تندرج المادة ضمن ملف "الانتظار... رنينُ هاتفٍ في صحراء"، إعداد وتحرير تمّام هنيدي.
ينتظر بطلٌ بلا اسمٍ اكتشافَ سرٍّ يختصر تجربةَ حياتِه في راوية "رقص رقص رقص"، لمحترف الانتظارات الطويلة الياباني هاروكي موراكامي، فتنتهي الرواية بلا اكتشاف واضح، أما انتظاره ذاك فكان جزءاً من حياته السوريالية المليئة بمنتظرين آخرين. و"هاجيمي" واضح الاسم في رواية أخرى للكاتب ذاته أيضاً، ينتظر لقاء حبيبته ليدرك أنه ينتظر موتها. لم تعد الحياة من وجه نظرنا ككائنات تعيش في فوضاها الحالية، تشبه قصص الانتظار الكلاسيكية، التي تنتهي بـ"الفَرَج" كلياً أو نسبياً. باتت تلك الحياة الواقعية تقابل الأدب والفن الحديثين، حيث الانتظارات لا تنتهي براحة الأبطال، إنما تمتد إلى نهايات الأبطال قبل تحقيق المغزى من الانتظار.
هي حياة حديثة بطريقة غريبة يستحيل تفسير المقصد من حداثتها، لكنها على الأقل حديثة إلى درجة أن سيناريوهات انتظاراتها لم تعد كالسّابق. من موراكامي يمكن البدء في تفسير انتظاراتنا. فنحن إما كتّاب أو موظفون أو باحثون عن عمل أو بشر غير مضطرين للتعريف عن أنفسهم بمسمّيات مهنيّة، كلهم كانوا أبطالَ رواياتٍ ينتظرون ما لا يحدث. انتظارات اليوم بطيئة لا معالم لنهايتها، تناقض كلياً تلك السرعة التي يتصف بها زمننا الذي من المفترض أنه لا يحمل صفةً أوضح من السّرعة.
حالة البحث عمّا هو جيد في الانتظار المديد، هي دليل كافٍ على أن ذاك الانتظار تجربة لا تحمل في ثناياها سوى عذابات للروح والجسد. أما تلك الدروس التي يمكن أن يلقّنها لنا الانتظار، فما هي إلا محاولات إضفاء شرعيّة له، وتجميل لأظافره التي تحفر في الجلد، كأن يقال إن في الموت استراحة للجسد، أو إن المرض اختبار سماوي، أو إن الفشل طريق النجاح. من عادة الحكمة أن "تطبطب" على أكتافنا، وتمنحنا أقوالاً تساعد على تخفيف مصائبنا. نحن أحياء، إذاً لا بد من موت ومرض وفشل وانتظار، ولا بد من قبول لكل ذلك، بشكل من الأشكال.
للانتظارات الطويلة شكل يغيّر طريقة تعامل المرء مع نفسه، خاصة عندما يشعر بأن انتظارته تلك، تشاركه الهامش الذي يعيش حياته فيه
للانتظارات الطويلة شكل يغيّر طريقة تعامل المرء مع نفسه، خاصة عندما يشعر بأن انتظارته تلك، تشاركه الهامش الذي يعيش حياته فيه. يمكن لانتظار طويل أن يجعلنا ننظر لتجربتنا سينمائياً أو روائياً، يتجلى في أذهاننا أن أجواء حياتنا سوداوية كما أجواء موراكامي الذي قد يصادف في كلِّ انتظار تعيشه قراءة رواية من رواياته.
أو قد نرى القسوة مباشرة صارخة كأننا نعيش في أفلام الدوغمائي "لارس فون ترير". تجاربنا نحن بطلها، لكنهم كتّابها ومخرجوها. إلى هذه الدرجة يمكن أن نمنح حياتنا ببساطة لصانع حيوات افتراضية يعي تماماً أي وقت نعيش، كي يؤرشفها أو يخرجها أو يرتئي مصيرنا فيها. ولسنا وحدنا في ذلك، فمن حولنا معارف كثر، منهم من يعيش انتظارات مماثلة بالمعنى مختلفة بالتفاصيل. جمهور من المنتظرين الخائفين من شعورهم بأن يكون انتظارهم ليس إلا جزءاً من الماضي المتزايد والمستقبل الذي يقلّ، أي هو استهلاك للوقت ما قبل الموت.
انتظارات إسطنبول
يحدث أن نجلس في مقهى في إسطنبول فتحاصرنا طاولتان يجتمع حول كلٍّ منهما أفراد سوريو الملمح واللهجة، فنسمع من الأولى أن أحد جليسيها ينتظر أوراق جامعته في ألمانيا، والثاني ينتظر أهله العازمين على القدوم إليه من لبنان. يقطع حديث الطاولة الأمامية تلك، حديثُ الطاولة الخلفية التي ينتظر فيها حمصي اللهجة ختماً على إحدى أوراقه التي يبدو أنها كثيرة، فينسحب جليسه للردّ على مكالمة كان ينتظرها من الصباح حسب قوله لصديقه، أخيه ربما. نسترق السمع إلى أنفسنا بين جمهور المنتظرين باحثين عمّا لا ننتظره.
في هذه المدينة المليئة بعجائب البشر من عابرين ومقيمين أحصي الأيام الأخيرة قبل رحيلي عنها بعد قعود استمرّ مدّة ثماني سنوات ونيّف، رحيل ممرّغٌ بالوجوه التي ملأت مكاناً حسبتُه سيكون فارغاً بعد رحيل الأصدقاء واحداً تلو الآخر. لا حيلة للذهاب ولا حيلة سوى الذهاب. في شتاء 2016 أتممت أوراقي في السفارة الكنديّة في أنقرة، وقيل لي حينها: انتظرْ في بيتك من ثلاثة إلى ستة أشهر، لتنتقل إلى كندا. وطال الانتظار ست سنوات، حتى تم التواصل معي مجدداً لأحزم أغراضي التي لم تعد كما كانت، فقد ملأتها سنوات الانتظار بالمزيد من ركام الحياة الذي يصعب التخلي عنه، وبالوجوه والذكريات، بالأوراق... وبالأدوية أيضاً.
سبع سنوات من الانتظار، تخللتها جملة انتظارات، تسابق الانتظار الأكبر بأثرها، وبالوجوم أمام المرآة صباحاً، وبالوحشة المسائية. انتظارات تشبه بعضها بما هي حبلى فيه من انتظارات تتوالد إثر بعضها. انتظار ثلاثة تصاريح إقامة للعمل في تركيا مُنيت جميعها بالرفض، حملتْ في رحمها الواسع انتظارات تجديد جواز السفر أمام مبنى القنصلية السورية في إسطنبول، أقسى محطّات انتظارها بكثافتها ورمزيّاتها وقدرتها على فتق الجروح بشفرة صدئة. انتظار التجديد يتبعه انتظار تمديد الإقامة. ينسينا ما ننتظره ما علينا انتظاره، ويشغلنا ما علينا انتظاره عن التفكير بماذا سنفعل بعد ارتشاف أول كأس ماء بعد نهاية يوم من الانتظار.
في الانتظار هناك، يتراءى سؤال أوحش مما سبقه، هل بعد هذا سيكون أولئك الذين ينتظروننا، واقفين في المحطات ذاتها؟ هل سيكونون؟
لا يمكن المرور على انتظار تجديد جواز السفر بجملة مفردة، كي لا يبدو المعنى أن الانتظار هو تلك الساعات عند باب القنصلية، أو أمام الموظف الشامت بكل من أمامه. كما أنه ليس انتظار الحصول على موعد تقديم الأوراق الذي قد يكون مكلفاً مادياً وروحياً ضعف تكلفة الأوراق والرسوم؛ إنه انتظارٌ يبدأ قبل حوالى عام من نهاية الباسبور، أي بعد مضي عام ونصف على تجديده. مدةٌ منحتْنا إياها دولةُ فَرمِ لحوم البشر لتزيدَ من وتيرةِ تواصلها النفسي والمادي معنا، وبالتأكيد لتزيد من قطعها الأجنبي صعب الولوج إليها بطرق أخرى بسبب العقوبات الاقتصادية. تجديد جواز السفر السوري يعني ما لا يقل عن 360 يوماً سابقاً للتجديد، يمرّ به وحش الانتظار على باب القنصلية كلَّ يوم لدقائق قليلة، تتزايد مع اقتراب الموعد، لتحاصر قبل شهر من التجديد يومياتنا، شئنا أم أبينا.
في الوقت الذي لا يشغل بالنا انتظار الأوراق والتصريحات، نحن الباحثين عن مكان يقبل استقرارنا فيه بلا منغّصات، هناك انتظارات أخرى جاهزة للحضور؛ انتظارنا مع أهلنا، رهائن البلاد الكئيبة، حصولهم على مخصصات التدفئة، أو عودة نعمة الإنترنت إلى فضائهم المنزلي. ذلك قد يبدو أشدَّ قسوة كوننا تنتظر أقدار سوانا الفاعلة في صناعة قدرنا الشخصي. وكون بُعدنا الجغرافي سيفرض علينا شللَ يميننا في مساعدتهم، أو على الأقل الطبطبة على أكتافهم، بجمل لا تقنعنا، ولكن علّها تخفف وطأة الانتظار عليهم.
انتظارات الأمكنة المجهولة
في البلاد الباردة التي يسبق توقيتُها توقيتَ منطقتنا بسبع ساعات، تنتظرنا الأسئلة كثيفة التردد، وجلسات حساب الزمن، لنيل الأحلام التي ما عاد يسبقها شغف حقيقي. انتظار المواطنة في بلد يحترم الإنسان، وفق مفهوم جامد صلب لحقوق للإنسان، يساوي بين البشر. فهل من المحقِّ أن يكون من انتظر ومن لم ينتظر متساويين أمام القانون؟
هل من المحقِّ أن يكون من انتظر ومن لم ينتظر متساويين أمام القانون؟
لعنة انتظارات جديدة مجهولة بقدر جهل الطريقة المثلى للتعامل مع بلد جديد ولغة جديدة. ستبدو إذ ذاك معالم الوجه مختلفة في الصباح الجليدي أمام المرآة، اليوم وقد انتصف عمرنا أو زاد عن ذلك، نحن بحاجة إلى لسان جديد، لنطلب من الموظف مراجعة ملف ما، أو لنشتري من الصيدلية مرهمَ حساسية أو قطرة عين. في الانتظار هناك، يتراءى سؤال أوحش مما سبقه، هل بعد هذا سيكون أولئك الذين ينتظروننا، واقفين في المحطات ذاتها؟ هل سيكونون؟
في لعنة الانتظارات تلك، يتبقّى انتظار أبديُّ التفاصيل تهواه، بل وتنتظره: انتظارها أمام مرآتها، تجهّز نفسها لتخرج معك لتناول العشاء الأخير قبل السفر. تحضّر روحها لانتظارك طويلاً، وتحضّر روحك لانتظارها، وما أصعبَ احتضان الصور!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...