شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
عن الانتظار وهوس الاحتمالات وعن وصايا محمود درويش في الحب

عن الانتظار وهوس الاحتمالات وعن وصايا محمود درويش في الحب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 26 أكتوبر 202212:02 م

تندرج المادة ضمن ملف "الانتظار... رنينُ هاتفٍ في صحراء"، إعداد وتحرير تمّام هنيدي.


الحياة درس طويل في الانتظار، لا شك، إذ أن الزمن يمثل جوهرَ الوجود وكنهَه، فمنذ اللحظة التي يولد فيها الإنسان، إلى أن يموت، كلّ شيء يقاس بالوقت، ذلك أن وجوده بحدِّ ذاته وجودٌ مؤقت. كل لحظةٍ تمضي لا يمكن استردادها، فكل إنسان يعيش كينونته وينظر إلى ماضيه أو غدِه بوصفه كائناً زائلاً، وفي ذلك إحدى نقاط ضعفه وقهره ومواجهته مع فكرة الموت، التي منها ابتدأ التفلسف وابتدأ تفكير الإنسان في ذاته وفي علاقاته مع كلّ ما يحيط به. ومن هنا كانت مسألة الانتظار موضوعة عميقة ومغرية في الأعمال الفنية والأدبية كأحد أجوبة الإنسان ومحاولاته في مواجهة الزّمن على مرّ التاريخ.

الانتظار تجربة وجوديّة

يمكن وصف قصيدة محمود درويش الطويلة "حالة حصار" بأنها معلقة في الصمود والمقاومة، ليس بالمعنى الخطابي والتعبوي الذي قلّما يخدم القضايا التي يدافع عنها، بل المقاومة بمعناها العميق الإنساني الهادئ البعيد عن المنابر والأيديولوجيا والأحزاب والاصطفافات السياسية. على المستوى الشعري فإن قصيدة مثل قصيدة "أحنّ إلى خبز أمي" التي كتبها محمود درويش في زنزانته، لا يُمكنُ أن تُصنّف إلا في خانة شعر المقاومة، وهي من أكثر القصائد رسوخاً في الذاكرة التي يحملها الفلسطيني والعربي في كلّ مكان، في الداخل أو في المنافي والمغتربات، لا سيما بعد أن قدمها الفنان مارسيل خليفة كأغنية، اخترقت الذاكرة وكان لها عميق الأثر في تثبيت الانتماء الفلسطيني.

كأن هذه القصيدة وثيقة تاريخية شعرية تخصّ الإنسان عموماً، ولعلّها تتركُ أثراً أكبر من كلّ الوثائق السياسية. وبوسعنا أن نذكر قصائد كثيرة ساهمت بترسيخ فلسطين كوطن وقضية، بنبرة في غاية الهدوء والعمق الإنساني المديد، مثل: "في القدس"، "عصافير الجليل"، "لبلادنا"، "كوشم يدٍ في معلقة الشاعر الجاهلي"، "تصبحون على وطن"، و الكثير من القصائد  التي تحفر عميقاً في الوجدان، سواءً للشاعر الراحل محمود درويش أو غيره، فهي بالإضافة إلى شعريتها العالية صارت تمثل ذاكرة ثقافية ووطنية، فضلاً عن بعدها الجمالي.

في قصيدة "حالة حصار" يرصد الشاعر صوراً لعذابات الإنسان الفلسطيني ولحظات متعددة لتشبثه بوجوده اليومي والتاريخي، تختزن الكثير من ملامح الوجع الحافل بالانتظار.

هنا،عند مُنْحَدَرات التِّلال
أمام الغروب وفُوَّهَة الوقت
قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظل
نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ وما يفعل العاطلون عن العمل:
نُرَبِّي الأملْ

هنا، عند مُنْحَدَرات التلال

أمام الغروب وفُوَّهَة الوقت

قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِ

نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ وما يفعل العاطلون عن العمل:

نُرَبِّي الأملْ.

إنه التأرجح بين اليأس والأمل، بين واقع مُعاش وواقع منتظَر. يقول محمود درويش في هذا المقطع من قصيدته: "نفعل ما يفعل السجناء، وما يفعل العاطلون عن الأمل". وما الذي يفعله سجين في زنزانته، أو عاطل عن العمل سوى أنه يتعايش مع لحظتهِ الساكنة أو الثابتة، ويعيش على هامشها أو في جوهرها حالةَ انتظار/أمل.

في القصيدة نفسها يقول: "هنا بعد أشعار أيوب، لم ننتظر أحداً"، في وصفه لحالة الفلسطيني الذي يحمل على كاهله تركة كبيرة من الزمن الثقيل، كأنه منذ بدء الخليقة واقفٌ على أرضه، وكأن لحظته التاريخية صارت لحظةً أزلية ليس لها بداية ولا نهاية. وفي لحظة يأس وقنوط من واقع لا يتغير، من واقع موصد على الألم، صار أيوب مجازاً للصبر الطويل للفلسطيني الذي استعصى على ليله المعتم انبلاجُ الضوء ولحظة الخلاص، وكأن القصيدة درسٌ في الانتظار الذي هو بحدّ ذاته سيصبح فعلَ مقاومة في وجه الزمان وجيشه كما يقول صاحب "ورد أقلّ"، وكأن القصيدة أيضاً درسٌ في التحدي، فأحد أشكال البطولة هو الوقوف "هنا الآن عند منحدرات التّلال".

أفكر، من دون جدوى:

بماذا يفكر من هو مثلي، هناك

على قمّة التل، منذ ثلاثةِ آلافِ عامٍ

وفي هذه اللحظة العابرة؟

فتوجعني الخاطرة

وتنتعش الذاكرة.

نحن مثخنون بالأمل وننتظر، وكلنا لا نزال ننتظر، والحياة ليست سوى تجسيدٍ للانتظار

كأنه في هذه اللحظة التي كان يقف فيها، كانت تقف معه سلالتهُ كلها، هناك في ذلك الحيز من الكون. يقفُ منتظراً جواباً ينتشلهُ مما كان فيه. كأن هذا المأزق الوجودي ليس مأزقه الشخصيّ، بل مأزق كلِّ إنسان في تلك القطعة من الجغرافيا، في حياة يكتبها ويتلوها العبث. ليعود ويقول في تكثيفٍ عميق بين الرمز والمجاز:

الحصار هو الانتظار على سلّمٍ مائلٍ وسط العاصفة.

و في مقطع آخر:

إلى حارس:

سأعلمك الانتظار

على باب موتي المؤجل

على باب مقهى، فتسمع دقّات قلبك أبطأ، أسرع

على مقعدٍ حجريٍّ، فقد

نتبادل أسماءنا، قد نرى

شبهاً طارئاً بيننا.

فالانتظار ليس مجرد وقتٍ ضائعٍ، وليس ارتهاناً لسلطةِ واقعٍ لا يأتي، ولا أملاً مراوغاً، كما أنه ليس مجرد حالة حصار أيضاً، بل يكون أحياناً عقيدةَ من يتمسك بحاضرٍ قد يضيع، في لحظةِ يأسٍ عابرة. إنه الأمل العنيد، الذي ينقله الفلسطيني من جيل إلى جيل، وحنينه الأزلي إلى لحظةِ ضوء منتظَرة.

وصايا الحبّ والانتظار

يقول إيميل سيوران: "نحن مثخنون بالأمل وننتظر، وكلنا لانزال ننتظر، والحياة ليست سوى تجسيدٍ للانتظار". كأنه الأمل الذي يجرحنا. ويقول صاحبُ "ذاكرة للنسيان": "أجمل ما في الصدفة أنها خالية من الانتظار. أي أنها خالية من الألم". كذلك يقول:

في انتظارك، لا أستطيع انتظارك

لا أستطيع قراءة دوستويفسكي

ولا الاستماع لأم كلثوم أو ماريا كالاس وغيرهما

في انتظاركِ تمشي العقاربُ في ساعةِ اليدِ نحو اليسار

إلى زمنٍ لا مكانَ لهُ. في انتظاركِ لم أنتظركِ: انتظرتُ الأزل.

وفي قصيدة أخرى يقول:

هناك على المقعد الخشبيّ المقابل

بنتٌ يفتتُها الانتظارُ وتبكي.

كأن الزمن يصير غباراً وسراباً، وتتعطل الحياة. إنه العاشق الذي يتجمد الوقت في ساعة يدِه، ولا يعرف كيف يتعاطى مع الزمن في غياب من يحب، حين يمرّ الزمنُ كالسلحفاة ويقتله الضجر. ثمة خذلان يدمي القلب أيضاً حين ينتظر العاشق سرابَ من يحبّ، ولا يأتي.

"أجمل ما في الصدفة أنها خالية من الانتظار. أي أنها خالية من الألم"... محمود درويش

في مجموعته "كزهر اللوز أو أبعد" يصف درويش خلال قصيدة "كمقهى صغير هو الحب" متعةَ الانعتاق من الوقت، والتحرّر من الانتظار، إذ يقول:

لم ينتظر أحداً

ولم يشعر بنقصٍ في الوجود

أمامه نهرٌ رماديٌ كمعطفِهِ

ونورُ الشمس يملأ قلبه بالصّحوِ

والأشجارُ عاليةُ.

ثمّ يقول:

في اللا انتظار أصاهرُ الدوري

في اللا انتظار أكون نهراً.

ولعلّ قصيدة "درس من كاما سوترا"، أشهر قصائد الانتظار في شعر محمود درويش، يقدم فيها وصاياه في الحب والانتظار. وكاما سوترا هو نصّ هندي قديم يتناول السلوك العاطفي والجنسي. "كاما" تعني الرغبة، بينما "سوترا" تأتي بمعنى الحكمة، وبعبارةٍ أخرى هو درس أخلاقي في الحب والشهوة وفي ثقافة الجسد، أو ما يمكن وصفه بعلم الحب، إذا جاز التعبير. ومع أن لكل حبٍّ قوانينه الخاصة أو براكينه التي لا يمكن ضبطها على أي إيقاع، لكن الشاعر الراحل يحاول هنا أن يستلهم تجربة كاما سوترا، ويكتب نصَّه الملحمي:

بكوبِ الشراب المرصَّع باللازورد

انتظرْها

على بركةِ الماء حول المساء وزَهْر الكُولُونيا

انتظرها

بصبر الحصان المُعَدّ لمُنْحَدرات الجبالِ انتظرها.

"وإن الموت، مثلي، لا يحبُّ الانتظار"

أما في قصيدته التي لا تقلّ شهرة عن السابقة والمعنونة بـ"في الانتظار"، يقدم درويش وصفاً ساحراً لحالة العاشق حين يتأخر الحبُّ عن موعده أو حين تتأخر الحبيبة، وهو يرصد احتمالات غيابها:

في الانتظار، يُصيبُني هوسٌ برصد الاحتمالات الكثيرة.

ويختم قصيدته، بالتفاتةٍ ذكيّة لاحتمالٍ يجب أن يظلَّ في الحسبان:

فإنّ الموت يعشق فجأة، مثلي،

وإن الموت، مثلي، لا يحبُّ الانتظار.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image