بعد سنوات من الغياب، أعادت مارلين مونرو، أندور دومينيك، إلى الصنعة السينمائيّة، فكان فيلم "شقراء" المأخوذ عن رواية تحمل الاسم نفسه، لجويس كارول أوتس، باكورة أعماله المنتظرة. الفيلم الذي لقي تصفيقاً طويلاً بعد عرضه الأول في مهرجان البندقية السّينمائيّ، تعلّقت عليه أنظار عشّاق السينما حول العالم. لكن التقييمات النقدية والجماهيرية لم تصبّ في صالح الفيلم، عربيّاً وعالميّاً، فجاءت عكس التوقعات التي سبقت عرضه على نتفليكس. هكذا استقبل الجمهور الفيلم الذي اختار صنّاعه السباحة بعيداً عن تيار الأحكام الجماهيرية المسبقة.
"بلوند" ليس سيرة مارلين مونرو، بقدر ما هو فيلم عن قهر النساء واستغلالهن في صورة شقراء هوليوود الأجمل.
الفيلم كوجهة نظر
لست من أنصار الأفلام التي تكرّس النظرة الجماهيريّة لشخصيات المشاهير، ولا أعتقد أن مهمة السينمائيين ترسيخ الشخصية المفترضة في خيالات الناس عن أيقونات الفنّ والسينما والجمال، ولا إرضاء مزاجهم الشخصيّ، ولا حتى تقديم سيرة ذاتية تستدعي التعاطف والتأثّر والتصفيق. أحياناً تكون دوافعك في سرد سيرةٍ ما، هي الاشتباك مع الصورة المتخيّلة، وتحطيمها، أو تقديم جانب سيكولوجي للشخصيّة لا تلحظه عدسات المصوّرين، ولا يكون بالضرورة ممتعاً أو مرضياً للمشاهد الذي ينتظر فيلماً تقليديّاً مسلّياً من أفلام السيرة الذاتية الحافلة بالأحداث والإثارة والدراما. الأمر إذاً مرتبط بما تريد قوله، كصانع أفلام، عن حياة أشهر فاتنات هوليوود. هذا ما أتفهّمه في "بلوند". فالسينما في النهاية وجهات نظر، وهذا ما يقوله الفيلم، الذي لا يدّعي صنّاعه أنهم يقدّمون سيرةً ذاتيةً حقيقيةً عن حياة مونرو، إنما ومضات متخيّلة عن حياتها بعيداً عن الأضواء. فحتى التصوير في الفيلم، كخيالات، عزّز هذه النظرة.
لست من أنصار الأفلام التي تكرّس النظرة الجماهيريّة لشخصيات المشاهير، ولا أعتقد أن مهمة السينمائيين ترسيخ الشخصية المفترضة في خيالات الناس عن أيقونات الفنّ والسينما والجمال، ولا إرضاء مزاجهم الشخصيّ
هل ما يقوله منتقدوه صحيح؟
"بلوند" ليس سيرة مارلين مونرو، بقدر ما هو فيلم عن قهر النساء واستغلالهن في صورة شقراء هوليوود الأجمل. حياة الحسناء التي صنعتها هوليوود، وقتلتها ربما، سلسلة من الصفعات التي لا تنتهي، منذ ولادتها كطفلة منبوذة ومرفوضة من طرف والدها، ومكروهةً من جانب أمها التي وجدت في إنجابها سبباً لتعاستها. هو إذاً الإحساس بأن تكبر من دون حُبّ، مرفوضاً ومنبوذاً من أقرب الناس إلى قلبك، ثم تعيش عمرك وأنت تبحث في عيون النّاس عن الحبّ الذي تتوسّله في عينيّ أمك، أو تبحث في وجوه جميع الرجال عن وجه أبيك الذي لم ترَه قطّ. هكذا تعلّمت نورما جين، أو مارلين كما عرفتها هوليوود، أن تواجه ندبات قلبها، عاريةً، ومُباحةً لكل من استغلوا جسدها، كواحدة من أكبر ضحايا هوليوود السهلة. مارلين في فيلم أندرو دومينيك، ضحية دائمة، وشخصية مؤذية لنفسها، وأنثى تُسحق وتُذلّ وتُهان وتُشتم طوال الوقت من دون أن تمتلك إرادة الرفض أو التوقّف.
تقول مارلين في مذكراتها التي نُشرت بعد سنواتٍ من وفاتها: "نزوتي بأن أظهر عاريةً وأحلامي عن ذلك لم تتضمّن أيَّ شعورٍ بالخزي أو الذنب. الحُلم بالناس يتطلّعون إليّ جعلني أشعر أنّني أقلّ وِحدة. أظنُّ أنّي أردتُ أن يروني عاريةً لأنني كنت أخجل من ملابسي التي كنت أرتديها، فستانُ الفقر الأزرق الباهت الذي أبداً لا يتغيّر. أمّا حين أكون عاريةً، فأنا أكون مثل الفتيات الأُخريات، وليس مثل شخصٍ يرتدي الزيَّ الموحَّد للأيتام. هوليوود مكان سيدفعون لك فيه آلاف الدولارات مقابل قُبْلة، وخمسين سِنتاً من أجل روحك. كانت مكاناً بشريّاً أكثر منه جنةً قد حلمت بها ووجدتها".
كان الفيلم وفيّاً لكلمات مارلين تلك، بل كان في مطارح كثيرة تجسيداً لها. هو وثيقة إدانة لهوليوود. فما تراه أنت خطيئة تلك المرأة اللعوب التي سمحت لهوليوود باستغلالها، كان وسيلةً لاستجداء الحب والانتباه، وربما التطهّر من الإحساس العميق باليُتم والفقر والوِحدة. فبينما كانت تستجدي الاهتمام، لم تتوقف مارلين عن إيذاء نفسها، ففقدت السيطرة على إرادتها، وصارت شخصيةً تستحق الشفقة.
فبينما كانت تستجدي الاهتمام، لم تتوقف مارلين عن إيذاء نفسها، ففقدت السيطرة على إرادتها، وصارت شخصيةً تستحق الشفقة
حياتها بين اليتم والإجهاض
طوال الفيلم، كانت نورما جين تقاوم إحساسها بالاشمئزاز من مارلين التي هي عليها، تفشل. يشعرك الفيلم بأن مونرو كانت تدير شخصيتين في واحدة؛ أنثى معقّدة ومشوّهة تركت خيبات الطفولة آثاراً نفسيّةً جمّةً عليها، وأخرى بريئة ونقيّة وساذجة.
من هنا، كان الإصرار على مخاطبتها كل الرجال الذين ارتبطت بهم بـ"دادي". تلك الطفلة لم تكبر في داخل مارلين مذ فقدت حقها في أن تعيش طفولةً طبيعيّة.
مارلين التي نشاهدها في الفيلم هي رُكام بشري صنعه التحرّش والرفض والاستغلال واليتم والبحث الدائم عن السلام الداخلي دون جدوى. في مطارح كثيرة، تتلفّظ مارلين بعبارات التبرؤ من الدمية الهوليووديّة المزيّفة التي تراها لنفسها في شاشات عرض الأفلام. فمارلين التي صارت أيقونةً جنسيّةً في هوليوود، كانت تحلم بحياة عادية جداً. وربما لو نجحت في الإنجاب، لشاهدنا مارلين مختلفةً.
هكذا غاص الفيلم بهدوء في شخصية مارلين، وسبر أغوار روحها المتعبة بين ثنائية اليُتم والإجهاض. فمارلين التي لم تصبح ابنةً، فشلت في أن تصير أماً أيضاً، وهو الأمر الذي سحق فؤادها تماماً.
يشعرك الفيلم بأن مونرو كانت تدير شخصيتين في واحدة؛ أنثى معقّدة ومشوّهة تركت خيبات الطفولة آثاراً نفسيّةً جمّةً عليها، وأخرى بريئة ونقيّة وساذجة
علاقتها بكينيدي
من الفصول اللافتة في الفيلم، فصل تناول علاقة مارلين بالرئيس الأمريكي جون كينيدي، بطريقة غير مسبوقة. فاللقطة التي تجمع مارلين مع الرئيس الأمريكي، بكل ما تحمله من قهر وقسوة وإذلال لمارلين، كان لها ما يبررها في السياق. مشهد يُفصِح عن الحقيقة المقززة لرئيس أمريكا، ويوحي بكل عناصره بالإدانة الصريحة للنفاق الذي يجعل من مارلين عاهرةً ومنه رئيساً يحظى بالاحترام خارج حدود تلك الغرفة التي يحرسها حرّاس الفضائح. مشهد عن الذكوريّة المقرفة التي يمثّلها كينيدي وأمثاله في حياة شقراء هوليوود، ولقطة تفجعيّة على مارلين التي سمحت بإيذاء نفسها إلى هذا الحدّ. وكأنها تعاقب نفسها على ذنوب الآخرين. وهو ما أكد عليه أندرو دومينيك في أحد لقاءاته: "كانت مارلين شخصاً قويّاً، لكن مع نزعة تدميريّة للذات، وإن الادعاءات بأنها امتلكت السيطرة هي مجرد أوهام معاصرة عن موضوع تاريخيّ".
من الفصول اللافتة في الفيلم، فصل تناول علاقة مارلين بالرئيس الأمريكي جون كينيدي، بطريقة غير مسبوقة.
وحشية التصوير واستباحة الجسد
في المبدأ، يبدو أندرو محقاً في تصوير تلك الجوانب النفسيّة لدى مارلين، كنجمة سرقها الضوء وفشلت في استجماع نفسها، لكن الفيلم بالغ في استباحة خصوصية الجسد، فبدا مبتذلاً وقاسياً وساديّاً حينما كرّر مشهد اختراق رحمها. فبالرغم مما يحمله المشهد من دلالات، أعطت وحشية التصوير شعوراً منفّراً لدى كل من شاهد الفيلم.
لم يتوقّف الفيلم عند هذا الحدّ، فثرثر بصريّاً ليوصل الفكرة ذاتها غير مرة، وبالغ في استدعاء الإباحيّة، وهذا يعيدنا إلى حديث قديم جديد حول الحدود الرفيعة للسينما بين الاستثمار المشروع للجسد وبين استغلاله في مشاهد مجانيّة.
آنا دي أرماس ودور العُمر
تمثيليّاً، قدّمت الممثلة الكوبيّة الشابّة آنا دي أرماس، أداءً جيّداً في معظم فترات الفيلم، لكنها لم تنجح في إمساك الشخصية أو ضبط انفعالاتها على طول الشريط. تذبذب الأداء بين صعود وهبوط. لكن ثنائيتها مع أدريان برودي، الذي أدى دور زوجها الكاتب آرثر ميلر، كانت من أكثر محطات الفيلم إمتاعاً. بدا صدق أدريان التمثيليّ معدياً، وهو ما انعكس على أداء آنا في مشاهدهما المشتركة.
يقدّم أندرو دومينيك تحفةً سينماتوغرافيّةً، وكادرات مذهلةً، ولقطات تنافس صدق وحيوية المشاهد الأرشيفيّة السينمائيّة التي تختزنها ذاكرتنا عن مارلين، حتى لتشعر بأنها لقطات أحيت مارلين في جسد آنا دي أرماس
من ناحية أخرى، يقدّم أندرو دومينيك تحفةً سينماتوغرافيّةً، وكادرات مذهلةً، ولقطات تنافس صدق وحيوية المشاهد الأرشيفيّة السينمائيّة التي تختزنها ذاكرتنا عن مارلين، حتى لتشعر بأنها لقطات أحيت مارلين في جسد آنا دي أرماس.
في المجمل، قدّم الفيلم وجهة نظر محتملةً عن الوجه الآخر لـ"جميلة هوليوود"، الهشّة، التي عصفت بها رياح هوليوود وتركت طفولتها عليها كبير الأثر، لكنه بالتأكيد لم يقدّم سيرةً ذاتيةً أو يرضي فضول الكثيرين حول المفاصل الغامضة في حياة مارلين مونرو، وموتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...