يأتي هذا النص كجزء من سلسلة نصوص ومقالات بعنوان "أن تكوني أماً لفتاة في البلاد العربية"، تكتبها كاتبات وصحافيات يعشن في بلاد عربيّة متنوعة، ويشاركن تجاربهن كأمهّات لفتيات في هذه البلاد.
سألت طفلتي ذات العشرة أعوام أباها ذات ليلة: "ماذا تعني كلمة Gay؟"
أخبرها أنهم أشخاص لا يميلون إلى الجنس الآخر، بل لنفس الجنس. أعلمني بهذه المحادثة، مثلما نفعل بشكل معتاد مع أي سلوك يدل على أن ابنتنا التي نظن أنها ما زالت بالحفاضات أصبحت أكبر وتدخل في منطقة الأسئلة الشائكة. تصاعد فضولي بشكل طبيعي، فسألتها في اليوم التالي: من أين عرفت الكلمة؟
سألت طفلتي ذات العشرة أعوام أباها ذات ليلة: "ماذا تعني كلمة Gay؟"
فجاءت إجابتها أن السبب أحد أبطال قنوات اليوتيوب، وهو طفل اكتشفت أن له "أُمَّيْنِ". فسألتها: "وما هو شعورك تجاه ذلك؟"
قالت: "استغربت في البداية، ثم فكرت إنهم سعداء، وهذا يخصهم وحدهم".
لا يتوقف الأمر عند المثلية فقط. أسئلتها تموج بكل ما يعترض طريق وعيها، ويصبح لها علامات استفهام، أحدّثها بوضوح وبمعلومات سليمة قدر الإمكان عن الطمث والحب والدين والله والعلاقات بين الجنسين. وأتذكر أني كنت في عمرها أحمل نفس الأسئلة لكن لا أجرؤ على التلفظ بها.
رحلة لا أرغب في أن تخوضها ابنتي وحيدة
هرعت ابنتي الصغيرة إلى مطبخ جدتها لتخبرها بنبرة فخورة أنها اشترت بالأمس وهي معي أول حمالة صدر لها. أحمر وجه أمي خجلاً، هي التي لم تشتر لي واحدة إلا عندما نبهتها خالتي إلى أني بحاجة لذلك. وتجاهلت حاجتي إلى المعلومات الموثوق بها سواء في فترة المراهقة عن الطمث والتغيرات الجسدية، أو قبل الزواج لتكوين معارفي الأولى عن الجنس.هلعت أمي ولم تعرف ما يجب أن تقوله، وما عليها أن تفعله، لم يحضّرها أحد لهذه المرحلة من التربية، فكان الحل الأمثل بالنسبة لها غض البصر عنها، والنظر إلي كأني طفلة لم ولن أتغير للأبد.
لم تكن أمي الوحيدة في تجاهل المناطق الشائكة والحميمة في تربية بناتها. تخبرني صديقاتي أنهن كذلك لم يعرفن هذه الأمور سوى في وقت متأخر للغاية
لم تكن أمي الوحيدة في تجاهل المناطق الشائكة والحميمة في تربية بناتها. تخبرني صديقاتي أنهن كذلك لم يعرفن هذه الأمور سوى في وقت متأخر للغاية. وبشكل مفاجئ ومفزع في بعض الأحيان، ولجأن أحياناً أخرى إلى صديقات أكثر خبرة أو أكبر سناً للإجابة عن أسئلتهن. هؤلاء لم تكن معلوماتهن سليمة للغاية. الأمر الذي زاد متاهات الحيرة التي وقعن فيها. بالنسبة لي، القراءة المستمرة لكتب متنوعة قدمت لي بعض الأجوبة، والأخرى اكتشفتها بنفسي على مر السنوات.
أجبرتني هذه التربية على خوض رحلة المراهقة والبلوغ وحيدة، محملة بأثقال من الحيرة والخوف من الخطأ الذي لا أعلمه، خائفة من جسدي، ومن المحظورات التي طالت قائمتها لمجرد أنه يكبر رغماً عني. كرهت حجمي الجديد ووزني الذي زاد، وانحناءات جسمي غير المطلوبة. هربت إلى الملابس الرجالية والواسعة لإخفاء نفسي داخلها ولم أتصالح مع أنوثتي سوى بعد سنوات طويلة.
من الناحية العقلية، نضجت كذلك بالكثير من الأسئلة مثل ابنتي، لكني لم أمتلك يوماً جرأة إلقائها على أي من والديّ. كانت أكثر الأسئلة بساطة تثير ربيتهما تجاهي، بل قد تحرمني حرية القراءة. الأمر الذي حدث بالفعل بمنعي من الاطلاع على كتب معينة حتى لا تفسد تفكيري، على الرغم من كونها كتباً بسيطة وشديدة الاعتيادية.
تربيت في بيئة من الهوس بحماية الفتيات. كل شيء قد يجلب الفساد ويحقق نبوءة شريرة لا أعلم عنها شيئًا. وهذا يتضمن القراءة، والصديقات والأفلام والمسلسلات، لم أعدم فقط المعلومات الموثوق بها من الأهل، لكن كذلك حاربت للوصول إلى كل قنوات المعرفة الأخرى. لسنوات، شعرت بوجوب أن أكون نباتاً حتى يحصل أهلي على بعض الراحة من هذا القلق تجاه شيء لا أفهمه.
من الناحية العقلية، نضجت كذلك بالكثير من الأسئلة مثل ابنتي، لكني لم أمتلك يوماً جرأة إلقائها على أي من والديّ.
أرغب في تجنيب ابنتي كل هذه الحيرة. أصطحبها في رحلتها قدر الإمكان. أمشي وراءها بخطوات بطيئة، فتجدني خلفها أدعمها بالإجابات على أسئلتها عندما تحتاجني، وتحافظ على خصوصيتها وتكتسب جرأة المشي وحيدة التي ستحتاجها يوماً ما.
الخوف من قص الأجنحة
لكن على الجانب الآخر، أخاف على ابنتي من المعرفة، ليس خوف والديّ اللذين رأيا أن الجهل قد يكون حماية، لكن الخوف من أن تصدم من حولها بمعلوماتها الواضحة عن الكثير من الأشياء الشائكة، من تقبلها للآخر بكل أشكاله. فهي تربت على أن الكل له حقوق متساوية ويستحق نفس المحبة أياً كان لونه أو دينه أو ميوله الجنسية. أخاف عليها من النبذ والوصم، والعزلة الإجبارية بين أشخاص لا يحملون نفس الأفكار والقيم.أعيش مع صغيرتي، في إحدى ضواحي القاهرة، في منزل صغير بعيد عن زحام العاصمة، يوفر لنا العزلة والهدوء، وعدم الاختلاط بالآخرين، إلا في الدوائر التي أختارها، سواءً عن وعي أو من دونه. تختبر صغيرتي أموراً لا يعيشها أفراد جيلها؛ أشاهد معها الأفلام والعروض الغنائية والراقصة والمسرحية، وأفتح عيونها على جانب أكثر جمالاً من الحياة، بينما يختار أهل أصدقائها خيارات مختلفةً. بعد سنوات قليلة، من المؤكد سيظهر هذا الاختلاف في التربية، فهل تُصدم طفلتي بأنها "الغريب" و"الآخر" في حياة الجميع؟
أخاف من إطلاق ابنتي للمجتمع فيشوّه ما تربت عليه في منزلي، أن يشككها في قيمها وأفكارها الحرة، يقص الأجنحة التي حرصت على اكتسابها وتقويتها لديها. زملاؤها في المدرسة الممتلئون بأفكار آبائهم القمعية، تسود بينهم تراتبيات قوة ومكانة تعتمد على المال والدين والقوة الجسمانية، محملين بهوس الهوموفوبيا والجنس. أتخيل أن تخبرهم يوماً أنها لا ترى المثليين يستحقون الموت فيسخرون منها، أو يقولون إنها ليست متدينة بما فيه الكفاية.
أتخيل سيناريوهات سوداء تتخلى فيها الصغيرة عن أفكارها ومبادئها لتلقى القبول من الآخرين، أن تضطر لمداراة ما تفكر فيه حتى لا تفزعهم منها، أن تدير ظهرها للمحبة في قلبها وتستسلم للضغط المجتمعي لتحقير أي آخر لا يشبههم.
أخاف على ابنتي من المعرفة، ليس خوف والديّ اللذين رأيا أن الجهل قد يكون حماية، لكن الخوف من أن تصدم من حولها بمعلوماتها الواضحة عن الكثير من الأشياء الشائكة، من تقبلها للآخر بكل أشكاله
لا تحمل ابنتي الغضب الذي كان في داخلي من القمع المتواصل لأفكاري، لم تخض معاركي، وأتمنى ألا تخوضها أبداً، لكن في نفس الوقت أخشى من تلك الفقاعة التي بنيتها حولها، أن أكون قد قوضت قوتها عندما وفرت لها الدعم الدائم.
أخاف من أن أكون مزدوجة. أعلم طفلتي أشياء، ثم أخبرها أن تحتفظ بها لنفسها لا تقولها للآخرين إلا لمن تثق في أنهم يشبهونها. هل أصبح نسخة معدلة من أبوي؟ أعطيها حرية المعرفة التي لم يعطياني إياها، لكن أمنعها من الظهور على حقيقتها كما فعلا معي؟
لا تحمل ابنتي الغضب الذي كان في داخلي من القمع المتواصل لأفكاري، لم تخض معاركي، وأتمنى ألا تخوضها أبداً
وصلت ليقين مؤخراً أني لا أستطيع تربية المجتمع بالكامل، ولا اختيار بيئة نقية 100% لابنتي حتى تحيا فيها، يجب علي أن أسلحها بقيمها وأفكارها وثقتها في نفسها ثم ألقيها في البحر حتى تجتازه وحيدة، لكن ربما عزائي أنها تعلم أني دوماً موجودة حولها، أمثل بر أمان لن يتزحزح مهما اختلفت معي أو مع الآخرين، بر أمان حرمت أنا وأخريات كثيرات منه لكن يمكننا أن نكونه الآن لبناتنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون