شتات العرب، أو عرب المهجر؛ عبارات توارت مع الحضور العربي في أوروبا، والهجرات المتعددة إليها، فغابت مع حسّها الجمعي فكرة الـ"غربة" القديمة، أو ربما سُكِّنت مشقّتها. المهاجر العربي، في بلاد أوروبية عديدة، لم يعد منسلخاً عن أبناء جلدته، أياً كان البلد الذي استضافه، لا سيما مع صبغة "أحياء العرب"، أو "شوارع العرب" التي استوعبتها بعض البلاد.
"ليبيا وسوريا دمرتهما الحرب، وأشعر أن كل سوري يشبهني! وعندما أحدّثه هنا أمام محل الشاورما... نتبادل معاً ذكريات أيام ما قبل الحرب".
شعور الغربة والوحدة لم يعد له تلك الوطأة الكبيرة. تناثر مع هذه التجمعات العربية، ومع أصداء عبارة "الوطن صار غربة" التي استساغها العرب داخل بلادهم الأم، وخارجها. تنوّعت هذه اللّمات العربية في أوروبا؛ تأخذ أحياناً شكل جلسةٍ في مقهى عربي استقطب روّاده بعبق معسّل النرجيلة العربية، أو عبر صرخات معلّقٍ عربي على مباراة أوروبية تلهب حماستهم، وأحياناً أخرى تطوف بهم فضاءات التواصل الاجتماعي المُعنونة بأسماء الجاليات العربية، بحثاً عن المساعدة والتسلية.
هنا في بودابست، اللّمةُ دسمة، ورائحتها أنفاس طهاةٍ زاكية، تفوحُ من مشواةِ مطبخٍ حلبي، نال منزلةً متفوّقةً بين محلات الشاورما العربية والتركية جميعها في هنغاريا، واسمه "لذيذة"، فقلّد المكان رُتبة منتدى عربي، وحوّل طابور الشاورما إلى ميدان حواراتٍ عربية يشتاق إليها المغترب، وإلى ملتقى يحتفي بأولاد البلد وبناته الذين لم يلتقوا منذ وقت طويل. لذلك، مهما طال موعد انتظارِ "ساندويشة" الشاورما، أو الفلافل، هناكَ من يكسرُ ملل الانتظار بسواليفَ تحملُ الكثير من الحميميّة البلدية، ووجبةً خفيفةً من طقوس الثرثرة العربية التي غيّبها نمط الحياة الغربي البارد والجاف، حسب رأي البعض.
الصورة بعدسة فارس زخور
دائماً هناك من تتحدث معه
يتلذذ عمار.ح (سوريّ من دمشق، 25 عاماً)، بنكهة الشاورما السورية، ويسافر على ظهر مذاقِها إلى حي الميدان الدمشقي، "الطعم والرائحة هنا يقاربان المشهد والحالة هناك"، ويضيف لرصيف22: "أَتَقَصّدُ أن آتي إلى هنا في أوقات الذروة، فالانتظار على طابور الشاورما لا يزعجني. حتى لو كنت وحيداً، أجد سورياً أو عربياً لنبدد بأحاديثنا مشقّة الانتظار!".
يُعبّرُ محمد. ك (30 عاماً)، الهارب من ليبيا منذ عشرة أعوام، عن حبّه للسوريين بعبارة: "الوجع مشترك"، ويضيف: "ليبيا وسوريا دمرتهما الحرب، وأشعر أن كل سوري يشبهني! وعندما أحدّثه هنا أمام محل الشاورما... نتبادل معاً ذكريات أيام ما قبل الحرب".
طقسٌ من النوستالجيا يحييه محمد وأصدقاؤه السوريون، عنوانه "بلادنا المنكوبة قبل الحرب"، سرعان ما يتحول إلى "جمعة عرب" قلّما عكّرها خلاف سياسي، أو تسرب إليها شرخ من شروخات السوريين والعرب.
يقول ماجد المصري (سوريّ من حلب، 41 عاماً): "حتى السوري الأرمني والتركي هنا، على وفاق. يديرون ظهورهم للخلافات السياسية، ويجدون فصلاً جميلاً من حكايات البلد، ليكون محور الحديث... وإن دارت نقاشات بين وجهات النظر هنا، تأخذ منحى تبادل خبرات العرب في الغربة، وصعوبات الحياة في المجر، وأخبار الهجرة العربية إلى أوروبا".
في بودابست، اللّمةُ دسمة، ورائحتها أنفاس طهاةٍ زاكية، تفوحُ من مشواةِ مطبخٍ حلبي، نال منزلةً متفوّقةً بين محلات الشاورما العربية والتركية جميعها في هنغاريا، واسمه "لذيذة"، فقلّد المكان رُتبة منتدى عربي، وحوّل طابور الشاورما إلى ميدان حواراتٍ عربية يشتاق إليها المغترب
سفرة متخيّلة
تصطحب أم محمد (سورية من دمشق، 54 عاماً)، الأولاد إلى هنا، في عطلة نهاية الأسبوع، ويكون المكان محطتهم الأخيرة بعد رحلة التسوق. أما وجبة الفلافل، فهي سفرة مخيّلة العائلة إلى استراحة سوق الشعلان في دمشق، التي اعتادوا ارتيادها، وتناول وجبة العشاء فيها، قبل الهجرة إلى أوروبا.
تقول أم محمد: "يشابه المكان زحمة سوق الشعلان؛ تسمعُ أحاديث المنتظرين بالعربية، وتتناولُ وجبةً لذيذةً، وأحياناً تتعرّف إلى أصدقاء عرب جدد"، وتشير بيدها إلى صديقتها نغم، وهي عراقية (41 عاماً)، التقت بها للمرة الأولى في طابور المحل.
نغم عاشت في سوريا عشرة أعوام بعد حرب العراق، ثم هاجرت إلى أوروبا. تأتي كل أسبوع إلى هنا، لتنعش ذاكرتها بمذاق "تبلة" اللحمة السورية التي اعتادت تناولها في منطقة جرمانا في ريف دمشق، وتدعو صديقاتها الأجانب إلى تذوّق أصناف المطبخ العربي... تعرّفت إلى أم محمد هنا في طابور المحل، وأصبحتا صديقتين تأتيان كل أسبوع تقريباً إلى المحطة الأخيرة بعد نزهة التسوّق.
الصورة بعدسة فارس زخور
مشاجرات المحاسبة
المشاجرات على صندوق المحاسبة هي لازمةُ الأغنية التي يغنّيها عرب المجر، بين جدران منتدى الشاورما هذا، وهو أكثر ما يربك صاحب المحل ومديره، محمد عبد الله (سوري من حلب، 24 عاماً)، الذي يقول لرصيف22: "يلتقي بعض السوريين والعرب هنا بعد انقطاع سنوات، وتبدأ رحلة المشاجرة، والتي تكون عنيفةً في بعض الأحيان، في سبيل دفع الحساب، وهو سلوك لا يقترفه إلا العرب. أشعر أحياناً بأنهم يمارسون من خلاله عادة إكرام الضيف العربية التي يفتقدونها هنا".
يتحدث محمد الذي يدير المحل مع إخوته منذ ثمانية أشهر، عن الحوارات التي تشوب المكان، ومحطات التعارف بين الأصدقاء، والمتحابين الذين كتبوا الفصول الأولى لعشقهم هنا: "كثيراً ما يجد سوريٌ حلاً لمشكلته هنا في طابور الانتظار، عبر مشورة من عربي آخر عانى سابقاً من المشكلة ذاتها... وفي إحدى المرات، تحوّل الطابور إلى "فزعة" أهل الخير والأيادي البيضاء، عندما جاء شاب عربي يطلب المساعدة لزميله في الغرفة الذي يعاني من مشكلة صحية، ليقوم الجميع بمساعدته عبر جمع مبلغ من المال".
محمد ورث المهنة عن أبيه الذي أسس أول مطعم عربي في بودابست عام 1997، وسرعان ما ذاع صيت محله ليستقطب الزبائن من أنحاء المجر كلها، ومن مختلف الجنسيات العربية والأجنبية
محمد ورث المهنة عن أبيه الذي أسس أول مطعم عربي في بودابست عام 1997، وسرعان ما ذاع صيت محله ليستقطب الزبائن من أنحاء المجر كلها، ومن مختلف الجنسيات العربية والأجنبية، ويشعر بالفخر لأن محلّه أصبح مقصداً للسوريين في المجر كلهم، وأشبه بمنتدى شامل يجمع العرب على أحاديث وحكاياتٍ تجنّبهم ملل الانتظار.
حتى العرب المنغمسون في المجتمع الغربي، والبعيدون عن نمط الحياة العربية وعاداتها، الذين يعتنقون منهج "بعّد عن العربي بالغربة"، لا يثير طابور الشاورما بصبغته العربية نفورهم، فيتشرّبون هذه التفاصيل العربية كوجبة خفيفة تكسر بشكل أو بآخر، روتين المجتمع العملي الجديد الذي صبغ سنواتهم الأخيرة. أما أولئك المهاجرون المستجدّون، فيجدون أنفسهم في المكان، أبطال مسلسل سوري اجتماعي، يرتدون فيه بزّتهم الـ"بلدية"، وينظمون خلاله "خبابير" وقصصاً تحمل نكهة التوابل الفوّاحة من الداخل ذاتها، حيث تُطهى لقمات تسدّ رمق الحنين إلى الوطن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...