شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
عن ماسح الأحذية الذي لا يريد أن يكونه أحد

عن ماسح الأحذية الذي لا يريد أن يكونه أحد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الثلاثاء 25 أكتوبر 202212:58 م

ردّدتُ: طبيباً، بينما أُخفي خلف ما نطقتُ كلمة "بويَجي" (ماسح أحذية). ابتسمتْ المعلمة لي، واستمرت في جولتها على باقي التلاميذ تدوس أرض مستقبلنا بالسؤال الشهير: "شو حابب تصير بالمستقبل؟"؛ ربما كان عليّ أن أخفي إجاباتي تلك. كان ذاك هو أحد أول الدروس في النفاق الاجتماعي، وإحدى أولى الحفلات التنكرية واستعمال أجمل الأقنعة.

كان من الصعب أن أشرح دهشتي ومتعتي. كنتُ مأخوذاً تماماً حين رأيته في ساحة المدينة، حتى أنني لوهلة ظننتُ أنه لاعب خفة، يرمي فرشاةً ضخمةً في الهواء، ثم يتلقفها بخفة ساحر لتحطّ على حذاء الزبون، ويمررها يميناً ويساراً برشاقة مدهشة وهي تتنقل بين يديه كأنه مايسترو خبير، ثم يدّسها في مكان ما... لقد أخفاها بحركة لا تقلّ رشاقةً، حتى اعتقدتُ حينها أنه سيخرجها أرنباً، ثم بيدٍ كأنها يد ثالثة يتناول منديلاً بدل الأرنب من صندوقه السحري الملّون واللامع، يمسح الحذاء بعناية طبّاخ، ثم ينقر على مقدمته فتصل الرسالة إلى الزبون، "أن بدّل قدماً بالأخرى على المسند المخصص". ربما ما جعلني أعدل عن التصريح بحلمي ذاك، وحتى رميه من جعبة أحلامي، هي المسافة القاسية، تلك التي لمحتها بين وجه "البويَجي" المنهمك في العمل وبين حذاء الزبون، ثم إنني تساءلت حينها: "لماذا يبدو هذا الزبون معتزاً بنفسه ومنتصباً مثل قائد جيوش فرغ للتو من تدمير مدينة برمتها؟ لماذا لا تبدو عليه ولو مسحة خفيفة من الخجل والإحراج؟!".

كنتُ مأخوذاً تماماً حين رأيته في ساحة المدينة، حتى أنني لوهلة ظننتُ أنه لاعب خفة، يرمي فرشاةً ضخمةً في الهواء، ثم يتلقفها بخفة ساحر لتحطّ على حذاء الزبون

الآن، وبينما أبتعدُ عن حلمي ذلك مسافةً عمريةً تُقدَّر بعقود، لم تزل عاجزةً أي فلسفات تبريرية، أو أفكار عملية براغماتية وواقعية عن أن تقنعني بأن هذه مهنة كبقية المهن، وأن الأمر طبيعي للغاية وواقعي، وأن ثمة مهناً عدة لا تحمل وصماً اجتماعياً مع أنها تشبه هذه المهنة من ناحية ما. يقول قائل ما: "الأمر لا يختلف بشيء عن مهن العناية بالأظافر أو بشعر الآخرين".

قد تكون الثقافة لعبت دوراً ما في تكوين قناعاتي في ما يخص مكانة الحذاء رمزياً، كونه يعبّر عن انحطاط ما. وليكن، فأنا ابن هذه الثقافة وأنتمي إليها مهما كانت شدة هذه الدرجة في الانتماء. ثم لست ممن يضعون كل العادات والتقاليد وثقافة مجتمعاتهم في خانة التخلّف والرفض، وقد يعجبني سلوكٌ أخلاقي قامت به جدتي الأمية، ولا يعجبني آخر قامت به حفيدتها المتعلمة والمثقفة.

الآن، وبينما أبتعدُ عن حلمي ذلك مسافةً عمريةً تُقدَّر بعقود، لم تزل عاجزةً أي فلسفات تبريرية، أو أفكار عملية براغماتية وواقعية عن أن تقنعني بأن هذه مهنة كبقية المهن

ثمة من يلمّع للأغنياء في قصورهم أو فللهم أو بيوتهم الفخمة، أحذيتهم ويجعلها جاهزةً في خزانة مخصصة؛ هذا عمل من بين جملة أعمال ومهام موكلة إلى الخدم المقيمين. الأغنياء لا يمشون في شوارع الوطن، ولا تلتقي عيونهم بعيون ماسحي الأحذية. هم لا يعرفون شكل الشوارع والبسطات والمارة المقتولين ولا يعرفون ملامح ماسحي الأحذية ولا ألوان أصابعهم، كما في المقابل فإن الفقراء ليس من بين أحلامهم القريبة حذاء "يبرق"، بل إن أقصى أحلامهم في ما يخص الحذاء هو أن يعثروا على إسكافي مبدع يساعد الحذاء على أن يستعيد صحته نوعاً ما -أتذكر في طفولتي أن أحد الإسكافيين قد كتب على لافتة محله "مستشفى الأحذية"، حتى أنه عَنوَن بعض الرفوف: "عناية مشددة"، وربما كان لديه رفّ "للإنعاش". كان الاسم طريفاً وجاذباً آنذاك! لكن أتأمل الآن أي إبداع هذا، أي طرافة؟

ليس الأغنياء ولا الفقراء من بين زبائن ماسح الأحذية.

إنها تندرج ضمن إطار السخرية من ذلّنا الذي لا ينتهي في مثل هذه البلدان التي تعلّمنا فيها عن قصد أو عن غير قصد، أن نلفّ كل هذا الشقاء والذل بلقمة من السخرية كي نستطيع ابتلاع كل ما يحصل مفترضين تحسين النكهة المقززة والسامة.

ليس الأغنياء ولا الفقراء من بين زبائن ماسح الأحذية. نفترض إذاً أن رجال الطبقة الوسطى وحدهم من كان يسندون أحذيتهم المغبرة إلى صندوق خشبي بالقرب من وجه صبي أو عجوز قادم من هوامش المدن أو من الريف الميت، ليلمّع أحذية الناس مقابل ليرات قليلة.

كذلك ماسحو الأحذية ينضوون في طبقات تميّزهم عن بعضهم البعض. تختبر ذلك من خلال شكل صناديقهم، وزينتها، بل وكمية عبوات "الصباغ" وماركتها وألوانها. ثمة صناديق فقيرة باهتة ومشغولة على عجل، ومنها ما يشي بعراقة ما، فيبدو الصندوق متوارثاً بين أجيال العائلة أباً عن جد، كقطعة أنتيكا، إذ يتعشق النحاس الأصفر اللامع بالخشب المتين المُعتّق وتلمع على جانبيه أغطية عبوات الصباغ كأنها تيجان ملكية. الصندوق في حد ذاته تحفة فنية يمكن ركنها خلف واجهة زجاجية بغرض الفرجة فقط.

ليس في ذاكرتي أبداً أنني لمحت امرأةً تعمل في هذه المهنة، مع أنه أمر وارد جداً في بلد ما أو مكان ما على هذه الكرة الأرضية

ثم هناك صنف ثالث تفنّن صاحبه في تزيينه بالخرز الملون والريش والأجراس مستنسخاً أسلوب السائقين في المواصلات العامة، ولربما كان من بين أحلامه المستحيلة أن يكون سائق ميكروباص؛ لواصق عن التوكل وعناقيد عنب ومشغولات من الخرز تلك التي بدد سجناء البلاد أعمارهم في شغلها خوفاً من أن يقضم الوقت أعناقهم.

كما يمكن أن نقرأ الأمر من الجانب الجندري. ليس في ذاكرتي أبداً أنني لمحت امرأةً تعمل في هذه المهنة، مع أنه أمر وارد جداً في بلد ما أو مكان ما على هذه الكرة الأرضية، كما لم أرَ ولو مرةً واحدةً امرأةً تسند قدمها إلى صندوق ماسح الأحذية، لكن لا شك أن هذه المشاهد قد مرت مرةً أو أكثر في عالم أفلام البورنو وسيناريوهاتها الفانتازية في تنويعاتها السادية أو المازوخية.

أجزم بأن هناك ماسح أحذية ما، في مكان وزمان ما، كان يمتلك حساً أدبياً يجعله يروي للمقربين منه الكثير من التفاصيل التي يلتقطها في يوميات عمله، حتى أن في استطاعته تبويب الشخصيات وتمييزها وفهمها من خلال أحذيتهم؛ ألوانها وموديلاتها وهيئاتها. فالشخصيات عنده يمكن القبض عليها من خلال الحذاء، لكن ثمة تواضع غير مقصود يجعل تلك الرواية عملاً أدبياً مهدوراً. يقال إن صاحب "الخبز الحافي"، الروائي المغربي محمد شكري، من بين المشاهير الذين مارسوا هذه المهنة يوماً ما في حياتهم السابقة على الشهرة. لم تكن كاميرا شكري، بالرغم من أنه ثبّتها في الحضيض المجتمعي وفي قاع المدينة، لم تكن بالرغم من ذلك مثبّتةً إلى صندوقه الخشبي. وبالرغم من اقتفائه أثر كل ما هو مختلط بالدماء والقيء والسخام والخراب، إلا أنه أهدر الفرصة.

لم يكن محمد شكري وحده من المشاهير الذين اشتغلوا في تلك المهنة. سبقه الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، وستالين، ولاعب كرة القدم الأشهر البرازيلي بيليه

لم يكن شكري وحده من المشاهير الذين اشتغلوا في تلك المهنة. سبقه الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، وستالين، ولاعب كرة القدم الأشهر البرازيلي بيليه، والملاكم العالمي مايك تايسون، والمصوّر الإيطالي إينيو ياكوبوتشي الذي أحدثت صوره فرقاً في الحرب على فيتنام وكمبوديا وفلسطين، وهزت الضمير العالمي.

استطاع المشتغلون في هذه المهنة، بظروفهم وأحوالهم وواقعهم وحتى رمزية مهنتهم، أن يكونوا مادةً شهيةً للمشتغلين في الفن والأدب، سواء في السينما أو الغناء أو الفن التشكيلي والنحت. ففي السينما، ثمة أفلام عدة من بينها "ماسحو الأحذية"، للمخرج والممثل الإيطالي فيتوريو دي سيكا، كما تم إخراج فيلم هندي "ماسح الأحذية"، طارت شهرته في الخمسينيات وحصد جوائز عالمية عدة. كذلك مر "البويَجي" في أعمال مسرحية عدة، من أشهرها مسرحية "الأستاذ مزيكا" عام 1978، إذ اشتهرت عبارته: "أنا عبد السميع اللميع"، كذلك هناك مسرحية للأخوين رحباني "لولو"، تخللتها أغنية "بويا بويا بويا... شغلة ومنّا شغلة"، لنصري شمس الدين ونوال الكك.


لم أستطع تجاوز كلمات هذه الأغنية بينما كنت أكتب هذا المقال. ثمة مقطع يقول فيه نصري شارحاً ما يدفعه لذاك العمل وتُختصر بمعادلة بسيطة؛ أنا هنا أشقى ليضحك صغاري: "عنا ولاد ناطرين بالضحك بيتسلوا... ع البوابة ناطرين يكبروا ويفلوا... بدن خبز وعلم ولبس وبدن لعبة من البياع...".

كذلك في الفن التشكيلي اشتهرت لوحات تتناول هذا الموضوع، من بينها ماسح الأحذية والفتاة، للرسام الأمريكي هنري موسلر (1841-1920)، وماسح الأحذية الصغير للرسام الأمريكي من أصل بريطاني جون جورج براون (1831-1913)، وهناك مجموعة لوحات "ماسحو الأحذية"، للرسام السوري لؤي كيالي (1934-1978).

أجزم بأن هناك ماسح أحذية ما، في مكان وزمان ما، كان يمتلك حساً أدبياً يجعله يروي للمقربين منه الكثير من التفاصيل التي يلتقطها في يوميات عمله

ولا شك في أن هناك آلاف القصائد في العالم، التي كان ماسحو الأحذية موضوعها. مثلاً هناك قصيدة جاك برفير، بعنوان "أغنية ماسح الأحذية".

لست هنا في صدد تتبّع تاريخ هذه المهنة، لكن عموماً يُقال إنها بدأت مع دخول الغرب إلى العصر الحديث، عصر المصنع والعمال، وانتشرت في أنحاء العالم كما ينتشر أي شيء، ثم لاحقاً اختفت تقريباً من شوارع الدول التي زيّنت الرأسمالية بمقولات عن الإنسان وحقوقه والمساواة.

لم يعد هناك صندوق يضع الزبائن عليه أقدامهم، سواء واقفين أو جالسين على كراسٍ مخصصة، بل صار "البويَجي" يتعامل مع الحذاء وحده دون صاحبه في أكشاك مخصصة، في الوقت الذي بقيت فيه هذه المهنة في دول الجنوب منتشرةً بنسب متفاوتة وحسب ظروف عدة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard