تتساءلون أيّ نفس شريرة قد تخطّط لنشر وباء عالميّ قاتلٍ كفيروس كورونا مثلاً؟ أو أي جهة طالحة قد تعدم مدنيّين دون أن يرفّ لها جفن؟ أو أيّ حاكمٍ قد يسكت عن دفن أبناء شعبه أحياءً تحت ركام مدينتهم؟ أو أيّ وليّ أمر قد يغتصب طفله ويكمل حياته وكأن شيئاً لم يكن؟ أو أي زوجٍ يقتل شريكته ويمشي في جنازتها؟ أو أيّ مدير مستشفى يرفض استقبال مريضٍ قد يعيش إذا أُسعِف في الوقت المناسب؟
سيناريوهاتٌ كثيرة تتباين في مداها لكننا ننهيها دائماً باعتبار المرتكِب شرّيراً ونقلب الصفحة. تفسيرٌ وحيدٌ يتكرّر طوال الوقت، فلا شيء سوى الشرّ يبرّر ما سبق، وعقل البشر لا يتقبّل بسهولة الأمورَ التي تبقى بلا تفسير. وهنا الأمر أكثر تعقيداً بعد، لصعوبة إحالة الأمر إلى الله كما في الكثير من الأمور التي لا تفسير لها: فاللّه ليس شرّيراً.
كيف يمكن للّه الخيّر أن يخلق شرّاً؟
وفي هذا السياق تأتي معضلة الشرّ التي توقّف عندها معظم الفلاسفة في محاولةٍ لتقديم إجابةٍ عن سؤال كيف يمكن للّه الخيّر أن يخلق شرّاً. وفي هذا السياق أيضاً تأتي محاولات البشر الحثيثة للبحث والتحليل وتحديد المسبّباتٍ والتبريرات المنطقية لما يحدث حولهم: فثمة مَن يعتقد مثلاً أن كوفيد-19 حلّ على الأرض لتطهيرها وخفض معدّلات ثاني أكسيد النيتروجين في هوائها تفادياً لأزمة قد تؤدّي إلى محو البشرية جمعاء، لذا فهذا المرض، نسبياً، أهون الشرّين (موت 1% من السكّان مقابل إنقاذ سكّان الأرض ومستقبلها).
وثمة مَن يبرّر اغتصاب الأب لابنته مثلاً بمرضٍ نفسيّ أصاب الأب، الذي قد يكون قد تعرّض لاغتصابٍ هو الآخر حين كان صغيراً، علماً أن البحث ما زال جارياً حتى اليوم لتحديد ما الذي يجعل، في الظروف نفسها، فرداً يتّجه نحو تكرار السلوك المؤذي الذي تعرّض له فيما يتجه آخر نحو رفضه تماماً والعزوف عن كلّ ما يمتّ له بصِلة (أهو الشرّ؟).
وثمة أيضاً مَن يرى أن القتل الممنهج مرض نفسي أُطلقت عليه علمياً تسمية Syndrome E أي متلازمة الشرّ، ومن أعراضها المحدّدة تراجع حساسية الفرد تجاه العنف، العدوى الجماعية، الحماسة المفرطة، التكرار القهري، التبعية البيئية وغيرها.
في اللغة العربية، يُرادف الشرّ السوء، وهو في الإسلام ما يُلقي به الحاسد حين يحسد مِن تَمَنٍّ بزوال النِّعَم، وهو أيضاً ما يتأتّى عن غاسقٍ إذا وَقَب، وهنا تختلف التفاسير لتشير إلى الظلمة الدامسة بمعنييها الحرفي والمجازي وهي في الحالتين تسهّل انتشار العبث والفساد. واللافت الإشارة المباشرة إلى شرّ ما خلق، إذ أُحيلت هذه الإشارة إلى جميع المخلوقات لكأنّ كُلّ ما خُلق يحمل شرّاً داخله، كما أُحيلت أيضاً إلى اليهود وفقاً للواقع السياسي عند نزول الآيات، وإلى إبليس وذريّته أو كلّ ذي شرّ خلقه اللّه. كما أن الشرّ غالباً ما يرتبط في النصّ القرآني بالمكان أو المكانة (شرٌّ مكاناً). إذاً، فالشرّ موجودٌ، في الظلام، وفي البشر، وفي إبليس، وفي جهنّم على أقلّ تقدير.
الشرّ يحمل وجهين
فلنترك إبليس جانباً، لأنه والشرّ مترادفان إلى حدّ ما في الديانات السماوية، وقد بَلَسَه الله فطرده ومنع عنه رحمته. وُجد الشيطان ليوسوس في النفوس، وليذهب بالناس إلى الهلاك، وليعطي تفسيراتٍ لما يقوم به البشر الذين استفحل شرّهم حدّ الإفادة حتى من الشيطان واستخدامه ليبرّروا أعمالاً غير إنسانية من فعلهم.
في المسيحية يولد البشر مخطئين، لأنهم ورثوا الخطيئة الأولى عن آدم وحوّاء اللَّذين وسوس لهما الشيطان. وفي الإسلام تجرّأ الشيطان على عصيان الله فلم يسجد له. إذاً فمنه الشرّ وهو أصله، وبغياب الشيطان ينعدم الشرّ من الوجود. لنحتفظ من ذلك بأن الشرّ بحسب الأديان يولد مع البشر، سواء كلّهم أم بعضهم. ولنترك جهنّم أيضاً خارج الموضوع لأنها بتعريفها المكان الذي سيؤول إليه مرتكبو المعاصي والكفرة وهي شرّ المكان وبئس المصير بحدّ ذاتها.
يعتبر المنظّر في الفلسفة الاجتماعية فيليب كول أن الشرّ بشكله الخالص (أي الشر بهدف الشرّ فقط) غير موجود، وهو مفهوم من اختراع البشر، والأهم، يضيف، أن مفهوم الشرّ لا معنى له، كما أنه يعتّم على الأسباب الحقيقية للأحداث ولا يضيف شيئاً إلى تفسير سلوك البشر
ولنتابع معاً تسلسل الأفكار. الشرّ هو السوء وهو يحمل وجهين: وجهٌ يوصّف حالةً ما، وهو نتيجة موجودة لعوامل أخرى، كالإعصار الذي يهدم المنازل ويزهق الأرواح وهو بالتالي شرّ طبيعي ملموس، ووجهٌ أخلاقيّ يفتح على التأويل والتحليل وتحديد المسؤولية. وفي هذا السياق، تصبح الجائحة إذا كانت غير مدبّرة شرّاً طبيعياً، وتتحوّل إلى شرّ أخلاقي إذا كانت مدبّرة، وهو ما تشير إليه النظريات التي ملأت صفحات التواصل الاجتماعي مؤكّدةً أن الصين نشرت فيروس كورونا لتتفوّق على العالم وعلى منافِستها الشريرة مثلها.
وفي هذا السياق أيضاً يكون التفجير غير النووي الأضخم في العالم، أي تفجير مرفأ بيروت، شرّاً طبيعياً إذا كان غير مفتعل وشرّاً أخلاقياً إذا كان مفتعلاً. وهو السؤال الذي طرحه كلّ لبنانيّ، وعربيّ، وأجنبي، وبأشكال متعددة منذ لحظة التفجير الأولى، وتوالت التفسيرات، بدءاً من المفرقعات النارية مروراً بشرارات اللحام ووصولاً إلى القضاء والقدر، في سعيٍ للتملّص من الوجه الأخلاقي لشرّ لا يحمل وجهتي نظر ولا مجال للمفاضلة بينه وبين شرّ آخر أهون منه.
وحين يكون الشرّ أخلاقياً يتحتّم معرفة مصدره أو مسبّباته وهكذا يمكن أيضاً إثبات جدواه كمفهوم. هل سبب الحسد مثلاً شرٌّ في نفس الإنسان، أم أنه ناتجٌ من عوامل تتعلّق ببيئته ونشأته وظلمٍ ما (شرّ) حلّ به؟ هل يُعقل اعتبار أن مصدرَ الشر شرٌّ آخر، وهل يجعلنا هذا نتقدّم وإنْ خطوة واحدة في تحليلنا؟ ثم هل الشرّ وجهة نظر، أو لائحة من المعاصي التي ينبغي عدم ارتكابها تحت أي ذريعة؟
ابحثوا على الإنترنت عن الأمهات اللواتي يعلّمن أبناءهنّ الجنس عبر ممارسته معهم وستجدون آلافاً مؤلّفة. هل هذا شرٌّ أم خير؟ شرّ ستقولون طبعاً، في حين يتمحور حديث الأمهات كلّه حول منح أبنائهن التجربة وحول واجبهنّ كأمّهات. اطرحوا السؤال من وجهة نظر الأبناء، وستجدون الكثيرين يقولون إن الوصم الاجتماعي الخاص بسفاح القربى إلى زوال. أذكر فيلماً تساعد فيه الأم ابنها على الخروج من إدمانه الهيرويين القاتل، وتكون إحدى الوسائل المساعِدة ممارسة الجنس معه لتعيد له أيّ إحساس بعد أن فقد طعم كلّ شيء. أذكر جيّداً كيف تركني هذا الفيلم مشدوهةً أمام معضلة أخلاقية تمّ تصويرها بدهاء شديد.
هل الشر الخالص موجود؟
يأخذنا هذا إلى ما يقوله المنظّر في الفلسفة الاجتماعية فيليب كول حول أسطورة الشرّ. يخلص إلى أن الشرّ بشكله الخالص (أي الشر بهدف الشرّ فقط) غير موجود، وهو مفهوم من اختراع البشر في وصفهم لأنفسهم. والأهم، يضيف كول، أن مفهوم الشرّ لا معنى له، كما أنه يعتّم على الأسباب الحقيقية للأحداث ولا يضيف شيئاً إلى تفسير سلوك البشر. وهو يلتقي في ذلك إلى حدّ ما مع تيري إيغلتون، المفكّر الماركسي الذي يرى أن الشرّ الصرف نادر للغاية. فغالباً ما تكون هناك تفسيرات لتصرّفات البشر منها، مثلاً، المنفعة التي تَبيّن في إحدى التجارب العلمية أنها تشكّل دافعاً أساسياً حتى لدى الأطفال الخيّرين بطبيعتهم (والمنفعة هي الباب الذي غالباً ما يدخل منه المتحرّشون إلى عالم الطفل).
اللغتان العربية والإنكليزية تفردان مصطلحاً خاصاً بالشر وآخر خاصاً بالسوء، فيما الفرنسية لا تميز بين السوء والشر، والإسبانية تشبه الفرنسية بأنها تشير إلى الشرّ عبر مصطلحات ذات جذر واحد... فهل في هذا إشارة إلى أن الشر الصرف موجود في بعض الحضارات دون غيرها؟
واللافت أن اللغتين العربية والإنكليزية تفردان مصطلحاً خاصاً بالشرّ (Evil) وآخر خاصاً بالسوء (Bad)، فيما الفرنسية لا تميّز بين السوء (Mal) والشرّ (Mal)، والإسبانية تشبه الفرنسية بأنها تشير إلى الشرّ عبر مصطلحات ذات جذرٍ واحد هو Mal أيضاً (Malo, Malevelo, Malefico) لكن كلاً من هذه المصطلحات يشير إلى درجة مختلفة من الشرّ. والرومانية أيضاً تستخدم المصطلح نفسه في الإشارة إلى ما هو سيئ وما هو شرّير (rău) فيما اليونانية تربط الشرّ بالشيطان وبالمعاصي مباشرةً فلا يجد المرء في اللغة اليونانية كلمةً خاصة بالشر خارجة عن هذين المعنيين. فهل في هذا إشارة إتيمولوجيّة إلى أن الشرّ الصرف موجود في بعض الحضارات دون غيرها؟
اختلف المفكّرون الحديثون حول مفهوم الشرّ. ففي حين رفضه بعض المنظّرين الأكثر حداثةً، تبنّاه آخرون من مثل إيمانويل كانط الذي رأى أن البشر أجمعين لديهم ميولٌ إلى الشرّ تسيطر عليهم بشكلٍ كلّي إذا حلّ فسادٌ ما فيهم. لكن الذي بقي موضع سؤال في منطق كانط هو: إذا كان جميع البشر يحملون شرّاً ثابتاً في دواخلهم، فكيف يمكن إصلاحهم من هذا الشرّ؟ من الضروري أن يكون هذا الإصلاح ممكناً، يقول كانط، لأنه واجب علينا، لكن الرجل لا يقدّم حججاً مقنعة بما يكفي ولا وسائل تحقق فعلاً هذا الإصلاح.
من جانبه، كان فريدريك نيتشه شرساً في مقاربته لمفهوم الشرّ، معتبراً أن الشرّ نسبي وأنه مقاربة خاصة بالعامة لا يعتمدها الأقوياء إلا حين يسوّقون أفكارهم للعامّة، وهو الفيلسوف الذي تجرّأ على قتل الإله وجميع القِيَم، وجاهر بأن الذين حقّقوا أعظم قدر من التطوّر هم نفسهم الأقوياء والذين يغلب الشرّ على نفوسهم.
بعد هذا العرض المُقتضب عن الشرّ، تبقى أسئلةٌ تتردّد وسع المدى: هل ستسود الظلمة التامة في بلادنا؟ مَن الذي يريد لعيوننا أن تعمى فيحاول فقأها؟ مَن الذي يغتال الفكر بطلقاتٍ في رأسه؟ ومَن الذي فجّر ميناء بيروت وترك الأرواح تزهق تحت ركام المدينة؟
وبين معتنقي مفهوم الشرّ ورافضيه، يأتي نيتشه ليذكّرنا باحتمال أن يكون هذا كلّه مخطّطٌ من نسج الأقوياء القادرين، كالأمّهات القوّامات على أبنائهنّ الأكثر ضعفاً، واللواتي يقنعنهم بأنهم يحتاجون إلى مَن يعلّمهم وبأنهن يقدّمن لهم خدمةً من باب دورهن المقدس كأمّهات (راجعوا ما نقلته أعلاه عن ألسنة هؤلاء الأبناء كما كتبوا).
وبانتظار أن تظهر الحقائق، نشخص نحن المتفرّجين على مشاهد أقسى من أن نتحمّلها، فيما احتمال وجود شرّ صرف يغرز كالحيّة أنيابه في جلودنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.