الأرض مدوّرة، وهي تدور حول نفسها وحول الشمس، لذا فالشمس تسطع في القسم الأول من الكرة الأرضية وتترك القسم الثاني غاطساً في ظلامٍ دامس، ثم تتوالى الأدوار فتُنار أراضٍ وبحارٌ وتطفأُ أخرى. وهذا ما يفسّر اختراع المناطق الزمنية التي تفصل بين الأماكن والتي تجعلنا نضيف إلى تطبيق الساعة على شاشاتنا الصغيرة مدناً عدّة يختلف الزمن في ما بينها.
قد تبدو لك هذه المقدّمة مجرّد كلامٍ بسيطٍ يمثّل أبسط المعلومات الجغرافية بل حتى العامة التي يعرفها كلّ امرئٍ. قد يبدو الأمر مغرقاً في بساطته، لكن مغادرَتَك منطقةً زمنيّة وانتقالَك إلى أخرى يجعل دماغك في الواقع يدور ويدور مع الأرض وحولها وعليها، ويستعصي عليه لفترةٍ إدراكُ ما يحدث. وتقصُر فترة الاستيعاب وتطول بشكلٍ شخصيّ وحسب عيشنا للتجربة ونظرتنا الخاصة التي تميّز دائماً أفكارنا وردود أفعالنا تجاه أيّ حدثٍ في حياتنا.
والحقّ، كلّ الحقّ على السير سانفورد فليمنغ، المهندس الكندي (طبعاً) الذي ابتلانا باقتراحه المناطق الزمنية في عام 1887 فاعتُمِد اقتراحه هذا حول العالم، بل أصبح إلزامياً في أمريكا عام 1918. ورغم محاولات حثيثة من علماء في جامعة جون هوبكنز لإلغاء فكرة المناطق الزمنية من أساسها، لا تزال هذه المناطق تعمّق من أثر ابتعادنا عن أحبابنا.
يحتاج المرء إلى الشجاعة ليتقبّل غيابه التام من كافة صباحات أناسٍ يشكّلون نصف خريطة قلبه على الأقلّ. كلّ يومٍ، يستيقظ هؤلاء ويشربون قهوتهم ويتّجهون إلى أعمالهم ويومياتهم وينكّتون في ما بينهم على واتساب مثلاً أو لا ينكّتون، وحين يتعبون، تكون/ين أنت قد غادرت سريرك للتوّ.
كلّ يومٍ تشرب/ين قهوتك وتتحضّر/ين لعملك اليومي فيما ينصرفون إلى نشاطاتهم المسائية المعتادة: رياضة، لقاء، مزيد من العمل، شراء حاجيات، إلخ. ومجدّداً، مجرّدُ نشاطاتٍ يُعمِّقُ الشرخ غيابك التامُّ منها أيضاً.
وُجدَت المناطق الزمنية لتسهيل ضبط مواعيد السكك الحديدية. كانت كل بلدة تحدّد الساعة بحسب موقع الشمس في سمائها، فحين تصل الشمس إلى منتصف السماء مثلاً، يركض مفوّض ساعة البلدة ليضبطها على الـ12 ظهراً. وإذا لم تكن هناك ساعة في البلدات المجاورة، كان "المعتّر" يركض إليها ليخبر السكان بأن الساعة بلغت الـ12 ظهراً، وهكذا على طول النهار. وحين اتّسعت تغطية القطارات جغرافياً، تبيّن أن هناك مئاتٍ من المواقيت المختلفة، وارتفعت الحاجة إلى وسيلةٍ لتنظيم جدول رحلات القطار بشكلٍ يتناسب مع المواقيت في كافة المناطق التي تصلها السكك، فكان "اختراع" المناطق الزمنية كردّ على حاجةٍ اقتصاديةٍ تجاريةٍ.
"كلّ يومٍ، يستيقظ أناسٍ يشكّلون نصف خريطة قلبك على الأقلّ، ويشربون قهوتهم ويتّجهون إلى أعمالهم ويومياتهم وينكّتون في ما بينهم على واتساب مثلاً أو لا ينكّتون، وحين يتعبون، تكون/ين أنت قد غادرت سريرك للتوّ"
المناطق الزمنيّة ترسيخٌ غير مقصودٍ للغياب، تحقيقٌ لهذا الغياب، ورسمٌ دقيقٌ لخطّ فاصلٍ عابرٍ للمكان يصعب معه تصديقُ أن القدرَ لا يعتمد أساليبَ ملتوية. واقتراح السير فليمنغ هذا أحد هذه الأساليب الملتوية. لم يحدث مثلاً أن استفاق فيلسوفٌ قضى عقوداً يتفكّر في الوجود وأبعاده كلّها، ليقترح المناطق الزمنية، بل حدث أن اقترحها مهندس سككٍ حديدية معنيّ بالأرقام أولاً قبل أي عواطف أو مهاتراتٍ بشرية.
الهند رفضت الأمر عندما تخلّت عن اختلاف التوقيت بين كالكوتا وبومباي والذي كان معتمداً منذ عام 1884 ولغاية عام 1906، وأعلنت التوقيت الهندي الموحّد في كافة أرجاء الجمهورية. لكن أهالي كالكوتا ومومباي تمسّكوا بمواقيتهم، ولم يتخلّوا عنها فعليا حتى عام 1955 (بومباي) و1984 (كالكوتا).
كذلك اعتمد ماو تسي تونغ في الصين، عام 1949، توحيد التوقيت في كافة أنحاء الجمهورية الشعبية الشديدة الاتساع جغرافياً، بحيث تتعدد فيها المناطق الزمنية، مؤكداً بذلك الوحدة والتواؤم بين أبناء الشعب الصيني أينما كانوا على الأراضي الصينية.
لمَ لم يعتمد مدّعو الوحدة العربية توقيتاً موحداً؟ أتساءل وأبتسم في هذه اللحظة بالذات.
"لم يحدث مثلاً أن استفاق فيلسوفٌ قضى عقوداً يتفكّر في الوجود وأبعاده كلّها، ليقترح المناطق الزمنية، بل حدث أن اقترحها مهندس سككٍ حديدية معنيّ بالأرقام أولاً قبل أي عواطف أو مهاتراتٍ بشرية"
فهم ماو أن الزمن عامل وحدة، وعامل تفرقة. الزمنُ شرخٌ، أكرّر بدهشة مَن كاد يلتقط فكرةً تؤرقه. يحتاج المرء إلى الشجاعة ليتقبّل غيابه الجسدي والفعلي وحتى الديجيتالي من جزءٍ من حياة الآخر المهم، فكيف إذا كان هذا الغياب سارياً على أغلب الأحبّة والأصدقاء؟
قد يكون السببُ الحقيقي وراء قراريْ الهند والصين الحفاظ على وحدة البلدين أن حاكميهما رفضا أن يخرجا، لساعةٍ واحدةٍ حتى، من حياة عددٍ من أبناء شعبيهما. أرادا الهيمنة الشاملة، على الزمان والمكان، وأدركا تلك العلاقة المتشعّبة بين هذين البعدين والتي يُشار إليها بالزمكان. قد يكون السبب نرجسيّاً إذاً، إذ لطالما اتّسم الحكّام بالنرجسية في أيّ حال. وتصبح هذه الفرضية أكثر ثباتاً إذا تَذَكّرنا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ألغى مناطق زمنية من أصل 11 منطقة زمنية تمتدّ عليها الأراضي الروسية، وهي المناطق الواقعة شرق روسيا والتي أرادها أن تمتثل أكثر لموسكو، رغم وقوعها ضمن منطقة زمنية تعتمد توقيتاً يبعد تسع ساعات من موسكو (كذلك، تم عام 2014 تقديم الساعة ساعتين في القرم ليصبح التوقيت فيها مماثلاً لتوقيت موسكو).
قُسّمت الأرض إلى 24 منطقة زمنية على طول كوكب الأرض، تفصل بين كلّ منها 15 درجة بالعرض هي ببساطة ناتج تقسيم 360 درجة (أي الدورة الكاملة للأرض) على 24 منطقة، بحكم أن اليوم الكامل يتضمّن 24 ساعة. وهكذا أصبح الوقت يتغيّر في البلدان بحسب موقعها من الخطّ الوهمي المخترَع. وهكذا أيضاً قُسّم قلبي إلى منطقتين زمنيتين، تفصل بينهما سبع ساعاتٍ طولاً وعرضاً وارتفاعاً في الزمن. زمكانان في قلبي، لم أنجح بعد في المواءمة بينهما.
عند رأس الكرة الأرضية، أي عند القطب الشمالي، لا وجود للوقت ولا للمناطق الزمنية ولا مَن يحزنون ولا مَن يفرحون حتى. هناك تشرق الشمس مرةً واحدةً في السنة: لكأن اليومَ يمتدّ سنة، لكأن الوقتَ يتمدّد حدّ الاختفاء، ولا شاهد على مرور الزمن حتى. هناك الاستثناء الهائل للقاعدة الجميلة التي اعتمدها فليمنغ، وهناك الدليل الدامغ على أن الزمن مجرّد أداة قد لا تؤدّي المطلوب منها أحياناً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع