عندما يمر أي من الأصدقاء بالعاصمة الفرنسية باريس، للزيارة أو العمل أو لأي هدف آخر، أكثر ما نخشاه كسوريين أو مشرقيي سوريا، لبنان، فلسطين، هو أن يطلب منا أن نصحبه إلى مطعم يقدم شاورما.
شعبية الشاورما بين العرب في أوروبا جارفة جداً، حتى أنها غريبة. في الشاورما لا توجد مكونات مميزة غير موجودة في المنزل، ولا إعدادها معقداً، ولا تكلفتها مرتفعة، لكن الحب الذي تحظى به يجعلها على عرش مأكولات الشارع العربية، الشرق أوسطية تحديداً.
ربما يعود الموضوع إلى طبيعة هذه الأكلة في البلدان العربية. فهي أكلة ذات طبيعة اجتماعية، وكانت جزءاً أساسياً من يوميات طلاب الجامعات، والعمال، وحتى لقاءات الأصدقاء، ما حولها بالمنفى بشكل أو بآخر إلى حالة نوستالجية، وحتى جزء من الهوية، لكن الصدمة الأولى في دول الشتات هي أن الشاورما ليست نفسها الشاورما التي نحب ونعرف.
الشاورما الفرنسية
في باريس، لا يسيطر العرب على سوق الشاورما، بل هو من نصيب الأتراك، وأكثر من ذلك بات لكل بلد أوروبي الشاورما الخاصة به وذلك ضمن تفضيلات الزبائن، فهل يوجد شاورما فرنسية؟ نعم يوجد.
في باريس، لا يسيطر العرب على سوق الشاورما، بل هو من نصيب الأتراك
خلال احتجاجات السترات الصفر في فرنسا، انتشرت جملة كتبها المحتجون على أحد الجدران تقول: "عاش الكباب ويسقط الكافيار". الكباب في فرنسا هو الشاورما أو على الأقل السيخ بشكله التقليدي، ويسمى كباب من المسمى التركي. فالشاورما في تركيا اسمها "دونر كباب" ومعناها بالعربي "كباب يدور". الاسم مشتق من حركة السيخ، وأغلب المراجع التاريخية تنسب الشاورما لمدينة بورصة التركية.
خلال احتجاجات السترات الصفر في فرنسا، انتشرت جملة كتبها المحتجون على أحد الجدران تقول: "عاش الكباب ويسقط الكافيار".
الشاورما التركية عموماً تختلف عن العربية بنوع التوابل وحتى محتويات التتبيلة، ففي تركيا لا توجد الصلصة الشهيرة "كريم الثوم" ولا يستخدم المخلل أو الكبيس، لكن الكباب في فرنسا ليس شاورما تركية.
يعتبر الكباب في فرنسا الوجبة الشعبية رقم واحد، رخيصة نسبياً لا تتجاوز في أحسن الأحوال ثمانية يورو للسندويش الواحد مع صحن بطاطا مقلية، لكنه لا يشبه أياً من الشاورما العربية أو التركية. فهو تجاري يصنع من لحم مخلوط من لحم الدجاج والديك ويستعاض عن الدهون الطبيعية فيه بدهون صناعية وقلما نجد كباب لحم غنم أو بقر في المحلات التي تقدم نفسها كمطاعم تركية. إلى جانب ذلك لا تجد في التتبيلة أياً من مكونات الشاورما التقليدية لأنها تحتوي على خس وبصل وبندورة مع صلصة من اختيارك والصلصات الأشهر هي، الصلصة الجزائرية، الصلصة البيضاء لبن وثوم ونعناع، هريسة وهي صلصة مغاربية حارة جداً، وساموراي وهي صلصة مجهولة النسب وهناك غيرها أيضاً.
لذلك لا نستطيع أن نقول عن سيخ "الشاورما" الذي يصادفك بكل شوارع باريس إنه شاورما تركية أو عربية أو أي جنسية أخرى، هو شاورما فرنسية، لا يمكن لك أن تجدها أو تأكلها إلا في فرنسا وبلجيكا، فحتى مطاعم الأتراك في باقي الدول الأوروبية تقدم الشاورما التركية بشكل مختلف.
شاورما المشرق في باريس
الشاورما المشرقية أو السورية - اللبنانية، انتقلت إلى باريس عبر المطاعم اللبنانية بالدرجة الأولى، فلبنان هو من يحمل لواء الشاورما والحمص والفلافل وغيرها، حتى إن بعض السوريين يطلقون على مطاعمهم اسم "مطعم لبناني" لأسباب تسويقية فقط.
هذه الشاورما أيضاً لا تتشابه مع الشاورما المحلية في لبنان أو سوريا، التوابل ذاتها والفرق فعلياً في شاورما الدجاج تحديداً بين سوريا ولبنان هو فقط كمية التوابل، في سوريا التوابل أكثر، أما في لبنان الثوم أكثر ضمن صلصة "كريم الثوم".
المختلف هنا أن معظم اللبنانيين لدواعي السوق غالباً قاموا بفرنسة الشاورما وأضافوا البندورة والخس أسوة بالأتراك. فتغير مفهوم الأكلة بحد ذاتها. كما تعاني معظم هذه المطاعم من أنها لا تقدم الطعام طازجاً، وهذا ما يجعل سؤال: "أين نأكل أطيب شاورما في باريس؟" سؤالاً ليس بسيطاً.
أطيب شاورما في باريس
لأن سؤال أين نأكل أطيب شاورما في باريس هو سؤال عميق ومتشعب وذو شجن في بعض الأحيان، توجهت به إلى أشخاص مختلفين بالاهتمام والاختصاص وتعددت أسباب عدم رضاهم، منها متطلبات السوق والمواد الأولية والجوانب التجارية المتعلقة بتقديم هذه الأكلة وكذلك توجيه اللوم لعدم اهتمام أصحاب هذه المطاعم بجودة ما يقدمونه.
عمر كوكش، صحافي سوري وصانع محتوى في التواصل الاجتماعي عن المطاعم في باريس، يناقش عدم قدرة الشاورما من دخول السوق الفرنسي ويقول: "الشاورما تقف خارج دائرة الأكلات الأجنبية الأكثر رواجاً في فرنسا مثل النان الهندي والأطباق الإيطالية، وذلك بسبب وجود الكباب التركي".
وعن أطيب الأماكن التي تقدم الشاورما يرشح لنا مطعم "شاورما لافرز" وهو مطعم سوري في وسط العاصمة الفرنسية ومطعم "ورق عنب" وهو في الضواحي الباريسية، لكن كوكش يؤكد أن هذه المطاعم لا تقدم الشاورما كما هي في مدينته دمشق، ولكنها أقرب ما يمكن إلى الطعم الأصلي.
من جانب آخر يرشح الصحافي اللبناني حسن مراد مطعم "البارون" في أحد تفرعات جادة الشانزيليزيه الشهيرة وسط باريس، لكنه يؤكد أيضاً إنها ليست شاورما لبنانية إنما أقرب ما يمكن لها.
برأي مراد، المواد الأولية تلعب عامل الحسم وذلك بدءاً من نوع اللحم المستخدم وصولاً لأدق التفاصيل، ولكن هذا ليس مبرراً كون حركة الاستيراد مع البلدان العربية نشطة جداً فيما يتعلق بالمواد الغذائية.
ويضيف: "يجب أن نسأل أيضاً عن اليد العاملة، هل من يقدم الشاورما في باريس هم محترفون في هذا المجال؟ غالباً لا، خصوصاً أننا نعرف أن مشروع مطعم في باريس هو مربح جداً، وكذلك لن يتشجع كثر على استجلاب طهاة محترفين لارتفاع تكاليف استجلاب يد عاملة من خارج فرنسا".
هذه النقطة يؤيدها الشيف محمد الخالدي، وهو طاهٍ سوري محترف يعيش في فرنسا، ويشير إلى عدم وجود العدد الكافي من محترفي الشاورما الذين يطلق على واحدهم بالعامية "معلم شاورما".
يشير الشيف السوري محمد الخالدي، إلى انعدام وجود العدد الكافي من محترفي الشاورما في فرنسا والذين يطلق على واحدهم بالعامية "معلم شاورما"
خالدي يرى أن معظم "معلمي الشاورما" السوريين لم يفضلوا الهجرة إلى أوروبا بل اختاروا دول الخليج ومصر وكوردستان العراق، حيث يستطيعون جني أرباح أكبر، ومن جانب آخر فإن معلمي الشاورما اللاجئين في أوروبا اختاروا الاستقرار في بلدان مثل ألمانيا بحكم توجه أغلبية السوريين إليها أكثر من قدومهم إلى فرنسا.
أما عن غياب الشاورما الأصلية عن مطاعم باريس فيقول الشيف خالدي: "الشاورما لا يمكن أن تخزن. لذلك تحتاج لحركة بيع كبيرة ومستمرة، وهذا ما يتطلب افتتاح مطعم في الشوارع الرئيسية الكبيرة وسط باريس، مما يجعل التكاليف مرتفعة جداً، وإلى اليوم لم يغامر أحد بهذا الأمر".
في سياق آخر تشتكي ميس وهي صحافية فلسطينية تعيش في باريس، من عدم ثبات المستوى في المطاعم التي تقدم الشاورما، وتشير إلى أن "شاورما لافرز" كان جيداً وكذلك "البارون" لكن هذين المطعمين لم يستمرا بتقديم نفس الأداء.
على الجانب الثاني يدافع اليوتيوبر اللبناني رامي يونس، والمختص في صناعة محتوى الطعام عن مطاعم الشاورما اللبنانية في باريس، ومع أنه يؤكد أنها لا ترقى إلى مستوى المطاعم في بيروت، يجدها جيدة ويمكن تقييمها بـ 6 أو 7 من 10.
ويقول يونس: "من الصعب تأمين نفس أنواع اللحم. وهنا أتحدث عن شاورما لحم الخاروف التي تبرز حرفية صناعة الشاورما. في فرنسا من الصعب تأمين عنصر مهم في هذه الشاورما وهو ليّة الخاروف التي تضيف مذاقاً خاصاً للشاورما".
"يصعب في فرنسا تأمين عنصر مهم في الشاورما، وهو ليّة الخاروف التي تضيف مذاقاً خاصاً". اليوتيوبر اللبناني رامي يونس، المختص في صناعة محتوى عن الطعام.
وعن المطاعم الأفضل في هذه الصناعة يرشح يونس مطعم "كاستي" في وسط المدينة، و"الأرز" في شارع موفتارد.
السفر إلى برلين من أجل الطعام
في فرنسا يحصل الطلاب على عطلة مدرسية أسبوعين كل شهرين ونصف، هذه العطلة تمثل فرصة الإجازات القصيرة التي يستغلها الكثير من المشرقيين في البحث عن الشاورما الأمثل، الأمر تجاوز باريس، نحن نبحث عن الشاورما في بقاع أوروبا.
بعض السوريين في باريس على سبيل المثال يقومون برحلات منتظمة إلى العاصمة البلجيكية بروكسل الجارة القريبة، هدفها الأول الأكل وذلك لاستقرار العديد من محترفي صناع أكل الشارع السوري في العاصمة البلجيكية.
وكذلك بسبب القرب الجغرافي قد يقصد البعض المدن الألمانية الحدودية مع فرنسا، والتي توفر أيضاً مطاعم شاورما سورية تحظى بصيت ذائع، ولكن سيدة الموقف في أوروبا هي العاصمة الألمانية برلين التي بدأ ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي بوصفها بـ "عاصمة بلاد الشام" لما تجمعه من جاليات سورية ولبنانية وفلسطينية كبيرة.
دافع السفر من أجل الطعام قد يكون أساسياً للبعض، هكذا يقول نائل، الطبيب السوري المقيم في باريس: "أنا من الأشخاص الذين قد يحسم خيار الطعام موقفهم تجاه السفر إلى مكان ما من عدمه، فما بالك بالشاورما، لقد سافرت إلى بروكسل من أجلها وطبعاً أسافر من أجل الطعام ".
ويؤيد عمر كوكش ذلك فيقول: "سافرت إلى بروكسل وبرلين من أجل الشاورما، وصول عدد من معلمي الشاورما إلى هناك جعل المهنة أكثر ازدهاراً من باريس، كما أني لاحظت أن المجتمع الألماني تقبل الشاورما أكثر من المجتمع الفرنسي، ربما لأن الألمان يستهلكون الدهون بشكل أعلى في طعامهم".
للشاورما قيمة أكبر من كونها وجبة طعام، فطقوس تناولها يجعلها تحتل مكانة في القلب مع ملعقة كبيرة من "كريم الثوم"، ولسعة حنين إلى الأسواق التي كانت رائحة الشاورما فيها جزءاً من الهواء الذي تتنفسه
يبدو بعد المسح والاطلاع أنه من الصعب العثور على مطعم شاورما جيد في باريس وهذا لا يلغي وجود العشرات من المطاعم السورية واللبنانية التي تقدم طعاماً جيداً، دون مقارنتها بقريناتها في ألمانيا أو بلجيكا وبالطبع بعيداً عن المقارنة بالطعم الأصلية في دول بلاد الشام.
في النهاية لا بد أن للشاورما قيمة أكبر من كونها وجبة طعام، فمن حيث المبدأ لا شيء لا يمكن إعداده في المنزل، لكن طقوس تناول هذه الأكلة يجعلها تحتل مكانة في القلب مع ملعقة من "كريم الثوم" يسيل لها لُعابك بعد أن تلسعك نارُ الحنين إلى تلك الأسواق التي كانت رائحة الشاورما فيها جزءاً من الهواء الذي تتنفسه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...