هل تأتي فكرة "نهاية الرواية" من عالم ما بعد الخوف؟ فالمسح الشامل لأرض الألغام، ما بعد الحرب، يجعلها متاحة للانتهاك من الجميع بعد أن اندحر الخوف، ذلك الخوف الذي يجعل الناس يخشون دخولها.
إن فكرة اكتمال الشيء بتأهيله، ولو كان ذلك بالجثث، كفضاء المقبرة، ستدفعنا إلى المغادرة وفتح مقابر جديدة، بعد أن تصبح عملية فتح القبور ودفن الجثث الجديدة فوق الجثث القديمة أمراً مملاً. ماذا تفعل الرواية حين تكتشف أنها قالت كل شيء وكذّبت ميلان كونديرا وصارت تعيد إنتاج نفسها في نصوص أردأ كل مرة؟
هل الناقد كونديرا الذي قال إن أمامها الكثير من الذي لم تقله، كان شخصاً آخر غير كونديرا الروائي؟ هل يمكن أن نثق بالمبدع وهو ينظر للجنس الأدبي ويداه ملطختان بدماء شخصياته وأحضانه دافئة بأجسادها الحية؟
عادة ما يتساءل الروائي عن الثيمة التي سيطرقها، وبمجرد اتخاذ قرار الكتابة تتهاطل على ذهنه عشرات الأعمال التي تناولت الموضوع نفسه في أزمنة مختلفة، وفي محالة لتحصين قراره وتثبيته، يلوذ بالشكل الفني ويقذف من داخله كالأخطبوط دخاناً أزرق يسميه "أصالة التناول والمعالجة الفنية"، وهو بذلك مثل الطبيب المعاصر الذي يعتبر نفسه أذكى من الطبيب القديم، وهو يمد يده إلى العقاقير المستخلصة من الأعشاب التي كان الطبيب القديم يمد مباشرة نحوها.
ماذا تفعل الرواية حين تكتشف أنها قالت كل شيء وكذّبت ميلان كونديرا وصارت تعيد إنتاج نفسها في نصوص أردأ كل مرة؟
موت الرواية وبعثها
يرى ليزلي أراغون فيدلير Leslie Aaron Fiedler في مقاله "موت الرواية وبعثها"، أن الرواية ماتت لأنها تخلت عن صفتها كأدب شعبي:
"إذا كان على الرواية أن تموت لكي تبعث من جديد، فذلك لأن العديد من كبار كتاب هذا النوع، وفريقاً من النقاد المتنفذين، سعوا منذ قرن أو أكثر إلى نسيان أن الرواية في أكثر حالاتها صحة هي ضرب من الفن الشعبي.
فالرواية، كما وضعها ولأول مرة وإلى الأبد في منتصف القرن التاسع عشر، العبقري الخارق والمعادي للنخبة، صاموئيل ريتشاردسون، هي في الواقع أول نوع ناجح من ألوان الفن الشعبي، داخل ثقافة خاضعة لما تحت الأدب أو شبهه أو نظيره"، فهي "شكل فني ينحو نحو إلغاء الفارق بين ما هو أدبي وما هو غير أدبي".
إن اختفاء النوع قد يعود إلى نفس الظروف التي جعلته ينشأ، فتغيير نمط العيش قد يجرّ بعض المجتمعات إلى أن تفقد أدواتها التعبيرية كالرواية. إن سبباً من أسباب انتشار النثر وتفوقه هو التمدّن، فلا رواية ولا قصة قصيرة ممكنة في غياب المطابع، خلافاً للشعر الكلاسيكي الذي تمكن لقرون من العيش والتطور في ظل ثقافة شفوية، وفي أرض قاحلة أو في ظل الترحال. من هنا يمكن أن نفهم معنى "مدينية الرواية"، فهي وإن كتبت في الريف أو عنه فإنها لن تنتج إلا في المدينة.
ويضيف فيدلر "لقد كان تطور الرواية منذ البداية، وظل منذ ذلك الحين، مقترنا في صميمه بتطور التكنولوجيا الحديثة والوسائل الحديثة للتوزيع الجماهيري، فمصيرها يعتمد على الآلة والسوق، وليس على نمو الموهبة والإدراك لدى بعض المنتجين المنعزلين الذين يساندهم مشجعون منعزلون أيضاً.
إن سبباً من أسباب انتشار النثر وتفوقه هو التمدّن، فلا رواية ولا قصة قصيرة ممكنة في غياب المطابع، خلافاً للشعر الكلاسيكي الذي تمكن لقرون من العيش والتطور في ظل ثقافة شفوية، وفي أرض قاحلة أو في ظل الترحال
كانت الآلة الطابعة أول ابتكار للإنتاج بالجملة في حضارتنا، وكانت الرواية أول شكل أدبي ابتكر ليُعاد إنتاجه في مطابع غوتنبرغ، ولم تكن شكلاً أدبياً دُفع إلى المطبعة بعد أن ابتكر، لينقله الرواة مشافهة أو يسجل في نسخ المخطوطات بعد عناء بالغ". وإذا استبعدنا الكوارث التي يمكن أن تعيدنا إلى ما قبل المطبعة وتخطينا هذه الفكرة الديستوبية، فما الذي سيجعل الرواية تموت؟
إذا كانت الرواية، كما يؤكد ليزلي أراغون فيدلير منذ قرن، "لا تنتسب إلى ما سبقها، بل إلى ما لحقها من رسوم هزلية وكتب هزلية، وسينما وتلفزيون"، فإن الرواية اليوم يأكلها كتّاب الدراما والمسلسلات والسينما عبر الآلة نفسها، وهي الصناعة، حيث تستعين شركات إنتاج الدراما اليوم بمصانع تفريخ الأفكار، متمثلة في الموهوبين، لإنتاج الحبكة والتشويق، ولم يعد يعنيها المؤلف الذي مات بالفعل، لا لصالح المخرج بل لصالح المنتج.
نتفليكس أعادت الرواية إلى بعدها الشعبي
فأصبحنا اليوم نتحدث عن أعمال نتفليكس، فهذه العلامة المنتجة هي التي تحدد قيمة العمل وليس منتجو نصه أو مخرجوه. إن إقدام المنتج المصري محمد السبكي مثلاً، على إخراج فيلم "حديد" دون أن يحمل شهادة إخراج، لم يمنع الفيلم من الظهور وتصدر قائمة الأفلام الأكثر إيراداً لوقت معين، وليكون من ضمن باقات تعرضها الخطوط الجوية العربية الفاخرة.
وصرنا اليوم نشاهد أفلاماً لكل من هب ودب، حتى من الشعراء والروائيين أنفسهم، وأصبحنا أمام هويات جديدة يرفعها هؤلاء في سيرهم مثل "كاتب وفنان بصري."
يبدو أن نتفليكس ، هي التي أعادت الرواية إلى بعدها الشعبي، فتعرّفت الجماهير التي لم تفتح كتاباً من قبل على الكاتبة مارغريت أتوود، رائدة تيار ما بعد الحداثة في العالم، عبر مسلسل "حكاية جارية" The handmaid’s tale
يبدو أن نتفليكس مثلاً، الشركة الترفيهية الأمريكية التي أسسها ريد هاستنغز ومارك راندولف في 29 آب/أغسطس 1997، هي التي أعادت الرواية إلى بعدها الشعبي، فتعرّفت الجماهير التي لم تفتح كتاباً من قبل على الكاتبة مارغريت أتوود، رائدة تيار ما بعد الحداثة في العالم، عبر مسلسل "حكاية جارية" The handmaid’s tale المقتبس من روايتها بنفس العنوان، ويستعدون لمسلسل " المدعوة غريس" المقتبس بدوره من رواية بنفس العنوان.
فالدراما تنزل النص الروائي من نخبويته ليصبح متاحاً للعموم وللجماهير وهذه الأعمال تنجح بقدر انتهاكها لأدبية النص الأدبي، أي بقتله، لذلك لم تنجح كل اقتباسات دون كيشوت للسينما، لأنها ظلت تبحث طوال الوقت ما يحفظ لهذا النص الأدبي العظيم مكانته الفنية، مع أن نجاحه في عصره جاء من شعبيته ومن لغته الشعبية التي كتب بها. غير أن ترجمته إلى اللغات وترجمته إلى السينما والمسرح، حالا دون نجاحه جماهيرياً، وربما نجح فقط في الكرتون للأطفال لأن منتجي تلك الأعمال تحرروا من العبء الفني.
إن نشر الصفحة الرسمية للسفارة الأمريكية بالجزائر تهنئة للروائي الجزائري ياسمينة خضرا، بمناسبة اختيار شركة نتفليكس روايته "الاعتداء" لتحويلها إلى مسلسل سنة 2022، يمكن أن يفسر سطوة هذه الشركة والتلفزيون الجديد عامة، فقد تحول إلى أداة للدعاية السياسية والدبلوماسية على أعلى مستوى.
هذا الإعلان جعل النقاش يحتدم مرة أخرى حول مقدرة الروائي الجزائري المقيم بفرنسا، وجرّ النقاش أعماله ومواضيعها ونظرته للقضايا الإنسانية الكبرى، ومنها القضية الفلسطينية، ليكون محل تنازع بين مؤيد ومشكك، حسب خلفيته الإيديولوجية.
إن نشر هذه التهنئة على صفحة السفارة الأمريكية في الجزائر، أهم دول ما يسمى" الممانعة"، لا يمكن أن يكون بريئاً بالرجوع إلى أحداث الرواية التي تطرح قضية العمليات التفجيرية في إسرائيل. ظهرت التهنئة أيضاً في وقت حرج جداً، أي إثر مصادمات2021 بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وقد سبق أن أثارت الرواية نفس الضجة، متوجهة بالاتهام نحو المخرج اللبناني زياد الدويري، بسبب تصويره لجزء من الفيلم في إسرائيل.
فقد اختطف المخرج اللبناني، صاحب فيلم "الصدمة" المقتبس من رواية ياسمينة خضرا، من مطار بيروت وسُلب جواز سفره الفرنسي وجوازه اللبناني لينقل مباشرة إلى المحكمة. صحيح أن المحكمة برأته من تهمة التطبيع، لكن الإعلام جرمه وظل يحرض عليه إلى اليوم ويلاحق أعماله.
الدراما تنزل النص الروائي من نخبويته ليصبح متاحاً للعموم وللجماهير وهذه الأعمال تنجح بقدر انتهاكها لأدبية النص الأدبي، أي بقتله
وصول ترامب إلى الحكم جعل القراء في أمريكا وكندا يعيدون قراءة رواية "حكاية جارية" لمرغريت آتوود، التي رآها القراء استباقاً لما يمكن أن يحدث في أمريكا في السقوط في نظام شمولي ذكوري، لذلك تقول مارغريت أتوود دائماً، وفي نبرة ساخرة، إن ترامب ساهم في ارتفاع مبيعات الرواية بشكل كبير والاهتمام بها من جديد، فقد كانت الديستوبيا التي كتبتها عن سقوط أمريكا في قبضة الدكتاتورية الذكورية شبيهة بتوقعات الناس من هذا النظام الذي يريد ترامب إرساءه.
ونفس الشيء حدث مع رواية "1984" لجورج أورويل، مع بداية انقلاب عبد الفتاح السيسي على محمد مرسي وتصفية الإخوان المسلمين، فقد شكّلت تغريدات المصريين على تويتر من رواية "1984" انفجاراً كبيراً في إعادة تلقي الرواية بمصر، ما جعل حركة القرصنة تنشط ليل نهار لمدة أشهر، وأعيد إطلاق الرواية في العديد من دور النشر.
كانت عوالم الرواية كما تظهر في الاقتباسات تقول إن ما يعيشه المصري مطابق لشعب 1984، المراقب بطريقة ميكروسكوبية من نظام قمعي وحش: الأخ الأكبر.
الروايات الكلاسيكية والسياسة
إن المتأمل في ظاهرة عودة الروايات الكلاسيكية كل مرة إلى السوق، سيكتشف أن السياسة، الداخلية أو الدولية، هي التي تعيد إحياء الرواية وتوظيفها، وليس وعي الجماهير(القراء) واكتشافهم لقدرة الكاتب الأدبية. فالجماهير اليوم تدّعي معرفتها بالأعمال الأدبية بمجرد مشاهدتها في التلفزيون.
وصول ترامب إلى الحكم جعل القراء في أمريكا وكندا يعيدون قراءة رواية "حكاية جارية" لمرغريت آتوود، التي رآها القراء استباقاً لما يمكن أن يحدث في أمريكا في السقوط في نظام شمولي ذكوري
إن الجماهير يتهيأ لها أنها قرأت الروايات التي شاهدتها أو سمعت عنها. فاعتقاد الجماهير بمعرفتها بالروايات هو الذي يعجّل بنهاية الرواية. جلّ الجماهير العربية تتحدث عن معرفتها بالروائي غسان كنفاني، ولكن مجرد اختبار صغير للمعرفة عبر سؤال عن النصوص، سيكشف لنا أن أغلبية اللاهجين بذكره، بمناسبة وبدون مناسبة، يعرفون فقط الاسم، وحفظوه عن ظهر قلب دون أن يفتحوا كتاباً له.
هم أصلاً يعرفون القضية التي ارتبط بها مع أنهم لا يعرفون حتى موقفه من عناصرها، كموقفه من الفصائل الفلسطينية ومنظماتها، والتي تظهر بوضوح في يومياته الساخرة. لا يعلم الذي يهتفون باسم كنفاني أنه كان عبر أعماله يحارب أيضاً فساداً فلسطينياً داخلياً. ويظهر ذلك الجهل جلياً في موقفهم من أي كاتب آخر يردد نفس الكلام الذي يقوله غسان كنفاني نفسه.
إن الرواية المنتهكة بكثرة منتجيها، كتّاباً وناشرين، تعيش اليوم حالة من الفيضان الديستوبي الذي يجعل الحكايات تتعفن مثل الأجنّة في أرحامها. لقد شاخت الرواية لأنها لم تتجدّد منذ عقود، وصارت تأكل نفسها في رواية ما بعد الحداثة من جهة، وفي التخييل الذاتي من جهة أخرى. لقد فقدت الرواية لياقتها وصارت في خريف العمر، فهل يكون التخييل الذاتي هو الوريث الشرعي لميراث سيرفانتس أم أن نتفليكس قد جعلت فعل الكتابة نفسه في خطر؟
يقول هاروكي موراكامي في كتابه السيري عن "الركض والكتابة": كنت أتدرب بنفس القدر كما في السابق، ولكني وجدت صعوبة متزايدة في الاستراحة لمدة ثلاث ساعات وأربعين دقيقة. استغرق الأمر مني خمس دقائق ونصف للعدو كيلومتراً واحداً، وكنت أقترب شيئاً من علامة الأربع ساعات لإنهاء سباق الماراثون. بصراحة، كان ذلك بمثابة صدمة.
ماذا كان يحصل هنا؟ لم أكن أعتقد أنه كان بسبب تقدمي في السن. في الحياة اليومية لم أشعر أبداً أنني أضعف جسدياً. لكن بغض النظر عن مدى إنكاره أو محاولة تجاهله، كانت الأرقام تتراجع، خطوة بخطوة". ربما هكذا هي الأجناس الأدبية أيضاً لا يأخذها الازدهار كل يوم إلا إلى حتفها، حيث تتكاثر وتنجح وتسيطر وتستحوذ على الزمن، كما "الرواية" حتى تصل إلى ذروتها، ثم تبدأ في الانحطاط والتراجع وتضمحل، لتظهر أجناس أخرى أو أنواع أخرى شبيهة بها، وليست هي أبداً كالنوفيلا والمتتالية السردية.
إن المتأمل في ظاهرة عودة الروايات الكلاسيكية كل مرة إلى السوق، سيكتشف أن السياسة، الداخلية أو الدولية، هي التي تعيد إحياء الرواية وتوظيفها، وليس وعي الجماهير(القراء) واكتشافهم لقدرة الكاتب الأدبية
إن تواصل ظهور الكتب التي تستحوذ على علامة "رواية" لا يعني أبداً أن الرواية بصحة جيدة، ولا يعني حتى أنها مازالت على قيد الحياة. إن قولك "ديناصور" لا يعني أن الديناصور مازال موجوداً.
ولكن ما الذي فعله المخرج الأمريكي كوينتين تارنتينو عندما نشر رواية تروي نفس أحداث فيلمه ذائع الصيت "حدث ذات يوم في هوليوود"Once upon a time in Hollywood والذي طرحه في السوق سنة 2019؟ هل كان يمارس أسلوبه الساخر ليستهدف الرواية أم السينما؟ كان تارانتينو قد وعد أنه سيتخلى عن صناعة السينما بالتقاعد المبكر، وأنه سيغادر عالم السينما في ذروة عطائه.
فهل يقصد بذلك أن فن كتابة الرواية هو فن التقاعد، فن صناعة الجرائم على الورق دون حاجة لرؤية الدم أو الايهام به؟ أليس في هذا التأويل شيء من الإحالة على عالم الجنس وأن الرواية فن الشيخوخة والاستعارة؟ يجرنا هذا التأويل إلى إعادة قراءة البريطاني كلمة كولن ولسن: "الرواية واحدة من أكبر التعويضات الممتعة التي استطاع الإنسان ابتكارها لحد الآن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...