في مشهد إعلامي تقف مؤسساته المسؤولة قانونياً عن حماية قواعده وأخلاقياته عاجزة عن تمييز الانتهاكات المهنية، اجتمع عدد من مذيعي برامج التوك شو مساء الأحد 16 أكتوبر/ تشرين الأول، في احتفالية تغطية صاخبة مركزها الحياة الشخصية والحالة النفسية لمطربة مصرية شهيرة تخوض عدد من الصراعات الأسرية والشخصية.
قبلها بعدة أشهر، وفي مشهد لا يقل صخباً، احتفت تلك الوسائل الإعلامية بمشهد للمطربة نفسها على خشبة مسرح قرطاج في تونس، وهي تدعو طبيبها المعالج إلى بؤرة الضوء لتقدم له الشكر على مساندتها وتقديم خدماته العلاجية لها.
الشجاعة التي تحلت بها الفنانة شيرين في هذا الموقف والذي يسهم في رفع الوصم عن المرض النفسي – حتى وأن لم تعلن أن تلك كانت نيتها- كان مقدمة لانتهاكات طالتها وصلت حد احتجازها من دون إرادتها في إحدى المصحات النفسية الخاصة.
بعد تسرَيب معلومات مساء الأحد 16 أكتوبر/ تشرين الأول، إلى وسائل الإعلام، عن قيام محمد عبد الوهاب، شقيق الفنانة، بالتهجّم على مسكنها وضربها وإيداعها قسراً في إحدى المصحات النفسية، وسط تلميحات إلى رغبته في "الحجر" عليها، ليخرج شقيق شيرين ووالدتها لإيضاح روايتهما لما حصل، متطوعين بسرد المزيد من التفاصيل الشخصية التي تفيد بتواضع قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة، وتناول صحتها النفسية والعقلية بتفاصيل لا تتفق محقها في الخصوصية.
أستاذ الطب النفسي في جامعة المنصورة، محمود الوصيفي، قدّر عدد المصابين بالأمراض النفسية في مصر، بنحو 25 مليون شخص، أي ربع السكان، وأضاف أن ثلث هؤلاء المرضى يعالَجون بسرعة، والثلث الثاني يصابون بالاكتئاب المتكرر، والثلث الأخير يكون الاكتئاب لديهم مزمناً
ليست وحدها
تشهد مصر في السنوات التالية على ثورة 25 يناير اتساعاً في حجم الدوائر المدركة لأهمية الصحة النفسية. ولكن مع انتشار ثقافة العلاج النفسي؛ بدأت صور أخرى من الانتهاك في الانتشار، منها "أكواد لغوية" باتت وسائل الإعلام التقليدية والرقمية (السوشال ميديا) تستخدمها في تناول الاضطرابات النفسية، جرى من خلالها استباحة حق المرضى في التشخيص، واستخدام المعارف المحدودة لدى بعض من غير المتخصصين في نشر مفاهيم مغلوطة ومسيئة للاضطرابات النفسية والعقلية، إضافة إلى تحول تناول تلك الاضطرابات إلى "ترندات" تزيد من المشاهدات والتفاعل عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التقليدية.
ترافق هذا مع اتساع نطاقات انتهاك حق الأفراد في الخصوصية، لا سيما من يعانون الاضطرابات النفسية منهم، وأصبح "التاريخ النفسي" للمعروفين منهم مباحاً، خاصة إذا أقدم الشخص المعني على الانتحار، إذ تهمل وسائل الإعلام المملوكة للدولة وأذرعها الاقتصادية والأمنية، الأكواد التي وضعها جسم آخر من أجسامها وهو المجلس الأعلى للإعلام.
وتعد مصر هي الأولى عربياً في معدلات الانتحار وفق منظمة الصحة العالمية، التي ترصد أن أربعة من كل مائة مصري، أقدموا على الانتحار، في حين تشير التقديرات المحلية إلى معدلات أقل.
في مشهد لا يقل صخباً، احتفت وسائل إعلام مصرية بمشهد للمطربة نفسها على خشبة مسرح قرطاج في تونس، وهي تدعو طبيبها المعالج إلى بؤرة الضوء لتقدم له الشكر على مساندتها وتقديم خدماته العلاجية لها، في سلوك أثار حفيظة أطباء نفسيين
غض الطرف عن الانتهاكات
ما تتعرض له الفنانة شيرين وكثير من المصريين الذين يتم تداول كافة المعلومات عنهم وعن حياتهم الشخصية والتطرق من دون محاذير إلى صحتهم النفسية، أو تداول رسائل انتحار منسوبة إليهم بشكل يؤكد على عدم عافيتهم النفسية والاجتماعية- هو انتهاك قانوني وحقوقي صارخ بحسب ما تؤكده الدكتورة راجية الجرزاوي، الباحثة في ملف الصحة والبيئة بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
تقول الجرزاوي: "إن قانون حماية المريض النفسي هو قانون موجه للأطباء والعاملين في المنشآت النفسية، ويشمل دور الأطباء القانوني تجاه مرضاهم، أنه لا يحق للطبيب الإعلان عن تشخيص المريض لطرف ثالث إلا إذا كان المريض قاصراً، أو بناء على أمر قضائي حال ارتكاب أو تورط المريض في جريمة يشتبه أن يكون تورطه فيها له صلة باضطراباته النفسية، وحينها يكون الرأي موجه للجهة القضائية دون غيرها، ويحضر نشره أو استخدامه من دون قرار قضائي بالإفصاح، وتكون الجهة القضائية هي المسؤولة عن الإفصاح وليس الطبيب". وهو ما يؤكده رئيس الجمعية المصرية للطب النفسي في حديثه إلى رصيف22.
وتواصل الجرزاوي: "يُنتظر أن وسائل الإعلام تخضع لقواعد أخلاقية ومعايير إعلامية، ويفترض ألا تلجأ لأطباء أو معالجين لم يقوموا بفحص الشخص وإخضاعه للاختبارات التي تؤهلهم لتشخيصه، كي يحكموا على حالته النفسية أو العقلية، هذه ممارسة غير مهنية من جانب الأطباء والإعلام معاً". مؤكدة أن الطبيب أو المعالج غير مصرح به تداول رسائل الانتحار على السوشال ميديا، "وتعد مخالفة مهنية".
وهو الأمر الذى علق عليه الطبيب النفسي، ورئيس الجمعية المصرية للطب النفسي، أحمد جمال ماضي أبو العزايم لرصيف22 قائلاً: "في العام 2020، صدر قانون حماية حقوق المريض النفسي، وتشكل المجلس القومي للصحة النفسية، ليكون هدفهما الأساسي حماية المريض وخصوصيته. وجزء أساسي من قَسَم الطبيب، ينص على إلزامه بألا يفشي أسرار المريض النفسي إلا أمام الجهات القضائية، لكن في حالة المخالفة؛ يحق للمريض أو أسرته أو الجمعية (جمعية الطب النفسي) أو نقابة الأطباء، أن يتقدم أيهم بشكوى أو تحرير محضر للطبيب بإفشاء أسرار المريض، ويخضع للتحقيق في النقابة أو أمام النيابة، لكن القانون الأساسي الحاكم للطبيب هو القسم وأخلاقيات المهنة والذي نسميه «قانون ضمير الطبيب»".
وينظم القانون ولائحته التنفيذية ما يترتب على مخالفة المعالج النفسي لأحكامه، فنص علي أنه إذا أخل المعالج النفسى بأحكام هذا القانون أو واجبات أو أخلاقيات المهنة، يحيله المجلس القومى للصحة النفسية إلى مجلس تأديب؛ يُشكَّل برئاسة رئيس الإدارة المركزية للأمانة الفنية للمجلس القومي للصحة النفسية. ويحق لمجلس التأديب بعد التحقيق مع المعالج النفسي وسماع أقواله أن يوقع عليه أحد الجزاءات التأديبية الآتية: الإنذار، الوقف عن مزاولة المهنة لمدة أقصاها ثلاث سنوات، إلغاء الترخيص، ولا يجوز له أن يتقدم بطلب الترخيص إلا بعد مرور خمس سنوات على الأقل".
لا يحق للطبيب النفسي تشخيص مريض عن بُعد من دون أن يكون قد فحصه شخصياً، ولا يحق له التصريح عن مرض أو اضطراب مريض لديه إلى طرف ثالث، ولا يجوز له الإفصاح إلا لجهات قضائية بناء على أمر عدلي، وفي سرية تامة
أكواد إعلامية
في سبتمبر/ أيلول الماضي، أصدر المجلس الأعلى للإعلام كوداً جديداً لتغطية حوادث الانتحار ومحاولاته، يتضمن معايير يجب مراعاتها أثناء النشر، منها وجوب تغطية هذه الحوادث في إطار تقديس الحق في الحياة، ولا يجب النظر إليها على أنها أمر طبيعي، لتجنب تأثُّر الجماهير بها، ويجب الحذر عند صياغة العناوين المتعلقة بها وعدم استخدام اللغة المثيرة أو الرنانة. بالإضافة إلى تجنب الضرر النفسي الواقع على ذوي المنتحرين أو الذين حاولوا إنهاء حياتهم، من جراء التغطية الصحافية أو الإعلامية أو النشر.
وتلفت الجرزاوي إلى ما تراه دوراً للإعلام في "توضيح الحالات النفسية المختلفة، ومدى تأثيرها على الأشخاص"، وأيضاً إزالة الوصمة عن العلاج النفسي، مما قد يساهم في تقليل نسب الانتحار بإدراك أهمية الذهاب إلى الطبيب النفسي، بالإضافة إلى أهمية التوعية بأشكال الخدمات التي يقدمها الأطباء النفسيون، وهو أمر يمكن تناوله أيضاً في الدراما، لكن بالطرق المناسبة.
الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، يجد أن:"حالات الانتحار الموثقة في الفترة الأخيرة التي تم تداولها على السوشيال ميديا من دون ضوابط إنسانية، جعلت التعامل مع الموت على أنه سلعة في سوق التفاعل واستخدم هذه الأخبار لزيادة الجدل والتشويق. ومع ازدياد حالات الانتحار في مصر، زاد من التساؤلات حول النظرة إلى الطب النفسي، وكيفية التعامل معه، " كوصمة عار" تصيب كل من يقترب منها.
معتبراً أن هناك: "سقطات مهنية واضحة تحدث في التعامل مع المريض النفسي في مصر خاصة إذا كان من المشاهير، مثلما حدث مع المطربة المصرية شيرين عبد الوهاب، خاصة أن علاقة الطبيب النفسي مع مريضه لا تسمح الحديث عن المريض أو الظهور معه في مكان عام أو خاص ولا تتعدى العلاقة مكان العيادة نهائياً".
المجلس الأعلى للإعلام المسؤول عن محاسبة وسائل الاتصال الجماهيرية التي تنتهك حقوق الأفراد، لا يتحرك إذا ما طالت الانتهاكات مواطنين غير محميين سياسياً
ويواصل فرويز: "بجانب ذلك فلا يمكن إنكار أن الامتنان شعور إنساني طبيعي جداً في العلاقة العلاجية، لكن استجابة المعالج لهذه الطريقة في التعبير عن الامتنان يتجاوز أخلاقيات المهنة وقواعدها، منها مثلاً أنه من غير المسموح بالتلامس بين المريض والمعالج ولو على سبيل الهزار أو التعبير عن الشكر".
النظر للطب النفسي
يعتبر هناك تأخر واضح في ثقافة الصحة النفسية في مصر، بحسب الدكتور علاء غنام، مسؤول الحق فى الصحة فى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية وخبير في إصلاح القطاع الصحي فيرى: "أن هناك قلة في الإمكانيات المادية المخصصة لخدمات الرعاية النفسية عموما فى موازنة وزارة الصحة -تصل نسبة الإنفاق على الصحة النفسية إلى نسبة ﻻ تتجاوز 2% فقط من مجمل الإنفاق الحكومى على الصحة- إلى جانب نقص أعداد الأطباء المتخصصين فى الرعاية النفسية ومساعديهم من مختلف التخصصات التمريض المؤهل وفق المعايير الطبية الدولية عموما أقل من 1000 طبيب نفسى فى كل القطاعات العامة والخاصة".
عام 2020، قدّر أستاذ الطب النفسي في جامعة المنصورة، محمود الوصيفي، عدد المصابين بالاكتئاب والأمراض النفسية، في مصر، بنحو 25 مليون شخص، أي ربع السكان، وأضاف أن ثلث هؤلاء المرضى يعالَجون بسرعة، ولا يُصابون بالاكتئاب مجدداً، والثلث الثاني يصابون به بشكل متكرر، وفي فترات زمنية مختلفة، والثلث الأخير يكون الاكتئاب لديهم مزمناً.
لكن لمياء لطفي، مديرة البرامج بمؤسسة المرأة الجديدة ترى " الشائع في مصر هو عدم الاعتراف بوجود ما يسمى بالصحة النفسية. فغالبية الشعب المصري لا يعترف بالمرض العضوي نفسه كي يعترف بالصحة النفسية، لكن يمكن القول أن هناك تقدم ملحوظ في الأجيال الجديدة لفكرة المعالج والطبيب النفسي هم يتساءلون ويطلبون الذهاب لأطباء نفسيين بالمؤسسة، ولمسنا ذلك في «المرأة الجديدة» وغيرها من منظمات المجتمع المدني التي تقدم خدمات التوعية والدعم. كما توجد قفزة نوعية عن الأجيال السابقة في هذا الاعتقاد".
وتشير لطفي، إلى أن المؤسسات الأهلية المصرية متفقة في معظمها على "كود"، يضمن سرية معلومات الحالات "لا نسأل عن الاسم نهائياً. ولا نقوم بتكويد وأرشفة الحالات بشكل يظهر اية بيانات شخصية، إذا ما احتاجت الحالة إلى مساعدة نفسية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع