعضه يتكئ على بعضه، ويتحملن شفقة الموظف الماكث داخل علبة كبريت تُسمى مكتباً ليتحقق من المعلومات، ويجزم: "مرفوضة من الوزارة/ مقبولة من الوزارة". ثم يرفع ضوء هاتفه ليصوّر "الزبائن" للهوية، فيحذّر ويبشّر مودعاً: "تحتاج إلى عشرة طوابع من فئة الألف ليرة، وهي مفقودة في السوق، لكنني سأدبّرها لك بثلاثة آلاف للطابع. لا أفعل ذلك عادةً. سأعدّ هذه المرة استثناءً".
غادرنا المكتب مع الموظف بعدما انتهى دوام عمله المؤلف من ساعات ثلاث، بحجة انقطاع الكهرباء، مدركين أن القانون ينص على وجوب تقديم طابعَين لا عشرة للهوية. التفتت إليّ الجارة المتوسلة أدنى حقوقها بعينين ناعستين، وسألتني: "قولك بلاها؟". هذه التعقيدات تدفع النساء عادةً إلى القبول بأنصاف الحلول وأنصاف الحقوق وكامل الاتّكال، إن لم يقبل زوجها توقيع ورقة الهوية، أو إن رفض السائس إعطاءها الورقة اللازمة، أو إن قررت مشيخة العقل إلغاء القرار، فتُمنع من حقوق اقتصادية وسياسية جمة.
تلت هذا النهار فترة إضرابات لموظفي القطاع العام، وتأخرت الهويات خمسة أشهر. خلال هذه الفترة، توالت زياراتنا إلى البلدية لنسأل عن الهويات: الحق البسيط بالوجود الذي أمسى معقداً. أفكر كيف أمكنها الحصول على الهويات؟ لأن زوجها والسائس وافقا على ذلك. ولو قرر الأب ألا يحصل أطفاله على هويات لمُنعوا منها. ولو قرر السائس ألا تحصل على هوية لمُنعت منها هي أيضاً. ما مشيخة العقل إلا صورة أخرى عن تسلل السلطة الدينية إلى كافة شؤوننا المدنية، كدار الفتوى والكنيسة والمجلس الإسلامي الشرعي. حالات بسيطة مثل هذه لا تبرهن تورط الجهات الدينية والمجتمع في التمييز الجنسي فحسب، لكنها أيضاً دليل على نظرة الدولة بجميع مؤسساتها إلى النساء: فاقدات الأهلية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم