تندرج المادة ضمن ملف "الانتظار... رنينُ هاتفٍ في صحراء"، إعداد وتحرير تمّام هنيدي.
سنكون متفائلين؛ يدفعنا شيء ما نحو ذلك!
نفتح أعيننا كل صباح على بهو من الفراغ الذي يمتلئ على مهله بالأفكار والأحلام والذكريات. لا يمكن لشيء أن يشوّش الغياب. نحتاج وقتاً قصيراً نرتّب فيه فوضى الهواجس والخواطر كما نرتّب أثاث البيت: نطوي غطاء السرير، نعيد فرشاة الأسنان إلى مكانها، نفرغ صحون السجائر من أحاديث الأمس... فنجان القهوة الأول كفيل بتدوير عجلة الوقت كما ينبغي لها أن تكون، أو على الأقل كما نشتهي أن تكون. لا مطلع الأغنية الأولى يجد طريقه إلى المسامع، ولا فوضى الشارع تقلق خلوة البال.
"القهوة الأولى هي أول دقيقة في الوقت قبلها يكون الزمن نائماً. قبلها يكون كل شيء في حالة موت... ونافذة مفتوحة للشمس وللهواء، ويد بعيدة، وناي ينادي البعيد. ولكنها، قبل ذلك، هي أول خطوة أخطوها نحو حياتي" محمود درويش
إنها إعادة تشغيل اصطفائية لعقولنا، تطرح الرواسب في سلة المهملات أو الأرشيف، وتشخص النواقص والرغبات إلى السطح. وغالباً ما تميل للتفاؤل، كما يقول محمود درويش: "والقهوة الأولى هي أول دقيقة في الوقت قبلها يكون الزمن نائماً. قبلها يكون كل شيء في حالة موت... ونافذة مفتوحة للشمس وللهواء، ويد بعيدة، وناي ينادي البعيد. ولكنها، قبل ذلك، هي أول خطوة أخطوها نحو حياتي".
لعل مراكز الإرشاد والدعم النفسي تعمل بشكل أساسي على تحسين الأداء في هذه اللحظة الخاصة والباكرة من كل يوم. فما هو السرُّ في برنامج التشغيل السحري الذي يدافع عنا ما لم يصبه فايروس اليأس أو حمى الكآبة؟
أستطيع القول بأنه الانتظار، بمعناه الواسع. نحن نعيش في حالة متناوبة متكررة (حركة نوّاسية) ما بين ثلاث لحظات: الماضي وهو الذاكرة، والحاضر وهو الآن، والآتي وهو الانتظار. وليست أفكارنا إلا حصيلة المجموع الجبري لمدى هذه اللحظات، لكن الانتظار، مهما قلّت نسبتُه، يأخذ دور الدينامو الذي يعطي الشرارة الأولى، ويحافظ على الشحن، وبالتالي قدرتنا على الحركة والانفعال والمبادرة. وهو ذو شحنة إيجابية دائماً بما يحمله من وعد، إذ يغرينا بالاستمرار في لحظة السعادة الآنية، ويؤمّلنا بالتحوّل في لحظة الحزن أو عدم الرضا، حتى وإن كان مبهمَ الصورة وغير محدّد الوجهة، فنحن لا نسيطر دائماً على الظروف، ونخشى من المفاجئ وغير المتوقع.
الانتظار دفاعٌ عن النفس
يقال إن الغاية الأساسية التي يقصدها الإنسان من كل أفعاله وأقواله هي استرضاء الذات، وإن عقله يعمل بصورة مستقلة عنه، فلا يستطيع أحدنا، على سبيل المثال، أن يفرض على عقله أول موضوع يفكر به فور الاستيقاظ؛ هذا ما استدل به مارك توين ليثبت أن العقل يقوم بجملة من التصفيات والترسيبات ينتقي من خلالها الأفكار وحتى الأحلام التي تحقق رضاه (مصلحته إن صح التعبير). فعقل الحلم هو نفسه عقل اليقظة في رأيه. أي أن العقل في عملية ترشيح دفاعية مستمرة تستند إلى التجربة/الذاكرة من أجل تحقيق الرضا الذاتي.
يشفّ ذلك عن شيء من الانتظار بما يعنيه من أمل بقدوم المُرضي أو غير المهدِّد. هكذا يكون الانتظار دفاعاً عن النفس، ولكن ممَّ؟ ربما من جهلنا بالآتي، وعدم القدرة على توقعه دائماً.. ألسنا ننتظر دائماً شيئاَ مبهجاً، ولكنه غير محدد، نشعر أننا نستحقه؟ ربما تعبر عنه "بكرا أحلى". ألسنا نخاف أيضاً من شيء مفاجئ غير محدد يقلب توازناتنا، حتى الهشّة منها؟ وقد يتفق ذلك مع "اللهم اكفِنا شرَّ اللائذات".
ألسنا ننتظر دائماً شيئاَ مبهجاً، ولكنه غير محدد، نشعر أننا نستحقه؟ ربما تعبر عنه (بكرا أحلى). ألسنا نخاف أيضاً من شيء مفاجئ غير محدد يقلب توازناتنا، حتى الهشّة منها؟
يميل بنا الانتظار إذن إلى التفاؤل، لكنه، إذ يجمع النقيضين، يحملنا على التوجس من خيبة الأمل كذلك. لنا أن نتخيل أمّاَ تنتظر ابنها المعتقل؛ هي، بالإضافة للبكاء والدعاء، في حالة تأهبٍ مستمرة وتحفُّزٍ حواسيّ دائمٍ للحظة الخبر السار، لكنها كذلك في حالة فزع من الخبر المفجع. أو المعتقل في زنزانته، حين تثير زوبعة الأفكار ثلج التفاؤل وغبار المخاوف معاً. يتلهّى كثيراً بالذاكرة، تفاصيل مزدحمة تتقافز في خياله هروباً من "الآن" المرير، لكنه يفتح بوابة الانتظار دون آمال جارفة فلا يحلم إلا بتكرار ذاكرته.
أذكر حين جلسنا أنا والدكتور جلال نوفل في "الجماعية الخامسة" في أقبية "آمرية الطيران" التابعة للمخابرات الجوية، وصرنا نسرد الذكريات ونخطط لتكرارها بالسهر في نفس الأماكن ومع ذات الأصدقاء ونغني نفس الأغاني. اتفقنا وقتها على أغنية: "رمّانك يا حبيبي، يا حبيب قلبي وطبيبي، رمّانك دوا قلبي، يا ريتو من نصيبي". إيحاءات كلمة "رمّانك" كانت كفيلة بِذرِّ لحظات الحب والجنس البرّاقة في جو الجماعية الأصفر، لكنها نفخت معها القلق من هجران الأحبّة وتنكّرهم والخوف من ديمومة الزنزانة؛ كانت أشبه بفراشات ملوّنة في حيّز محترق.
خرجنا بعدها بزمن من المعتقل، ولم نسهر سهراتنا الموعودة ولم نغنّ أغنيتنا الوحيدة! الذاكرة والانتظار في حالة تراءٍ دائم، أحياناً يأخذ الانتظار حالة مرآة واهمة، وأحياناً يكون انكساراً لشعاع الذاكرة. يا ترى هل هناك من يحبّ أن يكرر ماضيه كما هو، بدون تعديلات على الأقل؟ هل يعني ذلك أن الانتظار حالة ثوريّة على الذاكرة؟
الانتظار وصناعة الضحية
أحياناً تُدلّس الحقائق وتُبث الشائعات لخلق الفزع من قادم وبيل. هنا نقع في انتظار مُصنّع أو مبرمج، لا ينبع من ذواتنا بل من قابليتنا للانقياد. تمارس القوة بكافة أشكالها مثل هذه الألاعيب في سبيل فرض سلطتها أو إشغال الجموع بأفكار وهمية لتمرير أخرى خبيثة. الانتباه لهذه النقطة جعل من قصيدة قسطنطين كفافيس "في انتظار البرابرة"، ليس قصيدة خالدة فحسب بل ملهمة للكثير من الأعمال الأدبية والفكرية. نرى من ذلك مقالة وكتاباً لمحمود درويش ورواية لـ ج.م.كوتزي بنفس العنوان، ومقالةً لإدوارد سعيد "البرابرة على الأبواب".
يبدأ الانتظار مع أول الإدراك الواعي، ومع انفتاح الوعي على أفكار من مثل: النهاية، والعقاب، والموت... تنتشي بذرة اليأس الخفيّة، ويكاد يكون تأثيره مهملاً، إلا أنه، ولا ريب، آخذ بالنموّ
إنها لعب حاذق لتصنيع العبيد وبالتالي ترسيخ سلطة أصحاب القدرة. قامت قوى عظمى واحتُلت بلادٌ ونشأت أنظمة ديكتاتورية من خلال هذا النوع من الانتظار، لأنه كما يقول كفافيس: "كان هؤلاء البرابرة حلاً من الحلول". هل يعني ذلك أن صناعة الانتظار جزء من عملية السيطرة والهيمنة والاحتلال؟ محمود درويش يقول أيضاً: "متى يَضربون ليخلص القاعدون على عروش الانتظار من هذا القلق، ومن هذا الجسد في غارة واحدة، ولينصرفوا إلى إدارة شؤون الرثاء، والتفاوض المجاني بلا عقبات". كأنها عملية طويلة الأمد لصناعة الضحية المستسلمة.
يبدأ الانتظار مع أول الإدراك الواعي، ومع انفتاح الوعي على أفكار من مثل: النهاية، والعقاب، والموت... تنتشي بذرة اليأس الخفيّة، ويكاد يكون تأثيره مهملاً، إلا أنه، ولا ريب، آخذ بالنمو. فمهما انتظر الحبيب حبيبه، والقريب قريبه، والحالم تحقق حلمه، والمجتهد نتيجة جهده، فهم جميعاً سائرون نحو نهاياتهم. كثيراً ما يتحاشون التفكير بها، لكنهم يعرفون أنها بانتظارهم وإن لم يعيروها اهتماماً.
وكلما أشخص اليأس نفسه، بعد الصدمات الكبيرة والفشل المتكرر، كلما انحسرت نافذة الانتظار. وهكذا لا يبقى أمامنا إلا الفراغ، وخلفنا ذكريات لا يمكننا تكرارها؛ إنه إحساس معمّم بلا جدوى الوقت، فلا يعود هنالك من داع له. أليس ذلك محفّزاً كافياً للانتحار؟ فهل يشكل الانتظار جزءاً من تعريف العيش أو الحياة بعيداً عن التعريف الفيزيولوجي للإنسان الحي؟ الإنسان الحي هو الإنسان القادر على الانتظار رغم كل الظروف. هكذا لا يصح أن نحكم على من ينتظرون النيزك الذي سيدمر الأرض بأنهم يائسون أو مكتئبون؛ إنهم ينتظرون شيئاً محدداً بعينه على الأقل.
فحتى وإن لم يأت أحد في النهاية، على الأقل يعطي الانتظار معنى آخر للفراغ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون