شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
ذاك

ذاك "الصّبي" بـ"ابتسامة النائم"... الشاعر نوري الجرّاح

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 7 نوفمبر 202202:57 م

لمْ يَحطّ نوري الجراح في مكان منذ أن غادر دمشق مطلع الثمانينيات. صاحب ديوان "الصبي" (1982) مُهدّد دوماً بالسفر؛ بيروت، وقبرص، ولندن كلها مُدُنـه، يألفها وتألفه. مع ذلك حضوره فيها مؤقت. لا منزل له بعد أن حُرم من ذاك الذي ولد فيه. هو في ارتحال دائم. البيت، والخيمة، والجزيرة، والقارب كلها سواء أمام الجراح الذي ما زال يسكن شِعره ولو فقد كلَّ شيء. ربما تنطبق عليه القراءة المواربة لبيت أبي تمام الشهير، مهما تنقل الفؤاد. من يسكن "منزل" الشِعر، لا ترضيه جنةٌ أو جحيم أو جزيرة وسط البحر.

تجربة الجراح الشعريّة

يصعب اختزال تجربة الجراح الشعريّة ببضعة أسطر، كما يشقّ الحديث عن حياته المليئة بالترحال. يكتب الشعر منذ الثمانينيات، وتُرجمت دواوينه للعديد من اللغات، ولا يمكن مناقشة تجربته الشعرية بمقال. هو الذي صدر عنه العديد من الكتب والدراسات، منها للمثال لا الحصر، كتاب "ما الذي يحدث في حدائق هاملت" (2019) لـعبد القادر الجموسي، "القصيدة المعلقة" (2018) لمفيد نجم، "النزوع الدرامي في شعر نوري الجراح" (2019) لأيمن باي، ناهيك عن العديد من المختارات والمجامع التي أعدّها نقاد وباحثون عرب، آخرها طبعته الثانية العام الماضي، ونقصد المختارات التي أعدّها الناقد خلدون الشمعة تحت عنوان "رسائل أوديسيوس".

يحضر الجراح في كتبه بوصفه شاعراً حريصاً على رحلة قصيدته. ولا نقصد هنا البحث عنه نقدياً وبلاغياً في قصائد "قارب إلى ليسبوس"، أو "لا حرب في طروادة" أو "كأس سوداء"، أو "طريق دمشق"، أو "يأس نوح"، بل نشير إلى العلامات التي توضح علاقة الجراح مع شعره، وأسلوب تقديمه للقراء، وتعامله مع "مجموع" أعماله، إذ صدر مؤخراً للشاعر "ابتسامة النائم"، أنطولوجيا شعرية بـ200 صفحة عن دار أكت سود الفرنسية، وتحتوي على قصائد مُختارة من شعره ترجمها أنطون جوكي، وتغطي عدة مراحل من تجربته.

أصدرت دار أكت سود الفرنسية العريقة الأنطولوجيا الشعرية "ابتسامة النائم" للشاعر السوري نوري جراح، تحتوي على قصائد مُختارة من شعره، وتغطي عدة مراحل من تجربته

استخدام لفظ مُختارة أو مُنتخبة لوصف القصائد، لا يحيل إلى المبنيّ لمجهول، فالكتاب يشير إلى أن الجراح نفسه هو من قام باختيار القصائد وترتيبها؛ قصائد مكتوبة منذ عام 1988 أي ديوان "مجاراة الصوت" حتى عام 2019 "لا حرب في طروادة-كلمات هوميروس الأخيرة"، يمكن ضمنها رصد الحدث الجلل الذي شهده نوري الجراح، المتمثل بالثورة السورية المندلعة منذ عام 2011، والتي تحضر بشدة في قصائده، إذ نتلمس صوت "سافو"، شاعرة ليسبوس التي تنادي من منفاها في صقلية صبايا وفتيانَ سوريا الهاربين من ويلات الحرب إلى جزيرتها. تخاطب جمالهم المغدور بعاطفةِ أمٍّ، كما لو كانوا أبناءها، إذ تقول (على لسان الشاعر): "تعالوا لأقبّل خدودكم المتوردة من الجزع".

أما صاحب "الصبي" نفسه، فما زال ممنوعاً عن مدينته. في رحلته إلى اليونان يقف الجراح أمام البحر، يتأمل ما لا يراه، يستحضر ذاكرةً عن مدينة حُرم منها، لكنه مهما ارتحل، نراه يقف دوماً على أعتابها. هو نفسه الذي كتب: "لمْ أكنْ في دمشق عندما جاءَ الزلزل/لمْ أكنْ في جبلٍ ولَمْ أكنْ في سهلٍ/عندما ترجَّفَت الأرضُ وتشقّقت صورٌ هي والهواء/كانت يدي الهامدة/ تنبضُ/في أرضٍ أُخرى..."، ليتابع قائلاً: "والآن،/من آخرِ الأَرض/أَسْمَعُ الساقيةَ تنتحبُ في البستان/والهواءَ يَصِفُ للجبل".

العلامة التي تشير إلى أن الجراح هو من اختار القصائد، لا تقف عند الأنطولوجيا الفرنسية، إذ شهد هذا العام صدور الجزء الثالث من الأعمال الكاملة لنوري الجراح عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (صدر الجزءان الأول والثاني عام 2008). المفارقة أن أعمال الجراح الكاملة تصدر بمقدمة موقعة بقلم الشاعر نفسه، على العكس من الأعمال الكاملة لغيره من الشعراء (علي محمود خضر قدّم لأعمال بسام حجار، صبحي حديدي قدّم لسليم بركات، إلخ)، وعادة ما تكون هذه المقدمات، إضاءةً على حياة الشاعر، والجماليات التي تبناها، ومحاولةً لقراءة تجربته كـ"كلّ". هي مفاتيح يمكن عبرها قراءة هذا "الكلّ"، لكن الجراح يتجاوز كل ذلك، ويطرح في مقدمته سؤالاً إشكالياً: "هل يحق للشاعر أن يتكلم عن شعره؟".

يشير الجراح إلى أن تقديم الشاعر لقصائده إشكالي. فهل هذا التقديم إقرار بعجز لغة الشاعر عن الإفصاح عن نفسها وعن الشاعر في لغة القصيدة؟ وهل هجرانه لغةَ الشعر ليتلصص على ذاته، و"يكتبها"، يعني أن الشعر لا يمثّل كل صوته؟ ليظهر لاحقاً على لسان الجراح سؤال يعمق المشكلة :"هل أستطيع أن أتكلم عن نفسي دون أن أقع في فخِّ الانتماء إليها بصورة صارخة، دون أن أتشرنق وأتوارى حيث يبدأ الْوُجُود، وينتهي في شخص واحد؟ فلأجرب إذن طريقة أخرى، ولتكن رحلة بين مجهول النَّفْس وشمس الورق؟".

انشغالات الشاعر في بحثه عن معنى

تكشف المقدمة عن السبب الجوهري الذي حمل الشاعر على هذا الخيار. هي ليست توطئة بالمعنى التقليدي، بل مانيفستو شعريّ سعى الجراحُ من خلاله إلى تقديم مفهومه للشعر، ورؤيته لعلاقة الشاعر بصنيعه الشعري. كأنه لا يريد أن ترتبط تجربته الشعرية بقراءة تؤطرها، وتقفل عليها أبوابَ قراءات أخرى. هذه المقدمة/المانيفستو بمثابة عمل خارج على كل يقين، فثمة تساؤلات وشكٍّ في تأملات الشاعر، وهذا كله محمول على وعي حادّ بحركية الأشياء في الشعر وزوغانها ومواربتها، إذ يطرح الفكرة واحتمالاتها، والفكرة ونقيضها، والفكرة وظلالها. هي أيضاً مقدمة تعبر عن انشغالات الشاعر في بحثه عن معنى الشعر ومعنى الوجود نفسه في الزمن الشعري، ولا سبيل عنده لمعرفة ماهية الشعر من دون أن يخوض في السؤال عن ماهية الشاعر.

يبحث الجراح عن مصادر النعمة الشعرية، معرفاً القصيدة بوصفها تلك "الهبة الشقية"، مغامراً في تقديم تعريفات متعددة للشاعر وولاداته ولصنيعه الشعري ومزاجه المتقلب وميوله الجمالية، إذ يقول :"يُوْلَدُ الشَّاعِر وفي روحه تسري محبتان: محبة الحُبّ كجوهرٍ لا يموت، ومحبة المحبوب كشخصٍ ميت. من ألم الإدراك يَتَخَلَّقُ الشِّعْر، ومن علاقات الفاني بالخالد تنسجُ الموهبةُ فلَكَها في شاعِر".

يوصي نوري الجراح قرّاءه بأن يأخذوا القصيدة ويتركوا الشاعر 

يضيف: "يولد الشَّاعِر انتحارياً، ويولد منتحراً. إنه كشاف غوامض، وغوّاص في وجود يظلّ مجهولاً وعصياً على الكشف. وهو في غوصه يندفع في مغامرة تأخذ شطر الخطر، وتهدد باللاعودة". ويستطرد قائلاً :"يُولَدُ الشَّاعِر مراراً. في كل قَصِيْدَة لهُ مَوْلِدٌ. وفي كلِّ مولد له روح جديدة يهددها الموت. والقصيدة التي لا تختلف عن غيرها من قَصَائِد الشَّاعِر تنذر بموت روح من أرواحه".

يخلص الجراح إلى أن "ثمة بُعْدٌ قَصِيٌّ في نفس الشَّاعِر. أصوات تُهَوِّمُ وتناديه، كمثل أصوات حوريات البحر عند هومير اللواتي نادين أوديسيوس، ولم يكن في وسعه الفكاك من سحر أصواتهن". فالقصيدة في تعريف الشاعر تبدو كما لو أنها الدليل الوحيد على عودة الشاعر من مغامرة قاتلة.

حضور الجراح في مجاميع أعماله "الكليّة" مثير للاهتمام، وكأنه -كما يتساءل سابقاً-، يتيح للشاعر/لنفسه أن يأخذ مسافة من تجربته، يرتبها ويصوغها ويقدمها للقارئ، ذاك الذي يترك له الشاعر وصيّةً ،"خذ القصيدة واترك الشاعر". وهنا الملفت، فالجراح نفسه في حضوره هذا يترك "الشاعر" ويتحول إلى قارئ، لكن هذا القارئ يمتلك ما لا يمتلكه قارئ آخر، ألا وهو سلطة على النصوص فرادى ومجتمعةً، وكأنه بعد الانتهاء من عملية "القراءة" هذه، وأمام الطبعة النهائية يقول هذه هي القصائد، رتبها أمهر من يستطيع ادعاء ملكيتها، أي صاحبها نفسه. بعد ذلك، يفقد الشاعر السلطة، ليعود مسافراً، غريباً في العالم وغريباً عن نفسه، شاعراً.

الملفت أن الأنطولوجيا الفرنسية لا تحتوي مقدمة، لا من الشاعر، ولا من المترجم. هناك كلمة الناشر فاروق مردم بك، المشرف على مجموعة "سندباد" التي تصدر عن أكت/سود، على الغلاف الخلفي للكتاب، ويصف فيها الجراح كـ"واحد من أندر الشعراء العرب الأحياء لكونه زاوج بين الملحمية والغنائية".

صفة "الحي" هنا يمكن الوقوف عندها؛ أصحاب الملاحم متعددو الأصوات، (أحدهم نوري الجراح)، يناقضون مفهوم الشعر الحديث، الذي يغرق حسب رأي الكثيرين، إما في اليوميّة والمتداول، أو الذاتيّ الذي ينفخ بالأنا حدّ الألوهة، لكن الشاعر الملحميّ-الحيّ، يكتب بصوت ترددت في جنباته أصواتُ الآخرين. لا وجه واضح لنوري الجراح في قصيدته، هو الصبي، والطفل الغارق في المتوسط، وأدوسيوس، وتليماخوس، وهو نوح الذي يئس، وهاملت المغدور، وهو الأم الثكلى، والمحارب الهائم، وبنلوبي الخائبة، والمسافر بلا عودة.

يولد الشَّاعِر انتحارياً، ويولد منتحراً. إنه كشاف غوامض، وغوّاص في وجود يظل مجهولاً وعصياً على الكشف. وهو في غوصه يندفع في مغامرة تأخذ شطر الخطر، وتهدد باللاعودة... نوري الجراح

لا ترتبط "حياة" الشاعر بالمعنى المادي للكلمة، بل بحياواته المجازية المتعددة في قصائده، تلك التي ينفي فيها نفسه ليستحضر الآخر/الآخرين، وكأن الشاعر هنا جمهرة تطفو على أديم البحر الأبيض المتوسط، حشدٌ ينطق في كلّ قصيدة. فالشاعر حارس أصوات الكثرة. وهنا يمكن التأوّل على حضور الجراح في أعماله الكاملة، والقول إنه مرتبط بشخص الشاعر كمفهوم وفكرة متحولين وزائغين، حتى أن القصيدة نفسها ككينونة مستقلة، سرعان ما يحررها الشاعر من أسر اسمِه، إذ يقول: "خذ القصيدة، واترك الشاعر" .

لا يحتكر الجراح "قراءة" ما يكتب، ولا يشرحه، وكأنه يسعى إلى تحرير قصيدته من كل قراءة آسرة، حتى لو كانت قراءته نفسها. القصيدة في مفهومه للشعر ليست مُلكه، ويقولها بوضوح: "مهمة الشاعر تنتهي مع السطر الأخير في قصيدته". ويمكن القول إن الجراح، واحد من آخر حراس الملاحم، وهذا ما يفسر (ولو تحذلقنا هنا) حضوره في مجاميع أعماله، يرافق قصيدته و"الشاعر" إلى آخر عتبة قبل أن يفقد الملكية ويغترب، كمن يحمل صوتاً يحرص على أن يصل به إلى القارئ، الذي يخاطبه قائلاً: "سأقول كُفَّ عن تذكّر اسمي، وانسَ أنك عرفت هذا الاسم، انْسَ وجودي لأتمكن، أنا أيضاً من نسيانه، لأتمكن من أن أجهل اسمي ووجودي اللَّذين لا يَكُفَّانِ عن تهديدي... أيها القارئ الوهمي، القارئ الذي طالما توهمتُ، لم يعد يكفيني لأستحق عبور هذا اليوم، إلا أن أخون صورتي، إلا أن أتمادى في خيانة صورتي".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image