يأتي هذا النص كجزء من سلسلة نصوص ومقالات بعنوان "أن تكوني أماً لفتاة في البلاد العربية"، تكتبها كاتبات وصحافيات يعشن في بلاد عربيّة متنوعة، ويشاركن تجاربهن كأمهّات لفتيات في هذه البلاد.
لقد تعلمت منها ما لم أستطع أن أتعلمه طوال حياتي، نسير معاً عند أطراف مدينة رام الله، يتعثر وجهانا بأزرار الياسمين. أمشي مسرعةً لأن ثمة ما يشغلني بينما تقف سرو وتنشغل بالياسمينة وتقطفُ زهرة وتهديها إلي. اعتادت فعل ذلك كلما عثرت على وردة ما أو زهرة. بحثت طويلاً في ذاكرتي إذا كنت قد فعلت ذلك يوماً ما. لم أعتد قطف الورد، أو إهداءه لأي شخص، لكنها بطريقة مدهشة تمتلك تلك الحساسية العاطفية التي تقودها نحو فعل وقول أمور تندرج تحت خانة الحب.
خمسة أعوام مضت منذ قررت أن أكون أماً لفتاة. القرار لم يكن سهلاً بعد أن واجهت سلسلة متعاقبة من القضايا والمصاعب والمخاطر التي تمر بها معظم بنات مجتمعاتنا. لكنني كنت أريدها أن تكون، وأن أخلق من وجودها فرصة لتغير واقع الحياة. هذا ما كنت أفكر فيه قبل أن أكون أماً لفتاة بذكاء مدهش وشغف عالٍ وحب استطلاع، قبل أن أكتشف نفسي وأكتشف وجه الحياة الآخر، الذي يحمل ذلك الحب الطوعي، والقوة الناعمة بتأثيرها اللانهائي.
لكنني كنت أريدها أن تكون، وأن أخلق من وجودها فرصة لتغير واقع الحياة
تملّكني الخوف في البدايات. لم أكن متأكدة من قدرتي على تحمل أعباء التربية كمهمة قررت القيام بها. لم أعرف ما الذي يلزمني لتكون ابنتي قوية حرة متمكنة تدافع عن حقها وحريتها وإرادتها، وتعرف ماذا تريد. عرفت دوماً ما لا أريده، من تجربتي الخاصة وعلاقتي مع والديّ، التي حملت بعضاً من الألم النفسي - مقارنة مع بنات جيلي اللواتي رضخن أمام ضغوط الزواج المبكر والحجاب والمنع من ممارسة أبسط الحقوق - وخصوصاً عندما قررت التمرد والتغيير ولم أجد من يدعم حقي. وفكرت بأنه الوقت المناسب لتغيير مجتمعٍ يرى المرأة بغض النظر عن عمرها كائناً درجة ثانية، تابعاً لا معنى لقراره ووجوده. وحيرتني الأدوات الممكنة لهذا التغيير الذي يحمل مجازفة عالية.
كان علي أن أفكر أولاً بابنتي: حالتها النفسية، المشاكل التي ستواجهها إذا ما اختلفت عن عادات مجتمعها دون أن تشعر بالاغتراب والانفصال وهي تواجه تخلفه، والضغوط التي تتعرض لها أي فتاة تمارس حريتها. وفي نفس الوقت، ما ستكون عليه بعد خمسة عشر عاماً، فتاةً قوية متمكنة وذات إرادة حرة، فالحرية لا ثمن لها، هي بحد ذاتها الثمن الملاصق لوجود الإنسان وكرامته.
عرفت دوماً ما لا أريده، من تجربتي الخاصة وعلاقتي مع والديّ، التي حملت بعضاً من الألم النفسي - مقارنة مع بنات جيلي اللواتي رضخن أمام ضغوط الزواج المبكر والحجاب والمنع من ممارسة أبسط الحقوق -
لكن، مع الوقت اكتشفت السر، اكتشفت الحب، الذي يجعل من كل تلك الأمور الصغيرة والكبيرة، والصعوبات، والأزمات عادية وعابرة. اكتشفت أنني أملك الأداة السحرية لتغيير "قوة الحب". ذلك الشعور بأن ثمة كائنة أغلى من روحكِ ترغبين منحها كل ما تملكين من أدوات لتكون، ترغبين إعطاءها المهارات لتمتلك أدواتها الخاصة وقدرتها على بناء فضاء خاص يمنحنا مساحتنا الحرة في مواجهة فضاء عام متسلط ديكتاتوري يهين الإنسان ويحجم قيمة الفردية.
بمساعدة مؤسسات فلسطينية ذات قيمة ثقافية تمنح الاختلاف قيمة خاصة، وتضعه ضمن ثقافة المجتمع، كمؤسسة تامر للتعليم المجتمعي ومؤسسة عبد المحسن القطان، ومؤسسات تخلق فضاءً ثقافياً كبلدية رام الله ومكتبة المحكمة العثمانية اللتين تقومان بتنفيذ العديد من النشاطات اليومية والأسبوعية للأطفال، تساهم في دعم خياراتنا كأهل نريد أن نحمي أطفالنا من التشابه. وهذا يعني أن المؤسسات وحدها لا تكفي. لابد من أسرة داعمة وأهل يحترمون أطفالهم ويقدرون كرامتهم.
مع الوقت اكتشفت السر، اكتشفت الحب، الذي يجعل من كل تلك الأمور الصغيرة والكبيرة، والصعوبات، والأزمات عادية وعابرة.
وبكل ما أوتيت من صبر وقوة، أقمت علاقة مع طفلتي، وخصوصاً بعد أن بدأت بالسير والكلام، نتعلم معاً معنى الحرية، ونمارس معاً طقوس الحب، نخلق لنا فضاءنا الخاص، الفضاء الذي تعيش فيه يومياتها بكامل حريتها. الحدود مرفوضة، الجسد هو ملكها، وأنا هنا لأحمي حريتها من فؤوس الحطابين. أنا هنا لأحمي الغابة من حرائق المتنزهين والغاضبين من الطبيعة، حتى من نفسي حميتها، أخبرتها مراراً وتكراراً أنها حرة، يمكنها أن تفعل ما تريد ومتى تشاء. لها الحق في رفض وقبول ما تشاء، ولم أندم يوماً على ما فعلت، أخبرتها أن تكون حرة مسؤولة عن قرارها، وأنني هنا لأحمي إرادتها الحرة.
في الثالثة من عمرها كانت سرو تقول: "أنا حلوة قوية ذكية". وأضاف لها أبوها كلمة "حرة".
تعلمنا أن نعيش تفاصيلنا الغنية بالحب واللعب والمشاجرات والمصالحات الجميلة. تعلمت أن أعتذر عن كل ما يبدر مني من أخطاء. تعلمت أن ليس ثمة خارطة واضحة لإدارة علاقتنا كأم وطفلة، ثمة تجارب نمر بها معاً، نحاول أن نصل فيها لأفضل الحلول المنطقية، ليس ثمة مرفوض مطلق، وليس ثمة ممنوعات، حتى في تلك الأمور التي تتعلق بمصلحتها كنوع الطعام وكمية السكريات والحلوى، وأن كل ما هو لي هو لها، البيت بيتنا، والاختيار لها.
تقف سرو في عمرها هذا أمام المرآة عارية تتأمل جسدها، معجبة بكل تفاصيله. تسأل أسئلة محرمة في مجتمعنا (تعتبر ضمن قائمة قلة الأدب) وأجيبها بكل حب. فخورة بتلك الحالة التي تعيشها من اعتزازها بجسدها واكتشافها له في سن مبكرة. تتحدث بطلاقة وبالطريقة التي تعجبها. تمارس طقوسها التي تعجبني وتدهشني في نفس الوقت. تخبرني عشرات المرات يومياً أنها تحبني، تغضب أحياناً وتثير جنوني بأفعالها، لكننا في النهاية نتوصل لتلك الحالة الحانية من الهدوء.
في الثالثة من عمرها كانت ابنتي سرو تقول: "أنا حلوة قوية ذكية". وأضاف لها أبوها كلمة "حرة".
لا أقول إنني لست قلقة، لدي مخاوفي، وأسئلتي اليومية، وشعوري بالتقصير تجاه ما أقدمه لها، من خيارات ولغة شعرية خاصة بيننا. وأفكر لعلني أبعدها أحياناً عن خيارات أراها غير ملائمة. وأقدم لها خيارات تخصني، كمفاهيم متعلقة بالوطن، ولا أدري إذا كنت بذلك أصادر حقها بحرية الهوية، وخصوصاً أنني من جانب آخر لم أفرض عليها أي تفكير ديني محدد. وأشعر بالرضا على الأقل على هذا الصعيد. خائفة من تأثير التنميط العام في الروضة وفي المدرسة لاحقاً. خائفة من فقداني للأدوات في مرحلة ما. لكنني أدرك الآن أن تعدد خياراتها التي لا بد أن أحميها وأوفرها لها حتى تشب عن طوق الطفولة هي ما يلزمها من دعم، وبحاجة إلى دعم من أمهات يمتلكن القدرة والإرادة على منح بناتهن القوة للانطلاق بعيداً والتحليق عالياً، بحاجة إلى مجتمع أبني معه غابة تحمي غابتي، بحاجة إلى أباء ديمقراطيين، مستمعين جيدين، وبقلوب رحيمة.
تقف سرو في عمرها هذا أمام المرآة عارية تتأمل جسدها، معجبة بكل تفاصيله. تسأل أسئلة محرمة في مجتمعنا (تعتبر ضمن قائمة قلة الأدب) وأجيبها بكل حب
أعلم أني لست وحدي، نحن عائلة تحمي بعضها بعضاً. أثق بأن والدها سيحمي كافة خياراتها كما حمى خياراتي دائماً. لديها أم مصرة على أن الإرادة الحرة فوق كل خيار وأعظم الخيارات، ولديّ صبية ذكية وحرة بما يكفي لترى وتضع خياراتها كأساس لحياتها، وأن يكون الحب أعظم المشاعر بيننا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين