أدرك منتدى الإعلام العربيّ، في دورته العشرين التي احتضنتها دبي مطلع الشهر الجاري، أنّ المستقبل سيكون حليف كلّ من يساير التطوّرات المتسارعة في الفضاء الاتصاليّ، الذي يُعدّ الإعلامُ واحدة من ثمراته.
ولم يتورّع المنتدى الذي ينظمه، سنوياً، نادي دبي للصحافة عن دعوة بعض المؤثّرين العرب (Influencers)، في اعتراف جليّ بأنّ هؤلاء أضحوا رقماً صعباً ليس من الحكمة تجاوزه أو ازدراؤه.
لقد صار العالم عارياً نهِماً، مهتمّاً بـ"المعلومة" أكثر من اهتمامه بالمنصّة.
وفي سياق الإحساس بأنّ العالم يتغيّر بشكل كثيف وعميق وفائق السرعة، ناقش خبراء وإعلاميّون "مستقبل الإعلام في عصر الميتافيرس"، وكذلك "مستقبل المنصّات الرقميّة"، وعاينوا "الإعلام والترند"، كأنهم يجسّون نبض زمن يتغيّر، وعلينا أن نسايره ونسرع الخطى كيلا يفوتنا القطار، وليس في العبارة الأخيرة أية صلة بمقولة (أو تحذير) الزعيم اليمني علي عبدالله صالح!
وفيما كان نحو 3000 مشارك منشغلين بأسئلة الإعلام الجديد الذي أضحى يتفلّت من بين الأصابع، كان زهاء 500 مؤثر يلتئمون في البحر الميت؛ أخفض بقعة على سطح الأرض، في منتدى المؤثرين العرب "كلام مدينة"، بتنظيم من هيئة تنشيط السياحة في الأردن وشركة أومنيس ميديا.
وفي كلتا المناسبتين، كان هناك اعتراف معلَن أو مضمَر، بأنّ أدوات العالم القديم قد تغيّرت، ولم تعد مناسبة لمقاربة التحوّلات الراهنة، أو استقراء الآفاق المستقبليّة.
لعلّ التحوّلات "الانفجاريّة" تحمل معاني الإكراه. لا يستطيع المراسل القديم لصحيفة أن يرسل تقريره بالبريد، أو عبر الفاكس. لقد غدا استعمال الكمبيوتر والموبايل بمثابة محو أميّة، وأضحت فرص العمل مرتبطة ارتباطاً طرديّاً بالمهارات التي تتعدّى كتابة خبر أو تصوير تقرير. لقد صار العالم عارياً نهِماً، مهتمّاً بـ"المعلومة" أكثر من اهتمامه بالمنصّة. لم يعد التوثّق الذي ميّز "بي بي سي" هو الفريضة التي لا يستقيم بدونها "الإخبار". سقطت الحواجز، وتهاوت القواعد، وسادت الفوضى. سمّها إن شئت خلّاقة، هذا أمر يعود إلى تقديرك. أما الذي ليس بمقدورك السيطرة عليه، فهو التسونامي اللحظيّ للأنباء الذي خلخل مفاهيم الوفاء لمنصّة إعلاميّة بعينها، وهنا يتشكّل مأزق كبير جداً يصحّ معه القول إنّ "الفتق اتسع على الراتق".
الشجون في هذا السياق عديدة ومتنافرة، لاسيما مع التناقضات التي تتصارع على "احتكار اليقين". فالمعارضون لمنتدى المؤثرين زعموا أنّ تكلفة اللقاء يغطيها دافع الضريبة الأردنيّ من جيبه المثقوبة بالديون
الشجون في هذا السياق عديدة ومتنافرة، لاسيما مع التناقضات التي تتصارع على "احتكار اليقين". فالمعارضون لمنتدى المؤثرين زعموا أنّ تكلفة اللقاء يغطيها دافع الضريبة الأردنيّ من جيبه المثقوبة بالديون، فيما أكدت الجهة الحكوميّة الراعية أنها لم تدفع فلساً من خزينتها، وأنها استثمرت في المؤثّرين من أجل تسويق الأردنّ سياحيّاً.
إذاً، ثمة من يلوم المؤثّرين بأنهم يسوّقون الرداءة والتفاهة والأكاذيب، وهو غير قادر على أن يتثبّت من معلومة تحتاج إلى سؤال مصدر لا يكلف أيّ وقت ولا أي جهد، لكنّ رغبة القنص تطغى على ما عداها!
المعلّقون المعترضون يرون في المؤثّرين فئة "سخيفة" ليست مؤثّرة، وتقدم محتوى دعائيّاً غير معرفيّ وأحياناً غير قيِمي، وأنّ الاهتمامات منصبّة فقط على عدّاد المتابعين، وعدد الإعجابات، وبالتالي حصد المال والشهرة.
أعتقد أنّ المؤثّرين أصبحوا جزءاً من عالم الاتصال، بدلالة أنّ عدد الذين يتابعونهم في العالم يتجاوز في مجموعه أكثر أهل الأرض من البشر. فهل يعني أنّ المتابعين المغرمين بهؤلاء المؤثّرات والمؤثّرين على خطأ؟
علينا أن نعترف أنّ المؤثّرين والمؤثّرات (أعجبَنا ذلك أم لم يعجبنا) صاروا حقيقة واقعة، وصاروا يشكلّون ويصوغون أذواق جيل بأكمله متعلّق بهؤلاء "النجوم" الذين يحاكون أشواقه وأحلامه
إنّ ثمة زمناً يتدحرج من حولنا، ونحن لا نشعر بحركته واهتزازاته، وأحياناً بزلازله. فإذا كانت الصحافة التقليديّة سلطة رابعة، والسوشال ميديا سلطة خامسة، فإنّ المؤثّرين هم بمثابة سلطة سادسة، وهي سلطة هجينة تستخدم أدوات الإعلام ومنصّاته ولا يَحكم عملها إلا الانتشار وقوة التأثير وفداحة الأثر، وهو ما لا تقوى عليه وزارات إعلام بجيوشها الجرّارة المتثائبة في العالم العربيّ الذي ما زال يعتقد أنّ الإعلام الورقيّ هو آخر ما تفتّق عنه الخيال، وهو الدرع الفولاذيّ القهّار الذي يصدّ ويردّ ويحمي "هيبة الدولة" ويجندل الفلول "المعادية"... إنه الوهم المخدِّر يا رفيق!
لقد جرى خسف الأرض بملتقى المؤثّرين في البحر الميّت، وهذا ليس مجازاً، فقد انبرى أحدهم إلى وصف ملتقاهم بأنه أشدّ وَقعاً مما حدث لقوم لوط!
علينا أن نعترف أنّ المؤثّرين والمؤثّرات (أعجبَنا ذلك أم لم يعجبنا) صاروا حقيقة واقعة، وصاروا يشكلّون ويصوغون أذواق جيل بأكمله متعلّق بهؤلاء "النجوم" الذين يحاكون أشواقه وأحلامه (حتى لو كانت أحلام العصافير!).
الفتوحات الاتصاليّة الدؤوبة تركت قوماً يتباكون على زمن الإعلام القديم، ويشتمون الزمن الراهن الموسوم بـ"التفاهة". ماذا سيقول هؤلاء عن زمن "الميتافيرس"، حيث ستتخلّق عوالم و"حقائق" في الزمن الافتراضيّ، وسيغدو الحديث عن الزمن الرقميّ من إرث الماضي؟
ربما تقدّم بعض المؤثّرات والمؤثّرين محتوى تافهاً بلا أي قيم أو إضافات معرفيّة، أو ضوابط أخلاقيّة
أعتقد أنّ النائحين على انعقاد ملتقى المؤثّرين هم في جُلّهم ممن خرجوا من اللعبة. وبالتأكيد الإنسان عدو ما يجهل. الروبوت الذي قدّم نشرة الأخبار، سيتحكّم بكل شيء، وثمة من يحذّر من تحوّل البشر عبيداً في خدمة الروبوتات التي تعمل بكفاءة عزّ نظيرها، فلا تشكو ولا تتبرّم، ولا تتمارض لتأخذ إجازة، أو تذهب في قيلولة للتدخين أو الصلاة. وهذا توصيف لا رأي فيه. إنه وحسب إقرار بسلطة الواقع البالغ التقنية، المنزوع الأحاسيس.
ربما تقدّم بعض المؤثّرات والمؤثّرين محتوى تافهاً بلا أي قيم أو إضافات معرفيّة، أو ضوابط أخلاقيّة. لكنّ ذلك كلّه من الأعراض الجانبيّة لهذا الانفجار الاتصاليّ الهائل في ثورة المعلومات التي جعلت كلَّ من يملك موبايلاً ذكياً جزءاً من اللعبة. لا تستطيع أن تُشهر البطاقة الحمراء في وجهه، وتطرده من الملعب، لأنّ الملعب ليس مستطيلاً أخضر محدّداً بخطوط بيضاء عريضة، بل إنّ الكون بأسره هو الملعب.
إنه زمن يتشكّل بإيقاع إعصاريّ لا إرادة لنا فيه، وعلينا إن لم نقبل به أن نتفّهمه، على الأقل.
يمكن للمُعارض أن يستنكف عن اللعب، لكن لا يمكنه، ولا يحقّ له، إيقاف اللعبة. إنه زمن يتشكّل بإيقاع إعصاريّ لا إرادة لنا فيه، وعلينا إن لم نقبل به أن نتفّهمه، على الأقل.
في السوق الكونيّ المفتوح، يقترب عدد المستخدمين النشطين في جميع منصّات التّواصل الاجتماعيّ الآن من 5 مليارات شخص، يلهثون في الميدان الرقميّ، ويعملون في سياق ما يسمى "اقتصاد الانتباه"، بما يستبطنه هذا المفهوم من سعي ضارٍ إلى الإثارة، وكسر التوقّع، والإبهار، والإقناع، وربما الخداع.
بيْد أنه ليس كلّ المؤثرين أشراراً يتّبعون هوى تسويق الرداءة، فالعام الماضي حلّ الكويتيّ حسن سلمان المعروف بـ"أبو فلة" أوّلاً في قائمة صنّاع المحتوى العرب الأنجح عام 2021، بعدما حصدت قناته 22 مليون مشترك، حسبما أفادت شركة يوتيوب في قائمتها السنويّة.
"أبو فلة" هذا حقّق رقمين قياسيّين في موسوعة غينيس للأرقام القياسيّة، بعد أن قاد حملة لجمع التبرّعات لمصلحة اللاجئين السوريّين، من خلال بثّ مباشر في يوتيوب والتي كان هدفها 10 ملايين دولار، لكنّها وصلت إلى 11 مليون دولار في نهاية البث المُباشر، وفق صحيفة "الشرق الأوسط". واستمر أطول بث مباشر حتى هذه الفترة دون انقطاع وراحة في بيته الزجاجيّ، إذ حقّق رقم أطول مدة بث مباشر متواصل في التاريخ، وأكثر عدد مشاهدات مباشرة في لحظة واحدة لحملة إنسانيّة عبر يوتيوب.
ماذا نقول لأبي فلّة سوى أن نهديه فلّة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين