هيمنت الكاميرا منذ اختراعها على الحياة اليومية، وتحولت إلى أداة ديمقراطية لإنتاج الصور، يمكن لأي شخص أن يمتلكها وإنتاج الصور التي يريد!
إلى جانب تغييرها طريقة تعاملنا مع الواقع والحقيقة والتاريخ والفلسفة والفن..، ما جعلها اختراعاً يشابه المطبعة في تأثيره، فكل شيء له قرين فوتوغرافي، قابل للاستعادة والتبادل بدون هالة أصيلة، كما يمكن مشاهدته في أي مكان، وامتلاكه واستنساخه إلى ما لا نهاية.
إثر ارتباط الصورة بالحقيقة، ساد اعتقاد شائع أن الفوتوغرافيا أكثر الوسائط "عدالة"، هي قادرة على "التقاط" الواقع كما هو، لكن، هي تلقط "واقعاً" ما، إذ لا صورة بدون سياسة ورائها، فلا صورة بريئة ولا مصور حياديّ، أو كما تقول تقول جيزيل فروند: "العدسة، تلك العين التي تدّعي العدل، تسمح بكل التشوهات الممكنة للحقيقة".
هذا اللاحياد يعزى إلى خصوصيّة تاريخ السينما والتصوير، كونهما قائمين على التكرار وتحويل التجربة إلى عرف، فنوع اللقطة والضوء والظل والمنظور، وعمق المجال، ذات معان جماليّة وسياسيّة، قد لا ندركها حالاً، لكن تأثيرها محفور في عقولنا بسبب انتشارها الهائل.
يكفي خطأ واحد في أحد هذه "التقنيات" حتى نشعر بأن هناك خطب ما، فكما نتمرن على فهم اللغة ودلالاتها، نحن نتمرن منذ الصغر على فهم الصورة ومعانيها، فالصورة التي كانت في البداية سحراً وشعوذة، تحولت إلى لغة ذات معان وبنية معرفيّة.
"الصورة" التي كانت في البداية سحراً وشعوذة، تحولت إلى لغة ذات معان وبنية معرفيّة.
إثر ارتباط الصورة بالحقيقة، ساد اعتقاد شائع أن الفوتوغرافيا أكثر الوسائط "عدالة"، هي قادرة على "التقاط" الواقع كما هو، لكن، هي تلقط "واقعاً" ما، إذ لا صورة بدون سياسة ورائها، فلا صورة بريئة ولا مصور حياديّ، أو كما تقول تقول جيزيل فروند: "العدسة، تلك العين التي تدّعي العدل، تسمح بكل التشوهات الممكنة للحقيقة".
هذا اللاحياد يعزى إلى خصوصيّة تاريخ السينما والتصوير، كونهما قائمين على التكرار وتحويل التجربة إلى عرف، فنوع اللقطة والضوء والظل والمنظور، وعمق المجال، ذات معان جماليّة وسياسيّة، قد لا ندركها حالاً، لكن تأثيرها محفور في عقولنا بسبب انتشارها الهائل.
يكفي خطأ واحد في أحد هذه "التقنيات" حتى نشعر بأن هناك خطب ما، فكما نتمرن على فهم اللغة ودلالاتها، نحن نتمرن منذ الصغر على فهم الصورة ومعانيها، فالصورة التي كانت في البداية سحراً وشعوذة، تحولت إلى لغة ذات معان وبنية معرفيّة.
هل يحب الديكتاتور الأطفال؟
التقط هنريك هوفمان المصور الشخصي لأدولف هتلر نحو مليوني صورة للفوهرر، الذي كان يقيم جلسات تصوير مكثفة يؤدي بها أمام الكاميرا، لرسم صورته في ذاكرة الجميع. سعت الصور حينها لوضع الزعيم في موقع لا يصله أحد، وإن كان يمر وسط الجماهير، فعليه أن يكون على مقربة محددة، بحيث يبدو قريباً للعين وللمس، وفي ذات الوقت بعيداً عن المنال، فالإضاءة مصدرها الزعيم، بينما الجماهير تقبع في الظلمة، ينيرها فقط ما ينعكس من هالته. تظهر الصُور هتلر في منتهى الحماس والقوة، رشيقاً، متزناً، هو مستمعٌ جيد وصديقٌ مهموم، يخطط بحنكة في ثكنة عسكرية، ودائماً في مقدمة الصورة والجميع يهرول خلفه، وخلال زيارة موسيليني الفاشي الإيطالي إلى ميونيخ، عام 1937، أظهرت الصور أن هتلر يسير بالمقدمة لعكس صورة ذهنية أن النازية هي الرائدة للفاشية، لكن نسخ الـ"نيجاتيف" تكشف كيف عدّل المصور ما كان يحدث حينها، فموسيليني وهتلر كانا يسيران على المستوى نفسه. يحرص الفوهرر أيضاً على التقاط الصور مع الأطفال، يضحك معهم، يحنو عليهم، يلاطفهم، يحملهم بحنان بالغ، وهذا ما نراه في الصورة مجهولة المصور التي التقطت للفوهرر في عيد ميلاده الخمسين مع الأطفال عام 1939، الصورة التي تبدو بريئة في البداية، تكتسب معناها من تاريخ هتلر وما ارتكبها من جرائم، لكنها تبدو عفويّة غير مخطط لها، فتحمل معان مضادة للتأليه. هي حيويةّ ونرى فيها الزعيم بوصفه مشابهاً لنا، ذا حياة يوميّة، يمتزج فيها القائد والإنسان، نحن أمام جسد الزعيم الحقيقي وبراءة الأطفال من حوله، ما يخلق حساً بالتعاطف، يتجاوز المعلومات التاريخيّة عنه، وفعل القيمة العاطفيّة للصورة، ويخلق دراما ترتبط به، بوصفه رجل من الشعب يشبهنا ويحمل ذات قيمنا.نجوم الصور الفائقة
التقطت عدسة الأمريكي بيرت ستيرن (1929-2013) مارلين مونرو للمرة الأخيرة قبل وفاتها، وذلك في آخر جلسة تصوير أقامتها لصالح مجلة فوع عام 1962. الصور التي انتشرت كلها عام 1982 ضمن كتاب بعنوان "الجلسة الأخيرة"، تكشف لنا عن آليات صناعة الأيقونة، والمدى الذي تساهم فيه تقنيات الكاميرا واستخدامها في خلق متخيلنا الذاتي عن أجسادنا، وعن الصورة المثالية لها. المميز في مجموعة الصور التي لم تنشر حينها، أننا نكتشف ندبة لمارلين مونر على الجانب الأيمن من خاصرتها، بسبب عملية الزائدة التي أجرتها في الخمسينات، العيب البشري أخفته الكاميرا في الصور التقليديّة لخلق أيقونة الجنس والإثارة. الأمثلة على تقنيات الإخفاء هذه كثيرة، فالتحديقة الذكورية في الصورة تصادر جسد الأنثى، وتحوله على مساحة شهوانيّة لخلق الرغبة، هذه الصورة المثالية وهميّة، تخلقها عدسة الكاميرا وسياستها، وتفعل الرغبة لدى الكثيرات لمطابقة هذه الصورة، لنرى عمليات التجميل وتغيير الشكل التي يسعى فيها "الطبيعي" إلى محاكاة "المثالي" المصنّع خصيصاً ليكون شهوانياً. صناعة "الجمال" التي أنتجتها الصور مرتبطة بمعايير الشهوة الذكوريّة، التي توظف قدرة الكاميرا على التلاعب وتعدي "الحقيقي" نحو ما يطابق فانتازماتها، ما يغير المعيار الواقعي والحياتي، بسبب تراكم عدد هائل من الصور المعدّلة والمتلاعب بها والتي يسلّم بها على أنها "حقيقة".كيف تتحول الصورة إلى أيقونة، تخزن داخلها مفهوماً كاملاً، أو تحاكي مثالية وهمية مفصلة على مقاس معايير الشهوة الذكوريّة
كل شيء له قرين فوتوغرافي، قابل للاستعادة والتبادل بدون هالة أصيلة، كما يمكن مشاهدته في أي مكان، وامتلاكه واستنساخه إلى ما لا نهاية
المؤلف خارج النص
يحضر أثر الكاميرا ولغتها ضمن عوالم الثقافة. وهذا ما نراه في مقال لرولان بارت باسم "الكاتب في إجازة"، يناقش فيه كيف تخلق الصورة حضوراً مختلفاً للمؤلف، وتفعّل هالة حوله، فهو تبني مفهوم الإجازة، التقليد الثقافيّ والاجتماعيّ المرتبط بالعمل. لكن الكاتب عامل مزيف و يأخذ إجازة مزيفة، كون مهنته وجهده الداخليّ، لا يتغير خارج وأثناء زمن الكتابة. هذه الصورة تخلق تناقضات في شخص الكاتب، وكأنه بحاجة لإجازة من "ربة الكتابة" التي تسيطر عليه طوال الوقت ويمكن أن تنفلت منه لـ"يكتب"، كأنه كائن أسطوري من نوع ما، لتأتي الصورة بوصفها وسيلة لجعله من لحم ودم، مع ذلك تحاول الصورة جعله ذا جوهر مميز، حياته اليومية والنبيذ والجبن وما يفضل أن يفتتح بصباحه، قد تكون إلهاماً له، بالتالي للمشاهد، وهنا تبرز أهمية الصورة في منح الكاتب لمسة سحريّة تغير جوهر الأشياء. هذه الصور التي نتلمس فيها حياة الفنان أو الكتاب، تبدو في بعض الأحيان مبالغ بها، بل مبتذلة، كأن نرى كيف يشرب بيكاسو الشاي، أو كيف يتمشى بالشورت، إذ لا ندري ما هي القيمة "الأدبيّة" أو "السحر" الذي يمتلكه سليم بركات في صوره في حياته اليومية وهو يرتدي "قميصاً شيالاً"، هل القميص جزء من عملية الإنتاج الأدبيّ، هل تحمل صورة الكاتب في حياته اليوميّة قيمة أدبيّة أو بعداً نقدياً، أم هي مجرد محاولة لإكسابه هالة بوصفه مختلفاً عنا، نحن الذين نرتدي ذات "القميص الشيال" بصورة يوميّة أثناء تنظيف المنزل.إيلان و"اللعب" على الشاطئ
لا يحضر الجهد المبذول لصناعة الصورة في النتيجة النهائيّة، هذا الجهد قد لا يكون فقط تقنياً مرتبطاً بآلة التصوير نفسها وأسلوب استخدامها، بل يمتد نحو تشكّيل الواقع نفسه، وتحويله ليصبح أيقونياً أمام العدسة، كوننا اعتدنا على تلقي الصور بطريقة محددة، ما يجعل علاقتنا مع ما نشاهده من صور وردود فعلنا تجاهها سابقة على الصورة نفسها، ولا بد من بذل جهد لتغيير الواقع لمطابقة تخيلنا عنه. وهذا ما حدث مع صورة الطفل السوريّ إيلان. يكشف هذا المثال على الرغم من مأساويته عن تقنيات "تعديل" الواقع ليطابق ما نتمناه في الصورة، هو أداء و إخراج من نوع ما لخلق "حقيقة" دراميّة. إذ تم تغيير وضعية جسد الطفل المتوفى على الشاطئ، ليبدو كأن العدسة التقطت هذه "المصادفة" والـ mise en scene المصنّع عفوياً، بوصفه رمزاً للمأساة السوريّة والعنف المواجه ضد الأطفال. لا نعني هنا أن صورة طفل ميت لا تثير العواطف، أو أنها ليست عار على الإنسانيّة بأكملها، لكننا نسائل هنا تلك الرتوش البسيطة لالتقاط الصورة المناسبة، إذ لا يكفي أن تكون الجثة في مكانها كما رماها البحر، بل لابد من موضعتها، وتوجيها، كي تتحول الصورة إلى أيقونة، تخزن داخلها المأساة السوريّة، وربما دون هذه "التعديلات" لكانت مجرد صورة أخرى مشابهة لآلاف صور الضحايا التي نراها يومياً.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...